01 يناير . 5 دقائق قراءة . 824
عندما هاجر الرسام العراقي جعفر طاعون وكان لم يزل خريجا حديثا من قسم فن الرسم في معهد الفنون الجميلة، وكانت حرب السنوات الثمان ما زالت مستعرة على حدود مدينتنا الساحلية،
وفي حومة تلك الحرب هاجر جعفر طاعون عن بلدته البصرة، وبلده العراق، هاربا من الظروف الدامية للعراق قبل عقدين مضيا، كان لم يزل شابا، غضا، وجلا، يستحيي من كل شيء، فكانت اللوحة بالنسبة إليه عالما مغلقا عصيا.
إلا أن فعل تلك العقود الخوالي في الغربة جعلت جعفر طاعون ينتهي إلى شيء مناقض لما كان عليه قبل رحيله، فقد صار رساما دون حوامل ملفقة فلم تعد تؤطره أية ثوابت مقدسة للرسم بأطرها، فقد أعاد النظر، وأعاد تعريف كل شيء، فلم تعد لديه حدود لفن الرسم، ولا لـ(قواعد)ـه التي تلقفتها أجيال من الرسامين باعتبارها أنساقا، فغدت الفنون التشكيلية كلها عنده تخوما متداخلة، ومياها إقليمية لبعضها بعضا، والأهم في ذلك أن غدت المادة بالنسبة إليه هي الفعل الوحيد المهم في اللوحة، ونتيجتها النهائية؛ ولم تعد تمثيلا لأي شيء خارج واقعتها الشيئية، فلم يعد يشعر نفسه مدينا لأية اعتبارات ومسلمات خارجية تفرض سطوتها عليه، أو أية أشكال تنال، أو لا تنال القبول من الآخرين.
كانت تجربته تجربة (دينامية متواصلة) لا يقر لها قرار. فلم تعد اللوحة الملوّنة (بالزيت أو الاكريليك) محكومة بأية مسبّقات نظرية وبيانات تداري خيبة المنجز في أحيان كثيرة، فكان ذلك يعود، في جزء أساس منه إلى:
أولا، فهمه لسطح اللوحة باعتبارها (ظاهرة بصرية) لا تحدّها مضامين، أو أشكال، أو موتيفات محلية تقوم مقام الشرائط التي لا تتحقق صفة الرسم إلا بها،
وثانيا، انتهاجه نهجا هو ليس (الرسم بلا شكل) تماما، بل هو (رسم المادة) الذي هو رسم يغدو فيه الشكل (ناتجا عرضيا) - إن صحت التسمية- ناتجا من وضع اللون على سطح اللوحة، أو لملمس مواد الرسم أو ربما الأدق الوجود البصري، أو لحدوث (مستحثات) لا أدرية لذهن المتلقي ناشئة من تشكلات المساحات اللونية التي قد توحي "بطرائق أعمق تصطاد بوساطتها الحقائق المستحوذة علينا
في أكثر نقاطها حيوية" كما يقول فرنسيس بيكون، لم يعد هنالك (ألم) –وهو ما يحلو للبعض تسميته (دراما) الشكل. فالدراما تنبعث هنا، بفعل لا إرادي، ومن مصدر غامض في تركيبة ألوان اللوحة، تركيبة أشد قسوة وإقلاقا مما يحدث من الأشكال المشوهة التي يرسمها الآخرون، كانت تراكيب جعفر طاعون نمطا من الرسم، والأدق من المساحات اللونية الموالفة بشكل مغاير لا مرجعية له، فقد قطع الرسام صلاته المرجعية الشكلية التقليدية، وانغمس في لعبة الافتتان "بالمادة الحقيقية التي تصنع منها الصورة" من خلال مزاوجة حية وتلقائية بين التجريد (اللاشكلي) والطبقات الثرية للون الذي تم صنعه من (الطلاء الثقيل)، أشكال لون غامضة، ومهووسة، ومفتونة بأساليب (رسامي المادة)، حيث يكون السطح مستوى واحدا ذا عمق ضحل، أو ربما دون عمق، على عكس تجارب بعض الرسامين المهمين الذين يبنون لوحاتهم من مستويين متراكبين: مستوى لوني غائر، ومستوى خطي آخر يطفو فوقه ومنهم مثلا: هاني مظهر وفاخر محمد في مراحل سابقة من تجربته، فعند جعفر طاعون، ينتفي الإحساس بالفضاء، فلا نرى سوى سلسلة من المساحات اللونية المسطحة التي تمتزج بالأرضية، التي توحي وكأنها جزء صغير من لوحة تم تكبيره مئات المرات، لتكون لوحته في النهاية رؤية مجهرية تم النظر إليها من خلال مجهر عملاق كبّرها بشكل مبالغ به واستثنائي.
لقد حدثت تحولات ضخمة في فهم جعفر طاعون لفن الرسم باعتباره (فنطزة لاواعية) لفعل اليد التي ترسم، وللعين التي تتلقى، دون تدخل عقلي مباشر في صياغة اللوحة، فشكّلت لوحته نسقا تعبيريا موغلا في التجريد اللاشكلي، فلم يعد التجريد، عنده، تنكرا للواقع والمحيط، بل رؤية تعبيرية لا شكلية تنقل إحساسات غامضة وسرّية، من خلال سطوح مفرطة في البساطة، يمكن تبيّن تواشجها التجريدي والتشبيهي معا، في فعل متوازن ورقيق كان نتيجة طبيعية لتلاعب (أشكال) المساحات اللونية مع بعضها باعتبارها هدفا ثابتا في تأسيس سطح اللوحة من حشود مساحات اللون التي تشكّل، من خلال تعبيريتها الأثيرة، وسطا ذهبيا بين التشخيص والتجريد، فتغدو تلك المساحات أشباحا لمشخصات دونما ملامح، وكأن جعفر طاعون يدين ببعض نزوعه هذا لتوجهاته الاعتباطية للتجريد، تلك التوجهات التي يخضعها لرؤية ليست شخوصية تماما بل ربما سحرية، حيث الأشباح اللونية التي تطل على المتلقي من وراء حجاب اللون الضبابي.
لقد ازددنا قناعة، في السنين الأخيرة، بأن مقاربة جعفر طاعون لسطح اللوحة تتلخص في كون ذلك السطح حقلا تستخدم صبغة اللون عليه، وأن هذه المقاربة قد أسست من خلال فهم ناتج هو الآخر عن تبنّي الرسام للتقنية الحديثة في التلطيخ اللوني أكثر من الرسم على القماشة، فقد كان اللون جزءا حيويا من المادة وهو يحيا في كل خلية من خلايا سطح اللوحة ونسيجها الثري الذي تشرّب باللون فغدا (كل) عناصر اللوحة معا.
18 يناير . 1 دقيقة قراءة
12 مارس . 10 دقائق قراءة