28 يوليو . 10 دقائق قراءة . 668
كانت الفتاة شبه النائمة تظهر كلوحة أسطورية رسمها على عجل “جورجي اليخندرو”، الرسام الملكي الحاذق. كانت تغفو في وسط حديقة عامة بمنطقة "شاتليه ليال"، الباريسية الأنيقة، أيضاً، أو كالعادة أقصد، فالأناقة شأنٌ باريسي محض، عادة مُزمنة، بداهة من بداهات حياتهم، كل شيء بدا مفرط في أناقته في ذلك الصيف، الشمس أنيقة، النساء أنيقات، البحر أنيق، والأناقة نفسها أنيقة. هل هذه حقيقتها خُطت هنا، أم سقط سهواً نيزك أناقة قديم سمي لاحقاً بهذا الاسم، باريس؟!.
تتنفس باطمئنان بالغ، تُصغي لصوت ما بداخلها، يتصاعد كلحن كمان لموتزرات، شعرها متموج بحنو على عنقها ويغطي جزء من وجهها، عندما تميل كأنها تشتكي وهو يعتذر لها نيابة عن شمس سبمتبر الحارقة، هو أيضاً يغطيها بمناغاة جنسية مبهمة، يفترس وجهها أحياناً، وأحياناً أخرى يظهر كمنافس هو الأخر لمجموعة أعين ليست بالقليلة كانت تتربص بالفتاة وتلتهمها.
لقد كانت فاتنة للحد البعيد. الشمس أيضاً غازلت فتنتها ربما غارت منها من ضيائها الأخاذ وركزت بافراط معها.
جلستُ قبالتها أراقب هذا المشهد العجيب بشغف، يسقط معه كل حياء عام. امتلأت بشجاعة عربيدة كأنني منغمر للتو في نهر من "العرقي" ..
حدقت فيها بذهول طفولي وبرغبة مباركة كنت أشعر بمنيّ ينزلق مني خفيفاً حاراً كاوياً برائحة القمح. كان انقذاف متواصل طيلة تأملي، تدفق نهر منيي المبارك، وكنت لا أرتعش كما يحدث عادة، بل على العكس كان اطمئناناً مهولاً وكأنما أؤدي واجباً مقدس، أو أتأمل بخشوغ سيرة أيامي كلها، كنت أتجدد غالباً بينما أشعر بنشوة الدفق أسفل ساقي متواصلة، وكنت أواصل أيضاً تحديقي العظيم فيها.
تناهت أصوات كثيرة مشاهادت كثيفة لحظتها إلي دماغي، كحدث استدعاء مباغت، وبشكل هادئ عرض شريط أحداث طويل، طويل أمامي، كنت غارقا في قلبه كدوامة لطيفة من المتعة، كان انتشاء عظيم لم يسبق لي وأن عشت مثله، وكنت اكتشفت حينها أنني نضجت كفاية وراهقت من جديد واحتلمت على صورة امرأة حقيقية، أمرأة من شحم ولحم كما يقولون.
الدوبامين اشتعل في عقلي وغمره كلية كحقل غير مكتشف للمتعة، وكانت تياراته الراعشة تسري في جسدي بكهربة خفيفة لذيذة وما كنت تأوهت قط. فقط انتشي وأحملق في وجه الفتاة فيسري تيار، في جسدها كله فيسري تيار آخر في عنقها الملوكي فأحس باانفجار كامل بداخلي، أتأمل إغفاءته الماتعة فيتدفق فيّ شيئا يُشبه البكاء.
بيننا نهر من الناس يعبر، مسرعين بعضهم واخرين يتأملون الأفق أمامهم كشيء معاد، بضجر وشيخوخة برائحة واضحة، أطفالاً يبكون في حجور أمهاتهم الآليات، عجلات بديلة لحضن الأم الحقيقي، كان بكاؤهم مزعجا وأصواتهم حادة، لقد سقط الحنان، مقابل الآلة هي تقوم بكل شيء، كان بكاء الأطفال قبل هذه الالات رنة حنان، نغمة مبهرة صداحة، من نغمات الوجود واستحالت لشيء جاف. فالجسد الإنساني صار مفرغاً من معناه وحقيقته في الخضم، لقد تشيأ وأضحى محض مكان مجوف داخل مكان.
أواصل تحديقي ودفقي الحار يغمرني، كنت وكأنما أفرغ كل مؤنتي المنوية في هذه المشاهدة، كنت أتحرر من عبئها الطويل، وكنت أشعر بها حية للمرة الأولي. ما أعظم التحديق في إمرأة، إمرأة حية وحقيقية.
لا ينسرب الوقت كنداء عادة إنما يتدفق، بنبض ولحن عذب وأصوات، ويصير عمرك قيمة، ليس في رسمية مألوفة إنما افناء متعمد.
أليست حياتنا في وجهها الآخر الحقيقي هي إفناء؟!.
واصلت الفتاة اغفاءتها الغامضة المباركة وواصل منيي تدفقه العذب وجهي بملامح طيبة، أصابع يدي اليسري علي جبهتي تمسدها بحنو والأخري على ركبتي اليمنى تتحرك في شكل دائري. أي مصير يمكن أن يحياه المرء بلا إمرأة كهذي؟ لم تقم الحروب والمجاعات وأفواج اللاجئين والمجانين والمتطرفين والقنابل إلا لأجلها، لأنها لم تكن موجودة طيلة كل هذا الوقت..لأن العالم كله افتقدها، حقيقة!!.
أواصل تدفقي، وتواصل اغفاءتها الغامضة، الشمس كأنما تنغرس في قسماتها السمحة، تؤكد وجودها بغيرة غير مبررة على الاطلاق، وهي تواصل اغفاءاتها الغامضة، تتحرك ببطء ولذة، كان الجنس يسيل منها للعالم، انها إلهته الجديدة القديمة، جاءت للتو من انقاض معبد روماني، جاءت مبعثرة كحدث صاخب، بكل تشظياتها في الماضي ونزلت في بحر اللحظة المائر الماكر.
تنتظر جلجماشها وتنظر لكائناتها بوادعة وتغفو في وسطها بلا اكتراث، لا احد يقترب من الملكة، لا احد..
لمرة واحدة فتحت أعينها بتكاسل واضح ونظرت تحديدا إلي، وبسرعة سحبت بصرها مرة أخرى إلي داخلها، كأنما أبصرت لا شيء، كأنما كنت أنا اللا أحد.. لم يسري تياري تجاهها كما ينبغي وما كنت ارغب.. عظيمة هي المرأة التي لا نحظي بها، والأعظم منها أطلاقا هي التي لا نسعي لأمتلاكها أو الاقتراب منها، نحتفظ بها في خيالنا كصورة عابرة، كرسم ملكي مُذهّب، كمبعد للصلوات، في غرف الذاكرة.
لم يكن لأحد أن يجروء على الاقتراب، وكان منيي يتدفق بعذوبة مثل لحن طويل، وأشعر به الآن أسفل قدمي يتمدد حاراً، حارقاً، خارقاً برائحة القمح. وكنت أتمدد أنا أيضاً رأساً، أعلو وأعلو كأنني أتهيأ للطيران أو أطير في الحقيقة، صرت خفيفاً كالضوء. متصاعداً لأعلى كدخان بخور طيب.
كانت أفكاري تتسرب مع الهواء برائحة صحف ومجلات قديمة، النصوص تتساقط أحرفها وكلماتها. أبصرت بينما أحلّق مجلة "الكرمل" عدد العام 84 يخرج من رأسي باتجاهين منشطراً، حلقت الصفحات كأنها طائر خرافي بأجنحة، وفي مدي البصر أمامي خرجت من بين الانشطارين قصيدة درويش الجديدة حينها "يطير الحمام يحط الحمام" أعدي لي الأرض كي أستريح فاني أحبك حد التعب"، كانت كلماتها مُذهّبة، وأحرفها تضيء وجهي، وحروف الترقيم كأنها يرقات عذبة تتمدد في الهواء. والتشكيل انفجر أمامي كحديقة معلقة بألوان زاهية، كان صوت درويش بعدها يدخل في مشهد النص خفيضا، متوسلا " أحبك، أعدي لي الارض كي أستريح، فاني أحبك حد التعب"، يطير الحمام يطير الحمام أنت بداية روحي وأنت الختام، يطير الحمام، يطير الحمام، يطير الحمااااام".. بينما كنت أتصاعد مثل دخان بخور التيمان، خفيفا وحرا، أتصاعد برائحة دفق أول، احتلام صبي شرس، وشهقة مقدسة، ومني المبارك يسيل أسفل قدمي، أطير لأعلي بينما تنفجر النصوص من رأسي، والأصوات من حولي تتناهي كسولة ولا تنتبه ولا آبه، أركز في الفتاة التي أمامي وأحلّق، لا شيء يشدني لأسفل هذا العالم.
لا شيء يربطني بشيء، أنا الان خفيفا لطيفا كدفق من النور، أحلق بينما يتصاعد دخان من رأسي مثل دخان بخور التيمان، خليط من مرح طفولي وصباح عيد ورائحة ثوب عريس في صبحيته الأولي, أنا الآن عريس هذا الفضاء، لقد تزوجته كله، والتحمت بجسده المهول، لقد غزوته بمنيي..أتحدت مع ذراته كلها، ومنيي هذا الذى يسيل بكرم وعِزة.. يسيل بينما أتصاعد، مع هواء لطيف، يخرج من رأسي عالم غريب يسير بعضه محاذاتي لبُرهة ويغادر مُنطلقاً بخفة لاتجاه غير محدد، كان يتحرر في الحقيقة، وبمثلما تخففت منه، تخفف هو مني، آه كم نكون أيضا ثقلاء على ثقالتنا، نثقل عليها بمثلما تثقل علينا، ونرهقها بقدر ارهاقها لنا.
لا شيء عبثيا في هذا العالم أو مجاني ولا شيء أيضا ذا قيمة، فكرت.. غير هذه اللحظة، الفتاة التي لا يصلها أحد وبينما تصاعدت حتي النهاية هناك في البعيد، لمحت اغفاءاتها، وابتسامة ما عذبة ترف علي شفتيها تمنحها رضا عميق، لاحظت تنهدها الجامح، ارتعاشها، ""أووها"" لقد بدأت تستفيق، بدأت تتحرك، أخذت ملامحها تتغير بدت في أول الأمر كزهرة نرجس لمعبد آمون وسرعان ما تحولت لشكل طائر مقدس، هُدهد، سبأٍ بنبأ، مجسم لكمنجة قيد الصنع. وكان العالم كله تحتي بينما أتصاعد وينزلق منيي مثل مطر لطيف متواصل. قام بيني وبين الفتاة باغفاءتها الغامضة كجسر. وتمددت أنا بطول المسافة. وبينما كانت هي تخضر وترتعش بأورجازم عظيم..
اختفت ونبتت مكانها غابة من الأطفال.
محمد فرح وهبي
من مجموعة “ مصائر".