01 يناير . 16 دقيقة قراءة . 953
الفنان التشكيلي السوري سعد يكن من مواليد حلب عام 1950. انطلق في مسيرته الفنية منها نحو العالمية، فكان له في بقاع العالم ما يزيد عن المئة معرض بين الفردي والجماعي. لكنه دائما ما كان يعود إلى مستقره وعرين إبداعه في حلب، فهو يرشف من واقعها ويشع فنّاً يعبّر عما يجول في بيوتها ومقاهيها وحتى مراقصها. وقد اخترت أن أقدم نقداً لعمل بعنوان (مايسترو)، وهي لوحة من مجموعة لوحات بأسماء مستقاة من عالم الموسيقى (أوركيسترا، مايسترو، فيفالدي الفصول الأربعة، الدانوب الأزرق) أبدعها الفنان السوري المعروف. فقد اختار الأوركسترا كمنظومة مجتمعية مصغرة حمّلها من الرموز والدلالات والطبقات ما جعلها أطروحة سيكوسوسيولوجية تعج بحوارات عديدة بين عناصر متضادة، فخرجت العديد من أعماله المتمحورة حول منصة الأداء الموسيقي تضج بالأصداء الطربة، لكن تجمعها مع بعضها عناصر درامية ومجتمعية متشابهة تحقق تقاطعات فيما بينها وتقدم تعبيراً متشابهاً عن الواقع ذاته، سأخص بالذكر لوحة (مايسترو) لأنها برأيي تمثل بانوراما شاملة لمعظم العناصر التي مثلها يكن في بيئته الأوركسترالية.
وكما هي الأوركسترا في اتساعها عرضاً وتطبقها عمقاً وتبوؤ المايسترو أو قائد الأوركسترا بؤرة الحدث في مركزها، خلق الفنان الحلبي فضاء اللوحة بأبعاد يكاد عرضها أن يبلغ ضعفي ارتفاعها (عرض 300سم x ارتفاع 170سم)، ولا عجب في ضخامتها فهي تعد من القياس المعتاد إذا ما قارناها بعديد من أعمال الفنان الأصيل سعد يكن والتي يبلغ بعضها ثلاثة أمتار في ارتفاعه.
أما بالنسبة لاختيار الفنان لمواده، فقد فضل استعمال الأكريليك على القماش المشدود، وقد أبدع في مد الصباغ على تضاريس المسرح الموسيقي بدأً بالخلفية الزرقاء المتموجة، ثم رجوعاً بطبقاتها طبقة فطبقة من البعيد إلى القريب، فكانت كل طبقة تحمّل خشبة الأداء جملة من الشخصيات والأيقونات والمعاني والدلالات وصولاً إلى الشخصية المحورية ممثلة في المايسترو في المركز. وقد سمح اختيار المادة بتمثيل تداخلات الظلال والنور على أرضية المسرح بامتداد لا يموّه التداخل بين الضوء والعتم، فالظل على المسرح عنصر أساسي كما سنأتي على ذكره لاحقاً. ذات الأمر ينطبق على تفشي اللون الأحمر في نوافذ الأجساد المتلاصقة دون إشعاعه منها.
كما طُوِّعَ الأكريليك وانصاع لريشة الفنان المبدع في دمجه للعناصر، يبدو ذلك جلياً في المواقع التي ترددت فيها أمواج اللحن وأصداؤه، فكأنما الصوت صار يُرى بالعين بدل من أن يُسمع بالأذن، وكأنما مفعوله في أرواح الموسيقيين على المسرح خلق تداخلاً بين الأجساد التي فرّقتها عزلة النفوس واعتزال الوجدان.
الكآبة، هي الانطباع الأول الذي يراود الكثيرين عندما يسلطون أنظارهم على سطح هذه الظاهرة الجمالية. لعلها تتأتى سريعاً من التعاطف الفوري مع الحزن وانعدام الحيلة الّذان يتصاعدان من رؤوس أعضاء الفرقة الموسيقية كما يتصاعد الدخان من أغصان شجرة تحترق في صمت البيداء.
ثم تلتقط عين المشاهد صورة جسد المايسترو في مركز الحدث وهو يقف ممشوق العود، ذراعاه تشعان مجداً، أكتافه تقطر كبرياءً وألقاً، وجذعه يتمايل مع أمواج سلالم المعزوفة، واللافت أن قدماه تصبان في حذاء على خلاف كافة الشخصيات الأخرى في اللوحة. ومن غير المستغرب أن يتكون لدى المشاهد انطباع بأن هذا المايسترو لا ينتمي إلى هذا العمل، أو إلى هذه البيئة، مما يوهم المشاهد المستعجل بأنها لوحة حول تفاعل مايسترو مفرط الحماس مع فرقة لا تضاهيه في حماسه حول المقطوعة المعزوفة، وكما هو الحال في مستعجل القول والمتسرع من الآراء، هذا الانطباع سريعاً ما يزول عندما نبدأ بتوصيف عناصر هذا العمل، وبعد أن نفهمها فرادى نعود ونبني من علاقاتها مع بعضها فهماً أفضل لهذا العمل البديع متعدد الطبقات، فتتكون لدينا رؤية جديدة للمثنويات المتفاعلة على سطح ظاهرة المايسترو وأوركسترته.
لَئن تتبعنا هندسة سعد يكن في بناء اللوحة على ثلاث طبقات من الخلف إلى الأمام فانطلقنا في توصيفها أيضاً بالتسلسل ذاته، لاستقبلتنا على أعتاب الطبقة الأولى خلفية العمل الزرقاء، وهي حرة ممتدة مفتوحة، محيطة بجميع العناصر، وتشكل الفضاء الحر حول وخلف شخصيات الجوقة.
ننتقل إلى الطبقة التالية وهي الوسطى فنرى هرماً متراكباً من الأشخاص أعلاهم أبعدهم وأدناهم أقربهم مما يوحي بأنهم يقفون على مدرج من عدة مستويات. وعلى هذا المسرح ينتشر عناصر الأوركسترا من عازفين وأدوات وكراسي جلوس. ويحتل مركز هذا الطبقة الوسطى بيانو أزرق اللون يصيح تضاداً في لونه مع ألوان كل ما يحيط به من عناصر.
وفي الطبقة الأخيرة نرى المايسترو متفرداً ببعده الخاص، يعتلي منصة أرفع سوية مما حولها بقليل، وتشع من حوله أمواج الصوت مترددة بكثافة في محيطه ومتصاعدة إلى الأعلى حتى تتداخل مع زرقة الخلفية، فكأنها ترسم أمواجاً أو سحب غسق في سمائها، لكن تلك الأمواج ذاتها تتخامد عندما تقارب هالة العازفين، وهذا يتضح في عدم ظهور الأمواج على يمين أو يسار المايسترو.
وقد نظم يكن فرقته بطريقة تحمل ثلاثة مستويات من الفرز:
- تمركز عازفين بسترات بيضاء في منتصف الجوقة، بينما يتقابل عازفون بسترات سوداء على طرفي اللوحة الأيمن والأيسر. ويوحي هذا التقابل بالتنوع في الانتماءات بين أعضاء جوقة المايسترو، فهم ليسوا بيادق متطابقين وإن كانوا يحملون بضع عناصر تجمعهم كما سنرى.
- غلبة من العازفين الذكور بين أفراد الأوركسترا تضفى على جبين العمل مزيداً من تجاعيد الخشونة والقسوة، تتخلل صحراء الذكورة هذه واحة من المغنيات الإناث، يتوهجن من جوانبهن بلون أحمر دافئ.
- تقابلٌ بين عازفين على الجهة اليمنى يمموا وجههم تجاه المايسترو في علامة انصياع وارتهان لإشارته، وهم مغلقوا العيون في انسجام ولربما استمتاع بما يصدرون من ألحان، بينما على الجهة اليسرى نرى رتلاً من العازفين لا ينظر أي منهم تجاه المايسترو وينصاعون لإيعازاته على مضدد، كما أن اتجاهات نظرهم متفرقة غير منسجمة وغير متوائمة.
كما لا يجوز أن نغفل مجموعة من السمات والإشارات الكامنة بين أضلاع إطار هذا العمل الغني، وفيما يلي بعضها:
- وجوه العازفين بأغلبها مشوهة بشكل واضح، أخاديد وجههم القاحلة عاتمة كأنها أعشاش لسوء الحال، يقول يكن في وصف لهذه الوجوه التي نراها في كل أعماله تقريباً "مقاهينا العامة تضم الكثير من هؤلاء المهمشين الذين يكتمون بوحهم الداخلي عن أقرب الناس إليهم، والذي يتجلى في تعابير وجوههم "
- جميع العازفين يظهرون حفاة القدمين، وتبدو عروق أقدامهم وتفاصيلها بدرجة تكاد تفوق لدى بعضهم دقة تفاصيل وجوههم، وتكشف هذه الأقدام العارية شحوبهم وتتسرب من عروقها الواضحة صرخات جنون عزلتهم التي جلبوها معهم إلى خشبة المسرح، فحرص يكن على أن يسلط انتباه المشاهد على هذه الإشارة والتي ستلعب دوراً كما سنرى في صياغة فهم أعمق للنص المرئي القابع أمامنا. يقول يكن " إنّ الشخوص في كل أعمالي لا تنتعل أحذية، لأنني في عملية التحوير الجسدية، أستخدم الوجوه والأطراف كوسائل تعبير رئيسة عن الحدث الدرامي في اللوحة، الأطراف تعبّر عن الحركة والوجوه تعبّر عن البعد النفسي للدراما الإنسانية، هناك فرق كبير بين تحوير الشكل وتشويهه، فالتحوير يأخذ معنى إيجابياً، بينما كلمة التشويه تأخذ معنى سلبياً ".
- تمتد من أقدام العازفين ظلال متطاولة تتلاقى وتتداعى معظمها باتجاه المشاهد بما يوحي بأن مصدر الإضاءة خلفي من وراء وفوق المنصة، الملفت هنا أن تلك الظلال تتقاطع وتتداخل في أهداب كئيبة تكاد تشكل مستوى سفلياً نقيضاً لتقاطع وتداخل أصداء الموسيقى المرحة في المستوى العلوي في اللوحة.
- يمكننا القول بأن العازفين متراصي المواقع بشكل يكاد يكون متلاصقاُ في مواضع، لكن في مواضع قليلة أخرى تترك الأجساد فسحات ضيقة بين العازف وجاره، وتسود في تلك المساحات بقع حمراء داكنة، لا تعدو في انتشار دفء حمرتها حدود سواد المعاطف الكئيبة، فلا هي تشع من أطرافها، ولا هي تنعكس على وجوه أصحابها، لكنها تتجاوب بلا شك مع (بابيون) أو فرشة عنق حمراء تتصدر بتردد ووجل عنق كل من العازفين. لكن ازدحام الأسود والأبيض من حولها يكاد أن يبدد دفء لونها ويخفت ألقه. ومن الضروري هنا التذكير بأن السيدات المغنيات في الخلفية يشتركن بهذه الهالة الحمراء مع فارق التوهج والتأجج الذين يفوق مستواهما لدى المغنيات ما يقابله في بابيون الذكور بمراحل.
بناء على ما سلف من مشاهدات في كل طبقة من طبقات العمل، أرجو أن يسمح لي فناننا السوري الرائد بأن أرفد نصه المرئي بتحليل أرجو ألا أخيب في بنائه. فأنا أرى حواراً على خشبة هذا المسرح منقوشاً بلغة الألوان والخطوط. والتعبيرية واضحة المعالم في عمل فناننا، أبدت نفسها لنا من خلال مشهد حركة أطراف العازفين، ومشهد حركة ذهنهم المنعكسة على وجوههم، تلك الوجوه التي قدمها بأسلوب تكعيبي حورها دون أن يشوهها. وفيما يلي تفصيل لدلالات الألوان والتعابير:
- اللون الأزرق في فضاء الخلفية يمثل المتاح الممكن والآفاق التي تنتظر من يجرؤ على أن يجوبها. يتكثف اللون الأزرق في مركز اللوحة في كتلة البيانو، لكن زرقة البيانو ليست كزرقة الخلفية أبداً، فهي زرقة متمردة كتيمة مشبعة بالصباغ، وهي واضحة المعالم حادة الحدود، تسمح للظلال أن تتسلط عليها دون المساس بهوية زرقتها، كما أنها ترفض الامتزاج مع أي لون آخر. وأميل للقناعة بأن هذا البيانو بموقعه وزرقته هو رمز لإثبات الوجود والتحدي. وهو منارة للهوية الفردية في محيط من اليأس الجماعي، تطرق مفاتيحه أوتار الأمل بإيعاز من المايسترو وإذعان من عازف البيانو فيتردد طنينه في الأثير.
- فيما يمثل اللون الأحمر دفء القلوب الخجولة التواقة إلى التلاقي، وفضول التعرف على الآخر وسبره، ومتعة الحوار مع الآخرين والتسامر معهم في المجتمع. وبهذا نرى على خشبة المجتمع مجموعة من الأفراد المتقاربين جسدياً لكنهم منعزلون روحياً، يقبع بينهم توق للتلاقي يشع من ياقات صدورهم، لكن هذا التوق ما إن يتعدى حواف ضلوعهم حتى يذوي في صحراء من الفردية والإنطوائية والانكفاء على الذات.
وهم في ذلك فرق متقابلة أقاموا فيما بينهم صوامع اسمنتية منهم مثلاً:
- الجماعيون المنصاعون للمركزية (العازفون على الجهة اليمنى)
- ومنهم الفرديون المتمردون (العازفون على الجهة اليسرى)،
- ومنهم من يرى نفسه أعلى شأناً من الآخرين (لربما أصحاب السترات البيضاء الناصعة)
في حين أن الجميع دون استثناء موبوؤون بالوحدة واليأس، أسرى غربتهم في منفى رؤوسهم، يسيطر عليهم فقدان الأمل في إحداث أي تغيير في إيقاع ذاك اللحن الذي يعزفونه. قد تكون هذه الغربة ناتجة عن كآبة نفسية تثبط الرغبة في الكلام، أو قد تكون ناتجة عن افتراق في السوية المعرفية بين المفكر ومحيطه مما يدفعه إلى الإبتعاد عنه والإمتناع عن التفاعل معه، هنالك العشرات من الأسباب التي تدفع المتجاورين في المقاهي وفي الحدائق العامة إلى عدم التعارف على بعضهم البعض، وفي كل الأحوال يقول الفنان يكن "يستوقفني دائماً الإنسان المهمش الذي يمتلك العلم والوعي مع إدراك ألمه وعجزه عن تغيير محيطه مما يدفعه إلى إنكفاء داخلي" ، ولكننا "محكومون بالأمل" كما يقول المسرحي السوري سعدالله ونوس، وهنا يحضر دور البيانو وزرقته في مركز العمل مجسداً حضور ذلك الأمل وشاداً على أيداي الثابتين.
ومما يزيدني ثقة بمركزية مفهوم الوحدة واليأس في هذا العمل، هو وجود رمز هام لهذين المعنيين تكاد عيوننا أن تغفله، هو رمز الكراسي الخاوية خلف عازفي الجهة اليمنى. وأكاد أن أدعوها هنا بكراسي المقهى انطلاقاً من ولع الفنان بتصوير المقاهي وروادها في لوحاته، ذلك بما تمثله لديه من تكثيف للعزلة الإجتماعية في بيئة المقهى تماما كما فعل هنا في بيئة الأوركسترا. ويرمز الكرسي إلى خواء الصحبة وانعدام الرفيق، لربما رفيق غيبته هجرة أو جفاء أو موت. إن غياب الصحبة لدى يكن يعزز اليأس في نفوس الأفراد ويحول دون انخراطهم في عمل جماعي يهدف إلى تحقيق تغيير في واقع المجتمع السيء.
كما أن من دأب الأوركسترا أيضاً أن تترك كراسي خاوية لمن سينضم إليها من عازفين في فقرة لاحقة تتطلب آلات وعازفين جدد، وهذا التفصيل الفني يضيف معنى آخر للكرسي على المستوى الزمني، وهو ترقب الرفقة في القادم من الزمن.
انطلاقاً من كون المايسترو هو الكيان صاحب السلطة الأعلى (درجة) ممن هم حوله، وكونهم ينصاعون إلى إيماءاته دون تردد او وجل سواء رغبوا ذلك أم كرهوه، وسواء كانوا مدركين متيقظين له أم متعامين عنه، فإن ذلك يدفعني للاعتقاد بأن المايسترو هو قدر الحياة بأن تستمر. فالقدر وحده يحتم على الجميع أن ينصاع لأحكامه، وهو يضبط ألحان الجميع من بيانو الثبات والإصرار إلى كمنجات اليأس والإذعان وغيرها من آلات على خشبة الأوركسترا. وهو يسوق إيقاع الحياة اليومية بانتظام ناسجاً من أحداثها لحناً من المعاني لا يدركه إلا من يسمح لدفء قلبه الأحمر بالتحرر من ظلال اليأس والكآبة فيرنم مع جوقة القدر ألحان الصحبة والأمل حتى لو كانت كمنجته بلا قوس، فتحلق أصداء ذاتيته متصاعدة إلى أعالي.
التزم الفنان الحلبي بقضايا مدينته وبمعاناة محيطه، فقد عانت حلب الأمرين في مرحلة رسم اللوحة بين اضطرابات أمنية وحرائق وحصار اقتصادي. فألقى اليأس بظلاله على رؤس جوقته وعلى خشبة مسرحه، وظهر حطام البيوت الرمادي بوضوح في عروق أقدام وأيدي عازفي الأوركسترا، وترك المهاجرون والمغيبون أماكنهم شاغرة محفوظة لهم على أمل العودة يوماً ما. ولكنه رغم ذلك لم يذرنا نستسلم لليأس، بل أخضع عمله لسلطة ذاك المايسترو المتألق المشع، وأرسى لنا في مركز العمل قطباً للثبات والإصرار، مذكراً الجميع بأن الصمود هو قدرنا، كما هو قدر حلب، وقدر كل مجتمع في العالم يرزح تحت وطأة المعاناة.
عادل خالد الديري
دبي، تشرين الثاني 2020
مراجع
رشا المالح، مقال بعنوان "المايسترو والمقهى بطلان بمعرض سعد يكن"، البيان albayan.ae22 يناير 2016 ]مقال إلكتروني[ https://www.albayan.ae/five-senses/culture/2016-01-22-1.2555739
فيصل خرتش، مقال بعنوان "سعد يكن تشكيلي يمضي وحيداً في الصمت والعزلة"، البيانalbayan.ae 18 نوفمبر 2012 ]مقال إلكتروني[https://www.albayan.ae/paths/art/2012-11-18-1.1768711
21 فبراير . 7 دقائق قراءة