الخالق في انتظار فردوسه

18 أغسطس  .   5 دقائق قراءة  .    309

 

 

-1-

هل هناك ما يدلّ على أنّ العمل في حد ذاته لعنة؟  لعلّها فكرة شائعة أنّ العمل هو رمز للشقاء الأرضي وأنّ الحياة الأخرى تتميز بالنعيم والفراغ من هذا الشقاء.  ولو سألنا عاملاً يكدح طوال النهار وربما في بعض ساعات الليل أيضاً ليحصل على قوته وقوت أولاده ربما سيتفق مع هذا الرأي الذي يصوّر العمل بأنه نقمة حقيقية؛ فهو لا يأكل الخبز إلا بعد التعب والإرهاق والألم، ممزوجاً في كثير من الأحيان بالذلّ والإهانة وقلة الاحترام لشخصه ومشاعره وكيانه الإنسانيّ ككلّ. ولكن إذا سألنا فنّاناً أو كاتباً أو رسّاماً أو صاحبة ورشة منزلية لتصنيع الزيوت الطبيعية أو غزل الصوف، فالنظرة للعمل ستختلف جذرياً، وسيظهر العمل ليس كبركة فحسب، بل كمرادف لقيمة الحياة بأسرها والمعنى الذي يملأ حياة الإنسان ويمنح شخصيته تفرّدها.

 

-2-

يرتبط العمل في أذهان البشر بالنقمة واللعنة، ويعود هذا الأمر لأسباب عديدة، أحدها نظريّ دينيّ؛ فوجود الكثير من الأقوال والعظات والقصص التي تمجّد فائدة العمل وقيمته الاجتماعية لا ينفي النظرة الجوهرية في بعض النصوص الدينية الأساسية بوصفه مرتبطاً بسقوط الإنسان وفقدانه الحالة الفردوسية؛ فسفر التكوين يورد مثلاً هذه اللعنة المرتبطة بحالة الإنسان في حياته الدّنيا: "مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ.  بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا." (تكوين 3) يُضاف إلى ذلك ارتباط الأعمال بكثير من القيود والمعوّقات العملية والآلام الاجتماعية والجسدية، فالعمل مرتبط بالاستغلال وبالإرهاق والمرض والإصابة الجسدية والإعاقة والموت.  ومن ناحية أخرى يرتبط العمل بوضع الإنسان الاجتماعي وحالته الاقتصادية وبجزء كبير من وضعه النفسي والقلق بخصوص مستقبله والمعاملات اليومية والخشية من عدم القدرة على الاستمرار والتطوّر والحفاظ على المكانة وما شاكل ذلك من أمور لا تنتهي، تتجلّى كلها في مصطلح هو "عدم الأمان" من جرّاء حالة التحوّل المستمر الذي يقع العمل في مركزه.

 

-3-

ولكن العمل ليس مرتبطاً بأمر خارجيّ مفروض على الطبيعة البشرية الأصلية وليس أمراً يقتحم وظيفته الأساسية وكينونته. يجب أن نفرّق بحزم بين "العمل" و"الكدح".  فلولا العمل لما كان الإنسان إنساناً.  ولعلّه من الصعوبة بمكان تخيّل الإنسان بلا عمل يقوم به، ليس لأن الإنسان مرتبط جذرياً بالبؤس كما تشجّع النظرة الدينية على النظر إلى الأمر (ولهذا نجد مثلاً معظم التصورات الفردوسية تصوّر النعيم الأبدي حالةً من الراحة من العمل، لا بل ربما حالة من الانغماس في الملذات المجّانية أحياناً)، بل لأنّ العمل، مجرَّداً من أفكار الاستغلال والمرض والإصابة والتحوّل المستمر والهدم والنقض والموت، ليس مدعاةً للبؤس أبداً.  فالفنّان وأيّ مبدع أو مبدعة، ممن يعرفون أنه لا شيء يمكنه سلبهم متعة العمل، مستعدون غالباً للعمل المجّاني في مجال إبداعهم ولا يخافون الفقر ولا عدم نوال الشهرة، لأن العمل عندهم مكافئ للإبداع والخلق وليس نشاطاً يمارسونه ضمن أوقات عمل رسمي فقط؛ ففي حالة الإبداع لا يمكن لأي تحوّل في العالم أن يؤثّر على هذا العمل من حيث كونه محاولة لاكتشاف وخلق عالم جديد.  قد تؤثر التغيرات في مبيع الأعمال الإبداعية وشرائها وعرضها وشعبيتها، ولكن هذا التغير مرتبط بالعمل بوصفه نشاطاً اقتصادياً وليس بالنشاط نفسه إذا كان محمولاً على جناح إرادة الحياة بوصفها مغامرة رابحة حتماً، والربح هنا يتجسّد في الاكتشاف وفي إدراك جوهرية الخلق الحرّ ضمن الوجود الإنساني.  إنّ البؤس في النشاط العملي يأتي من الشعور بأنه مفروض ومن الخوف أن يكون جهداً يذهب أدراج الرياح.  والإبداع لا هذا ولا ذاك، فحتى دفن العمل الإبداعي مع صاحبه هو ظاهرة سلبية ومؤسفة في عالم الثقافة فقط، وربما يكون كارثة قومية، ولكنه ليس كذلك في العالم الكينونيّ الجوهريّ للمبدع نفسه، لأنّه أدى مهمته الأصلية خلال عملية خلقه. الاقتناع بهذه المسألة يجعل العمل حالة فردوسية جديدة.  أما سهولة الاقتناع بهذه الفكرة فتحدٍّ آخر.

يرتبط إذن العمل بوصفه خلقاً بحالة حبٍّ توحّد الذات وموضوعها في كينونة جديدة.  ولعلّ هذا ما نصطلح على تسميته "هواية".  فالهواية هي ما نهواه، وهو ليس مجرّد نشاط نمارسه لتزجية الوقت أو تمريره في غفلة من الحياة الحقيقية، بل هو تجلٍّ من تجليات الحقيقية- حياة الحرية. وكبرهان إضافيّ على ارتباط العمل منظوراً إله كنقمة بحالة شرطية معينة وليس بالعمل من حيث هو، نرى أنّ النصّ الديني الذي يشكل الأساس النظري لهذا التصوّر المخيف للعمل يربط بين العمل من جهة وعدم الاستجابة التناغمية من البيئة الطبيعية من جهة أخرى؛ فالإنسان يعمل ولكن الأرض ستنبت له الشوك والحسك.  المشكلة إذن في النتيجة وليس بالعمل نفسه.  المشكلة في العلاقة بين الإنسان وبيئته، بعدم الانسجام وفقدان التناغم على أعمق المستويات الكينونية بينهما، أو قل في أعمق بنى اللاوعي التي لا يمكن إدراك كنهها ولا حتى إدراك وجودها؛ فالإنسان الفردوسيّ بحسب أسطورة الخلق هو إنسان عامل (تكوين 2) وكان العمل جزءاً من كون الإنسان إنساناً؛ فالعمل الذي يخلو من الاستغلال ومسببات المرض والإعاقة والموت والتغيّر الهدّام ونقض الأسس الراسخة ليس نقمة بل نعيم سماويّ- إن صح التعبير.  إنه السبيل الوحيد لاكتشاف الإنسان لنفسه وللعالم.  وحتى كتابة هذه السطور تجعلني أكتشف مفهوم العمل نفسه بطريقة لم أفكّر بها سابقاً. إنّ عمل الكتابة على سبيل المثال هو سبيل لاكتشاف الأفكار الطافية في الذّهن، وليس مجرّد نسخ لما هو موجود في هذا الذّهن.  الكتابة نفسها تولّد الأفكار، فتمنحني القدرة على اكتشاف المزيد عن نفسي ومفاهيمي وظنوني وأوهامي واستجاباتي وتفاعلاتي مع عملي الآنيّ ككاتب لهذه السطور وكساردٍ لهذه الحجّة.

 

-4-

الأمر الرئيسي إذن الذي يحكم تصوّرنا لمفهوم العمل هي أفكار نظرية مرتبطة بوقائع عملية موروثة وملحوظة عبر التاريخ، ولعلّها تتلخّص جميعاً بحقيقة "التغيّر" و"الجريان". إنّ العالم يجري، والعمل في صُلب هذا الجريان المخيف، الذي نعرف بالحدس أنه يأتي بعوامل تهدم ما نبني وتفرّق ما نجمع، وربما يأتي بالكوارث، تماماً كما أنه قد يأتي بما هو جيّد ومحمود ومفرِح.  نحن لا نرتاح لفكرة التغير مهما حاولنا تدريب عقولنا على الاقتناع بحتميتها وضرورتها القصوى لحياتنا.  هذا لا يعني أننا نرغب بالجمود والاستكانة.  ولعلّ هذا التأرجح بين طرفين نعرف جوّانياً أنّ كليهما غير مرغوب بشكل كامل هو ما يجعل العمل محاطاً بهذ الهالة من الغموض والقلق.  والأمر كله مغموس بتيّار من الانطباعات المتذبذبة وغير الواضحة.  فكثير ما تتملكنا فكرة أن الأشياء تسير نحو الأسوأ، وهي فكرة تمليها أحياناً وقائع خارجية بالإضافة إلى عوامل نفسية داخلية مرتبط بالتجربة الشخصية وعوامل أخرى مثل المرض والتقدم بالسنّ والتصوّرات الخيالية والذكريات وعملية المقارنة بين الماضي والحاضر والتكهّنات والندم وكثير من الأمور الأخرى الطبيعية التي تمرّ بكل إنسان على وجه هذه الأرض.

لو توقفنا إذن للحظة وتخيلنا ماهية "العمل" في عالم مختلف الشروط، مهما كانت عملية التخيّل تلك صعبة ومحدودة، ربما سنفهم شيئاً عن حقيقته وجماليته.  فإذا كان يوجد فردوس فوق مستوى هذا الوجود الحاضر، أي حالة كينونية أعلى من حالتنا الراهنة، فلعلّه من المنطقي أن نتصوّر أن تكون طبيعة الجريان فيه- إذا جاز تصوّر وجود مثل هذا الجريان- معاكسة لطبيعته في عالمنا الراهن.  وهكذا، فبدل قانون الاضمحلال والموت يسود قانون الارتقاء والتجدّد المستمرّ، وبدل الحركة الانهدامية يسود النماء المتواصل، وبدل دورة الفصول الدائرية نكتشف حالة من التفتّح والسيرورة التقدمية، وبدل الغموض الذي يحيق بكل ما هو قادم يحلّ اليقين بشأن جمالية اللغز العتيد أن يتكشّف.  في وجود كهذا يكون "العمل" أداة حقيقية للارتقاء، وكل تغيّر يكون "تقدّماً" بالفعل نحو غاية مضمونة الطبيعة حتى لو تكن مكشوفة الكيفية.  هنا يكون الإنسان عروساً يتساءل فقط عن مقدار جمال عروسه ولا يشكّ به أبداً. فالتقدّم لا يكون تقدّماً إذا لم يكن نحو غاية، هي دائماً غاية الغايات في كل لحظة تسبق تكشّفها، وهي تُدرَك أو تُكتَنَه لحظياً كنعيم وسعادة من دون أن يستهلكها الإدراك فتستحيل ضجراً. "العمل" في العالم الفردوسيّ يعود إلى ما هو عليه في الأصل: اكتشاف مستمرّ لما هو جارٍ في اتجاه واحد، لا يفشي تفاصيله قبل ورودها إلى حيّز الإدراك.  وهل يسأم إنسان إذا علم أن مجرى النهر يسير في هذا الاتجاه وليس ذاك، أم ينتظر دائماً اكتشاف جمال الضفاف وتغيّرات الضوء اللانهائية على صفحة التيارات المتدفقة والأمواج التي لا تحصى؟

وفق هذا التصوّر يكون الفردوس عملاً كعملنا اليوم من حيث ماهية النشاط، ولكن مع تغيّر شروط العالم الذي تجري فيه الحوادث، لأن الخلل الحاصل اليوم هو خلل في نسيج البيئة المستضيفة لعملنا التي يسود فيها الاضمحلال والموت من جهة وخلل في طبيعة العلاقات التي تحكم عملنا من جهة أخرى، والتي لا تنظر إلى العمل كوسيلة للاكتشاف والانكشاف بل كوسيلة لممارسة القوة وكسب السلطة والنفوذ على الآخرين.  العمل اليوم بابٌ للرزق وليس باباً للفرح، هذا في العالم التقليدي، أما في عالم السوق فالعمل إلهٌ نتعبّد له نهاراً ونأكل أطرافه ليلاً لنعيد بناءه فجراً، وذلك في دورة سيزيفية مقيتة.

هكذا أتخيّل كيف يكون "عملي" ضمن وجودٍ أعلم أنه لا يمكن تسوء شروطه ولا يختل اتزانه ولا يتمزّق نسيجه ولا يمكن أن يكون مسرحاً لأحداث مأساوية.  سأكون حينها في موقف من ينتظر هدية من شخص حبيب.  والمنتظر في وجود كذاك لن يكلّ حتى لو انتظر عشرات السنين، لأنه في انتظارٍ لا يخاف الغدر ولا يتمكن منه السأم، فجوهر السأم قلقٌ مما هو آتٍ أو خوف من أن يبقى كل شيء على ما هو عليه.  الانتظار يخيف في عالم يكون الترك فيه إمكانية واردة والنسيان قاعدة والهدم دستور طبيعيّ والتفكّك حتمية ولو بعد حين.  بهذا المعنى، لا تكون التسلية هي النقيض الحقيقيّ للسأم ولكنه اليقين بالارتقاء نحو ما هو أكثر استنارةً وأكثر حلاوةً على القلب وأمام العينين- اليقين المطلق الذي يندر أن يزورنا الآن أو يطلّ من شبابيك بيوتنا.  وما أطيب أن نعرف ان الزهر الذي نسقيه اليوم سيتفتّح بكل فتنته المتوقعة في يوم ما حتى لو لم نكن نعرف بعد مدى فتنته ومقدار إشعاعها.

 

4و18 آب 2021

 

  4
  3
 0
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال