20 مارس . 5 دقائق قراءة . 1246
تتمحور أعمال الفنان والناقد السوري المغترب عبود سلمان حول المرأة العربية وبالأخص الريفية، ومن هذه المرأة تتنوع الإضاءات الثيمية في أعماله لتسلط ذهن المتلقي على نواح متعددة من تجليات هذه المرأة.
يَجمَع الغنى اللوني المتنوع أعمال عبود سلمان ، وكذلك التضاد الواضح بين سواد تخطيط عباءات الشخوص وما يحيط بهم (والأغلب بهنّ) ويتخللهم من ألوان دافئة. تذكّرنا هذه الألوان بأثواب النساء البدويات والخيام العربيّة المزخرفة بأنماط شكلية مميزة لها دوناً عن غيرها.
ولا عجب في هذه الثيمة اللونية أبداً، فهو ابن الميادين تلك المدينة الفراتية السورية، نشأ على ضفاف الفرات وفي جوار بادية العرب السورية، فتشرب أصالة البدوي العربي، وعرفه جيداً بطالح خصاله وبصالحها، ولهذا تزخر أعماله بملامح هذه البيئة الأصيلة.
الأيقونة المركزية في معظم أعمال عبود سلمان هي مرأة عربية، والمرأة لدى عبود سلمان هي ليست ذاك النوع الاجتماعي فحسب، لا وليست الأم أو الأخت أو الزوجة فحسب، بل المرأة هي المكان الذي يحتضن الحدث التشكيلي، وهي البيئة الدرامية التي تختلج في عباءتها كل ذكريات وانطباعات الفنان عن بلده. فأبدع في تحميل كل هذه العناصر في حنايا ثوبها، ثم غمّد هذا النسيج الكثيف من المعاني بفيض من الدلالات والرموز الشرقية المشكوكة على خلفية من الزخرفات العربية، فخرجت أعماله تعج بالمعنى المتناسق وتبث للماثل أمامها تجربة فنيّة يتذوق من خلالها حلاوة تمر البادية، ويفعم صدره عبق البخور، وتُشبَعُ عيناه بالتفاصيل التي يهواها الذوق الشرقي التراثي.
وكون الفنان قد حرص على تقديم نسخة تعبيرية عما يختزنه في ذهنه من هذه البيئة، فقد خرجت هيئة شخوص النساء تميزهن تشوهات تشريحية ضرورية لتسليط الضوء على لغة الجسد وما تمثله وضعياتهن من معنى للمشاهد. فجاءت أذرعهن طويلة محيطة محتضنة حانية، وأصابيع أيديهن متطاولة بجمال دون أن ينسى أن يعطيهن بعض الضخامة ليذكر بانشغالهن بالعمل الشاق والعطاء.
تتحلى سيدات السيد سلمان بالحلي العربي الكامل، من تاج الرأس أو الحطة المزخرفة إلى الأقراط والأطواق والأساور المزخرفة والمتداخلة مع الأصابع، ولكن أهم سماة الزينة هي الوشم العربي المدقوق في الذقن والوجه وعلى الخدّين، وهي من علامات المرأة البدوية بلا شك. وفي حين تظهرن في أغلب اللوحات في الثوب الكامل والذي لا يظهر منه إلا وجههن وكفوفهن، فإن بعض اللوحات ذات التركيز على دلالة الخصوبة تصورهن بجذع عاري كما لو كن في خلوة أسرار الخيمة وسترها، مع المبالغة في تصوير الصدر بما يذكرنا بأصنام الآلهة الأم الكبرى التي عبدها أجداد عبود سلمان في دورا أوربوس وماري قبل ان يزيحها إله الشمس الذكر. وتنطق المرأة في اشتغالات رسول الفرات بعبارة واضحة: " أنا بدوية، ها أنا ذا، لا شيء فيّ يدعو للخجل."
أما أهم الأيقونات، فهي البلدة، قدمها في أيقونة مكثفة للبلدة ببيوتها وقبابها وزواريبها، وبدلاً من أن تستضيف الأشخاص احتضنتها الشخصيات المحورية في أعمال عبود سلمان في التفافات مرفقها، وانسدلت شبابيكها من أكمام سكانها، وعرّشت مآذنها على أكتافهن.
أما عن الدلالات السيميولوجية الأخرى الوافرة، ففيما يلي بعضها:
- حيوانات كالخيل والطاووس والجمل ومدلولها البادية،
- الحمامة وبرأيي أنها تتفرد عن باقي الحيوانات بكونها طوطم الإلهة عشتروت، ربة الخصب، مما يكرّس مدلول الخصوبة،
- آلات موسيقية وأدوات مائدة عربية : كالناي والعود ودلة القهوة وإبريق الشاي، ومدلولها هو السمر والألفة والصبى،
- السنابل والبذور ورحى الطحن والسمك: ومدلولها الخصب والوفرة والعمل والإنتاج.
وأما الرموز، فهي تكاد تكون ثابتة الظهور في كثير من أعمال الفنان المغترب، وقد أتقن تورية بعض منها في خضم الزخرفات العربية، ومنها:
- حدوة الحصان والعين المفردة: وهما رمزان مدلولهما مرتبط بالحسد وغيرة المجتمع المحيط،
- المسبحة: وهي رمز مدلوله التقى والعفة والاحتساب.
بنيوياً، يمكن التمييز بين زمرتين بنيويتين متجانستين في أعمال الفنان عبود سلمان:
الزمرة الأولى وتتميز بتطبق عناصر اللوحة من قاعدتها وحتى قمتها بشكل تراكمي تصاعدي، يقدم هذا التطبّق سردية تربط بين عناصر اللوحة وتضفي عليها بعداً توجيهياً واضحاً فهي تقرأ وفقاً لمحورها العمودي، كما تتميز هذه الزمرة بوجود فضاءات لونية وإن كانت ضيقة في أعلاها لا تتخللها أية زخرفة وتحيط بالكتلة المتصاعدة متيحة لمكوناتها حيزاً للتنفس، وهي من الفراغات القليلة في أعمال هذا الفنان السوري.
أما الزمرة الثانية فتتراص فيها العناصر المرئية بين ضفاف إطار اللوحة، وتشكل فيها زخرفات البادية السورية نسيجاً ضاماً يحتضن ويحيط بكل ما فيها من رموز ودلالات وأيقونات.
فإذاً تتضافر كل العوامل اللونية والسيميولوجية والبنيوية في اشتغالات الفنان عبود سلمان لتقدم رسالة أصيلة في امتدادها من تراث الفنان وبيئته، فريدة في نسيجها وزخرفاتها وعلاقة التخطيط بالألوان، وغزيرة المعنى لغناها بالدلالات والرموز والأيقونات ذات المعنى، والأهم جميلة في ألفة وجوه بطلاتها، ورهافة لحظات انفرادهن وخصوصيتها.
ختاماً وإن يسمح لي الفنان، فإن ربطنا بين كون جسد المرأة في هذه الأعمال هو مسرح الحدث والمكان، وبين أيقونة البلدات والقرى التي تحتضنها، فإني لا أجد أمامي إلا تفسيراً واحداً وهو أن المرأة لدى عبود سلمان... هي الوطن.
04 فبراير . 0 دقيقة قراءة