01 يناير . 3 دقائق قراءة . 676
أنيس فريحة، درويش رأس المتن.
الحادي والعشرون من أيلول بدايةُ فصل الخريف كما أنّه بداية فصلِ أنيس فريحة في هذه الحياة ونهايته. وُلِدَ عاشقُ القرية مع "تشريحِ التّينِ وسلق القمح وفرك الكشك" ورحل مَعَ جمعِ الزعترِ والسّماقِ وتنظيف الكوايرِ لتخزينِ الحبوب وغسل الجرار والقوارير لخزنِ المخلّلات والمربيات. "
لا بدَّ من أنّه قد تجسّد بعد مماته جرّةَ فخّارٍ على قارعةِ دربٍ من دروب الضّيعة أو تحوّل إلى ميجانا قرويّة يُردِّدها فلّاحٌ عند الصّبحيّة في أرضه. يخلّدونه في قريته رأس المتن بنُصبٍ عالٍ مُقفرٍ، لا روح فيه وأُخلّده بشراب ورد، بسطيحةِ دارٍ، بمسكبةِ نعناع. كان يحكي لرِضا وأسمعه أنا لكأنّني أمامه أجلس القرفصاء، خدايَ يتكئان على راحتَيْ وعينايَ تلتهمانِ قِصصه كما يلتهمُ طفلٌ حبات الكستناءِ المشويّة في ليلةٍ من ليالي كانون الباردة. كان يحكي لرِضا ولأصحاب رِضا وكنتُ أتبخترُ مُعزِّيةً نفسي بأنّه يقصدني.
حملتُ رسالته في قلبي وخبّأتها في ورقةِ توتٍ بريّ ووعدته في ختامِ كتاب سيرته الذّاتية "قبل أن أنسى"، أن أكون من هذه القِلّة: ستبقى قِلّةٌ في لبنان تحافظ على التّراث. والحضارة وليدة القلّة الخَيِّرة الواعية. وقبل الرّحلة الأخيرة سأركع وأُصلّي أن يظلّ المشعل في يد هذه القلّة. "
مؤرخٌ، باحثٌ ومُتخصِّصٌ في اللّغاتِ السامية. وانطلاقًا من عبارته " الفلاحُ لصيقٌ بالأرض"، ومن أنّ لبنان هو لبنان القرية، وثّقَ كلّ معالمها من لهجات وأمثال شعبيّة في معاجم ستبقى خالدة وشاهدة على لبنانٍ قد زال وانطوى. رَسُولُ السّلامِ في اللّغة. كلّ من يريد أن يتصافح مع اللّغة العربيّة وأن يتصالح معها، عليه أن يقرأ كتبه. الهمزةُ، لبوءةُ اللّغة العصيّةُ على التّرويض، قد شذّبَ أغصانها وبرى أشواكها وتصالح مع فكرةِ كتابتها كما تُلفَظ دون اتباع قواعدها.
في سوانحه من تحت الخروبّة، أكّدَ على أُنوثةِ الشَّجَرَة، على قداسةِ المؤونة البيتيّة، على البركةِ الّتي تنتقل من يدِ الأمّ إلى عائلتها بواسطة اللقمة فتزرع الحنان في قلب الأبناء والامتنان في ذهن الزّوج.
لبنان الآباء والجدود، وها هو أبو القرية اللّبنانيّة قد كرّمه أيلول بأن بزغه من رحمه طفلًا ودفنه في نسيمه شيخًا. تسعةٌ وثمانون عامًا لا تزيد دقيقة واحدة ولا تنقص دقيقة واحدة، هي رحلته بين دَفَتَيْ هذا العالم.
"لبنان محروسٌ، تحرسه العناية الإلهيّة. صفة لبنان الديمومة! وسيطلع الفجر. "
#أنيس_فريحة #فصل_الخريف #لبنان