الرسام جبار عبد الرضا... هيمنة البياض... من الانقطاع الشكلي إلى التواشج الإحداثي

12 يناير  .   3 دقائق قراءة  .    408

من أعمال الفنان جبار عبد الرضا

جبار عبد الرضا رسام متفوق من الناحية التقنية اللونية، ونشيط، ويتميز بشدة تحولاته بين الأساليب، بوعي مجرب، ينتمي لتيارات الحداثة بقوة، وتقترب أجواؤه من فن البوب، كانت آخر توجهاته في رسم غرف الاستقبال، التي يؤثثها بعناية ويطعمها بمساحات فارغة، بينما اتجه مؤخرا في معرضه المزمع إقامته خلال بضعة أشهر نحو استخدام مواد بلاستيكية تعطي اللوحة بعدا ثالثا ناتئا، وتدعو المتلقي أن يتفاعل مع هذا البناء النصبي أكثر مما يعتبر لوحة مسطحة أو ببعد ثالث وهمي، وبذلك فهو يلغي المساحة الفاصلة بين الرسم والنحت. إنه يحاول استثمار طاقته الضخمة على التلوين من خلال أعمال غنية باللون سواء تلك التي أنجزها بالزيت، او بالاكريليك، او بالأحبار الملونة، والمواد المختلفة، فقد استمر يؤثث مكان لوحته بإكسسوارات المكان المعيش، كراسي وأرائك وستائر ملونة بثراء وتقنية عالية، فجبار عبد الرضا، لا يتمكن من كبح جماح رغبته بالتلوين مهما كانت المادة التي يستخدمها ليطوعها لمقتضيات قدرته التقنية.

ويتفرد الرسام جبار عبد الرضا عن غيره من الرسامين بسرعة تحولاته الشكلية والرؤيوية، وبشكل يجعل من الصعب على النقد ان يلحق به ويتابع تحولاته المتلاحقة، خصوصا إذا أخذنا باعتبارنا طموحه في تقديم الجديد، و(الكسل) النقدي السائد والتقصير في متابعة التجارب الفنية من قبل النقاد. فبعد تجربته السابقة التي كرسها معرضه السابق، حيث قضى جبار عبد الرضا ردحا من الزمن يؤسس تجربته السابقة وهو يؤثث فراغات مشهده التصويري من خلال رسم غرف الضيوف الفارغة من الوجود البشري والمملوءة بقطع الأثاث التي تتخللها بثور أماكن فارغة بيضاء دون صبغة، تماما مثلما كان يفعل النحات الدكتور مرتضى حداد حينما كان يرسم، إلا أن جبار عبد الرضا، يخلّف تلك المرحلة وراءه، ويتجه الآن اتجاها قد يبدو مناقضا تماما لاتجاهاته الأولى، فهو يستعير مادة قد لا تنتمي الى مواد الرسم، بل هي في حقيقتها مادة نحتية ذات أبعاد ثلاثة تقلب جوهر اللوحة الذي تم الاتفاق عليه منذ قرون خلت.

من أعمال الفنان جبار عبد الرضا 

لقد كان جبار عبد الرضا الانقطاع (الفراغ) المتمثل بالفراغ البشري الذي يفتقده المشهد غرفة ضيوف فارغة مؤثثة إلا من أثاث (يأكله الفراغ)، بينما يوظف في تجربته الحالية ثيمة شكلية مناقضة (بل قد تكون متممة باعتبارها الجانب الآخر من العملة) لثيمة الفراغ (الانقطاع). إنها الاستمرارية التي تعني التواصل الخطي ، والشكلي ، وردم الانقطاعات أو اختفاؤها بفعل التوظيف غير الواعي للخبرة الحياتية والثقافية، باعتبارها جوهر التكوين الخطي الذي يجد صداه في التعاقب بين النقاط (الخط باعتباره حركة نقطة) منذ (بداية) الخط وحتى (نهايته) ، إنه تعاقب تكويني من النقطة التي هي أزل الخط، وحتى الخط (عالم البعد الواحد) مرورا بالسطح (عالم البعدين) وانتهاء بالحجم (عالم الأبعاد الثلاثة) ، وهي حركة متعاقبة لنقاط الخط من أجل تكوين السطح ليكون الخط أزلا للسطح باتجاه نهاية تحولاتها الشكلية المتعاقبة ، لنقاط الخط من أجل تكوين السطح ليكون الخط أزلا للسطح باتجاه نهاية تحولاتها الشكلية المتعاقبة ، إنها حركة متعاقبة لا تتوقف ، بل هي تمتد الى حركة نقاط السطح بأجمعها باتجاه تكوين الحجم (ثلاثة أبعاد) ، وبذلك تلعب محاور التكوين أثرها الحاسم في تحولات الأبعاد الخطية من النقطة ، حيث انتفاء المحاور إلى السطح حيث المحورين الأفقي والعمودي اللذين يحددان أماكن النقطة ومحاور حركتها بينما يدخلنا الحجم علاقات اشد تعقيدا حيث يدخل البعد الثالث ضمن محاور اللوحة (العمودي والأفقي) بظاهرة قد تصح تسميتها (التواشج الإحداثي) وبهذا ينتهك جبار عبد الرضا (قداسة) محاور اللوحة التي تناقلتها أجيال من الرسامين باعتبارها سطحا ذا بعدين مطليا بطبقة من الألوان ، مثلما انتهك الرسام محمد مهر الدين تلك القداسة في سبعينات القرن الماضي، حيث تتداخل تحولات النقطة (النقطة - الخط - السطح - الحجم) على سطح اللوحة بشكل يجعل منها نمطا اجناسيا عصيا على التجنيس ، قد تصح فيه كلمات هربرت ريد بأننا "قد اعتدنا أن نسمي كل الأعمال ذات الأبعاد الثلاثة في الفن التشكيلي (نحتا) . لكن الفترة الحديثة شهدت ابتكار أعمال ذات ثلاثة أبعاد في الفن التشكيلي ، لا يمكن أن نعدها (منحوتة) ، أو حتى مسبوكة ، إنها مشيدة ، كالعمارة ، او ربما مصنعة كالماكنة".

من أعمال الفنان جبار عبد الرضا 

إن هتك محاور اللوحة بشكل يدخل البعد الثالث ضمن محاورها يفرض تعاملا حسيا آخر معها ، فإن التعامل مع اللوحة - السطح (البعدين) يجعل من هيمنة العين هيمنة مطلقة باعتبارها بوابة التلقي لهذا النمط من الرسم ، بينما يفرض دخول البعد الثالث إلى اللوحة هيمنة نمط آخر من آليات التلقي يهدف الى إيقاظ "إحساس اكبر بالقيم الملموسة للنحت" ، باعتبار تلك الوسيلة الحسية ذات الأهمية المطلقة في تلقي النحت والمجسمات ، فالحقيقة الداخلية والمزايا الملائمة لفن النحت : كالإحساس بالحجم والكتلة ، والتفاعل مع الفجوات والنتوءات، والتمفصل الإيقاعي للمستويات والمحيطات ووحدة المفهوم ، ((ينبغي أن تدعونا للمس ، الأثر النحتي ، فهل يعني ذلك إن جبار عبد الرضا يفرض على المتلقي آليات تلقيه للأثر الفني ، وهل يدخل ذلك من باب الموجهات القرائية التي قد يبثها بعض الرسامين - الكتاب ، مثل الراحل شاكر حسن آل سعيد والرسامة هناء مال الله في تنظيراتهما التي ترافق أعمالهما ، فهل ستكون الأداة التعبيرية ، ونقصد منها هنا المادة وتشكلاتها ، هل يمكن أن تكون موجها للقراءة؟ وكيفما يكون شكل جوابنا على هذه الأسئلة فأن هذه القضية مختلفة تمام الاختلاف ، فحين يقع النقد في مجال خارج بصري ، تهيمن الاعتبارات الخارجية ، بينما على النقيض من ذلك حين تحتل المادة صلب و جوهر الرؤية البصرية للرسام ، فستكون الموجه القرائي الأول والأخير.

مجتزأ من كتابي (تشكيليو البصرة)

اسم الكتاب: تشكيليو البصرة

اسم المؤلف: خالد خضير الصالحي

الطبعة الاولى 2017

اصدار اتحاد الادباء والكتاب في البصرة

  1
  6
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال