أضواء وأحلام لرجل خمسينيّ….

شادي رزق

25 مارس  .   3 دقائق قراءة  .    501

أضواء وأحلام رجل خمسيني

رجلٌ خمسينيّ، رماديّ الشعر، طويل القامة، مملوء الجسد، ملامحه غير متناسقة، يلف قدماً على الثانية حتى تكاد تلامس الأرض، كتفاه عريضان، لكنهما متقوسين مع انحناءة في الرقبة، مسافة شعرة بين ذقنه وصدره، يتنفس ببطء شديد، عيناه تراقبان بعمق بعيد.

يجلس في حديقة عامة في فترة ما بعد الغروب وقبل حلول العتمة، الطقس يميل إلى البرودة والرطوبة عالية، الهواء يلعب مع الأوراق الصفراء بحركة دائرية لتصطدم بزاوية اسمنتية، وتنهي رحلتها. الكثير من الروائح، تارة من نوافذ مطابخ المنازل المحيطة، وأخرى من مخلفات السيارات القديمة، لكن أجملها عطر الخريف المنبعث من مسامات الخَليقة.

بدأت تتسلل العتمة من تكّات الزمن، ولم يشعل الناطور إنارة الحديقة، كانت الشمس تودّع حبالها كفوف الوريقات الخضر وتنسحب من بين الأغصان تاركةً مَشَحاتٍ برتقالية. وإذا بالقمر يَعتلي مِنصّة مناوبته المسائية، يبدو صاحياً متماسكاً في مطلع دوامه، ترتسم على محيّاه معالم الكبرياء، حيث الجميع ينظرهُ بإعجاب وكأنه يسمع المديح ويعلم بأنه مَلِكُ الأوصاف ويحفظ كل الأشعار التي قيلت عنه والناس الذين شُبّهوا له.

وبدأ المشهد يزداد جمالاً، حين بدأت تلمع أضواء البيوت بشكل متبعثر كمن يرمي النرد بين أحجار الطاولة، لا بل تشبه يد الإله وهي تَرُشّ النجوم على سماء الليل لتعطيه نكهة.

في كل غرفة مئات الأحاديث والقصص، كلها متشابهة، والجميع يصرّ على أن لا أحد يتفوق عليه، وكأنك في سباق مع الألم والجائزة لحن حزين.

أما رجلنا الخمسيني فلم يتحرك عن كرسيّه الأخضر الخشبي، جالساً على عشرات الذكريات التي شوهها العشاق بأسنان مفاتيحهم، وحفرت خدوداً على لوح الخشب، وصارت كالوشم على ظهر الجالسين.

كان ما تبقى من نهايات أشعة قناديل البيوت يضيء مع عنجهية القمر، على زائر الحديقة الذي أرخى بثقله على ساعات الزمن.

وعند انتصاف الليل وقبل بداية جديدة، جاء النُعاس كمرودٍ يُكَحِل رموش المتعبين ويبشرهم بنوم مريح.

فجأة تغيرت سرعة المشهد والأحداث، وهرعت أضواء الغرف إلى سريرها، وكثر اتساع رقعة الظلام.

إذا بصديقنا وقف وكأنه كان كل هذا الوقت ينتظر انطفاء الإضاءة، وأخذ يصيح "هكذا تنطفئ أحلامنا" ويكرر وصوته يعلو.

وهكذا ماتت أحلامه وانطفأت آماله، ولا أحد طلّ من النافذة ليسكته! فيبدو أنه وحده من يظن أنه يسمع صوته.

  2
  9
 0
مواضيع مشابهة

09 سبتمبر  .  1 دقيقة قراءة

  0
  0
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال