القنفذ الثقافي المتكاثر - مآل المُثَقَّف العربي والسوري مثالاً

04 يوليو  .   6 دقائق قراءة  .    1209

بقلم الكاتب والشاعر علاء زريفة

 

 الثقافة في أي مجتمع تتحول وفق أنساقها النمطية إلى كيانات وقوالب ثقافية تتجذر في تراسلها التاريخي المجتمعي، وتملك بالتالي سلطة الهيمنة والاستحواذ وقوة التعاقب الزمني، ولذلك ليس غريباً أننا نجد إلى يومنا هذا في مقابل الثقافات ذات الآفاق الكونية الرحبة التي حققت فتوحات علمية ومعرفية مذهلة في شتى الاتجاهات من خلال إخضاعها لعملية "ختان" دائمة. 

 

  نجد في مقابلها ثقافات انغلاقية وماضوية وموغلة في السطحية والقشرية والقدرية لا تزال تصارع من أجل أن تحافظ على بقائها صامدة في وجه تلك التموجات الثقافية الجارفة لكل ما هو جامد وثابت وانغلاقي عن طريق ممارسة وتطبيق فعل (الشَبق) ثقافياً وهي  عملية ربط رقاب النعاج هكذا تسمى (الشَّبْق)، والحبل الذي يُلَف على رقابها يسمى (الشِّباق). الشعوب تُشبَق أيضاً، بشباق وشباق الشعوب (القانون) والذي يُجدَل من حديد ونار، لتنصاع وتقبل بؤس مصيرها. إحدى أهم أدوات هذه العملية هي الثقافة وتقليص دور المثقف وتحويله لإداة تعبوية مجردة من أي نزعة أخلاقية أو واجب اللهم مصالحها الشخصية.

 

  وفقاً للاعتبارات التي سلف ذكرها يمكن أن نقول إننا جبناء أمام حقيقة ما يجري، فالواقع الثقافي العربي عموماً و السوري خصوصاً الذي بات يعاني من الزوائد من جميع الجهات حتى أصبح شكل ثقافتنا أشبه بجسد القنفذ Hedgehog تملؤه الأشواك من كل جانب وهي وسيلته الفاعلة للدفاع عن نفسه عندما يتعرض للخطر من خصومه، فيصعب الإمساك به، أو البقاء عليه.

 

   تم إخضاع المثقف السوري والحراك الثقافي عبر مراحل طويلة لنوعٍ من عملية الإخصاء المتعمّد سواء بأسلوب التجويع كما هي الحال مع المبدع الراحل محمد الماغوط، وفي أحسن الأحوال تم التعامل مع البعض الآخر ممن رفضوا الانسياق وراء المنهج الأيديولوجي بالتجاهل وعدم الاعتراف بهم كما حدث مع الشاعر المفكر أدونيس والشاعر سليم بركات".

 

    و بالتالي تحويل المثقف إلى موظف أو بوقٍ يعيد تكرار الخطاب ويشرح المشروح ويناقش ما هو متفق عليه سلفاً فلا هو يمارس دوره التشكيكي المُشاكِس والمحفِّز كقوة ناعمة أساسية في أي تطور ممكن، ولا يلعب دور المثقف العضوي -كما وصفه "غرامشي"- وذلك بسبب دور المؤسسة الوصائي الأبوي الذي لا يتعامل مع الإبداع والفرد المبدع كذات حرة حيوية بقدر ما يعدّها أداةً تعبوية لا أكثر ولا أقل.

 

   هذا يقدم صورة واضحة لمدى العفن الذي بلغته بنا الأدلجة التحنيطية ثقافياً عن طريق تحويل الأدب لمؤسسة كهنوتية بعثية  لا تشبه بمرجعيتها المحافظة إلا المعارف العصملية سواء اتحاد الكتاب العرب أو وزارة الثقافة ، و و ارتهانها  لمجموعة طفيلية تمارس دور المخبر و العسس ضد القلم و العقل و تحول الكاتب ل خصي يستجدي الرضاء و الغفران متنكراً لدوره كذات تحريضية للوعي، مؤسسة تجهض أسمى ما في الأدب عن طريق أتباع الصراط المسموح به "رقابياً" بحجة الحفاظ على الأخلاق الاجتماعية ومقدسات" السوريين ، و بالتالي تنميط الحركة الابداعية بتبني ايديولوجيا التحريم للذي يخالف أدنى شروط الكتابة كفعل حر يصدر عن كائن حر .

   بالتالي هذا الوسط المهلهل الذي لا يزال بعتاعيته وديدانه الرخوة المثقفة، تجاوزاً يتحاشى ذلك لحجج سخيفة وأسباب لا تمت لأدنى منطقية، ولكنها تستشرس دفاعاً عن كذبة "صلاح الدين". 

 

   و لذلك يتساءل المفكر المغربي الراحل، محمّد عابد الجابري، عن إمكانية قيام نهضة بغير عقل ناهض. يقودنا هذا القول إلى محاولة فهم شعار التنوير" الذي يطلق مراراً كشعار مركزي في خطابات المؤسسة الثقافية السلطوية  والذي يبدو خياراً دونكيشوتياً بامتياز.

 

  هذا يحيلنا إلى سؤال اساسي و دائم موجود في ذهن كل مشتغل في الأدب (لماذا نكتب)  تبدو الضبابية اليوم مسيطرة على المشهد الثقافي السوري حيث لا يزال المثقف ( يمشي الحيط) و يطلب براءته فقط من أزمات حادة تتعرض لها البلاد تشكل الحرب المستمرة منذ سبع سنوات و نيف نتيجة حتمية ل مراكمات تاريخية و سياسية و ازمات وعي تنخر ب سوس موروثها المتعفن الجسد الوطني اليوم.

  و يمكننا القول بإن هناك ازمة مثقف عجز و لا يزال عن دفع عجلة الوعي الى الامام تاركاً الساحة مفتوحة. لكل تجار العقول و مروجي حشيش العفن الفكري الغيبي الديني ممثلا بدور وزارة الأوقاف بذراعيها القبيسيات و حركة الشباب الإسلامي المدعومة من السلطة الحاكمة ، لا بل نراه احياناً ينقلب على يساريته متطرفاً باتجاه اقصى اليمين.

 

  هذا التخاذل و الانبطاحية لا يمكن. اعتبار الفرد المثقف” مسؤولاً عنها وحده كقوة ناعمة فشلت النخب ( لعدم رغبتها رغم ما رفعته من شعارات تقدمية)  بترسيخها كقادة لمجتمع ينهض من مرحلة استعمارية طويلة، و اضطربات داخلية اخّرت بشكل كبير تقدم هذا الجمع البشري ككل.

التنفيعات” و الطبطبة ” و الركون لعدمية مفرغة من ٱي قيمة فلسفية وجودية بالجلوس في برج عاجي حيث ينظر من خلال هذا الكائن اللا-منتم سلباً للشأن العام من ثقب ضئيل ( عاهاته الخاصة) و ضعفه المأزوم ليخرجها بصفة انكارية متهماً الجميع بتهميشه و هو المهمش ذاتياً و العاجز ذاتياً ، و ممارساً سلطة وهمية على لا شيء عبر تعليب الكتابة في إطار ميتافيزيقيا مضادة لا تغني و لا تسمن من جوع.

 

  المثقف الذي يكذب على نفسه، معلباً نفسه في إطار الأبد أو الفراغ الوجودي مستخدماً النكران كوسيلة للخروج من عبء مسؤولياته ومرتاحاً لهامشه كمعذب مازوشي محروم من الدور ذاتياً أيضاً هنا من النافلة ذكر ما قاله الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو ( الرجل الثوري هو من يقول لا)

   المطلوب من المثقف ”هو الصراخ وفلسفة هذا الصراخ ، الرفض” كأداة تحريض على الخير العام النسبي، و الاتساق الفكري من حركية مجتمعية نامية مطلوب منه التنظير لها، وتحديد معالمها واستخراج البنى الفكرية لها بغية الدفع بالتطور وإن كان يسير بسرعة السلحفاة” و نقده أي هذا التطور”.

 

  و من هنا ختاماً يمكننا فهم الطبيعة السكونية للمشهد الثقافي السوري الذي تقوده سلفية تتزين بشعارات ( التنوير)، و تنوّم الحقائق المثبتة عن عجز واضح يختفى خلف أصبع أصبح مكسوراً منذ دهر. وهذا يقودنا بالضرورة لإدراك المفهوم الغربي للحداثة بأنسنة الدين"، أي إحلال الأساطير بدلاً عن الدين و إعادتها إلى جسم الإنسان، لذلك لابد من تحليل مفهوم التنوير بالمعنى الحداثوي بانزياحاته "إلى نقل العلاقة و مع المقدس والأسراري التاريخي والماضوي إلى حيزه البشري المعاش كركيزة اساسية وخطوة أولى ، حيث لا يبدو الوسط الثقافي لدينا حتى الآن مستعداً لمثل هذا الترف.

 

علاء زريفة

كاتب وشاعر سوري 

  5
  5
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال