03 يناير . 5 دقائق قراءة . 645
يبدأ وجود الإنسان منذ أن يعي ذاته، ويشكل هذا الوعي نقطة أولية وتحولية في إدراكه لحتمية الصراع بين محدودية الزمن ومُطلَقيّة الروح البشرية التي تريد تجاوزه، هذه المسيرة هي مواجهات متواصلة تختصر بعبارة الرغبة وسقف الواقع.
لذا، لابد من أن نمر بضغوطات وأن نصطدم مع الواقع، وذلك ليجعل منا أكثر وعياً وإدراكاً لمنطق سير الزمن والحياة، أي حتمية الصراع الذاتي والموضوعي. مما يدفع كلاًّ منا، حسب مستوى وعيه إلى تغيير مواقف قيمية أو تعديلها وتبنّي مواقف جديدة وخيارات أخرى بديلة يجدر أن تكون أكثر وعياً وتفهماً وأكثر شمولية للرؤية العامة، بمعنى أن تكون منطقية أكثر منها واقعية، فليس ضرورياً أن يكون الواقع حسناً لنكون مثله، مما يحدو بنا لأن نقف ونرى الأمور من زاوية أخرى جديدة.
والزاوية المختلفة هي أن نفهم وندرك الحياة على حقيقتها كما هي!، وأن نسعى مع شخصنا في علاقتنا مع ذاتنا لأن نحقق ما يجب أن نكونه والبداية على المستوى الشخصي، لكن لا يجوز، في هذه العملية أن نخسر ذاتنا الحالمة وأفكارنا وقيمنا المثالية، بحيث أن نقبل هذا النزاع بين الحلم أو بالحري الأفكار المثلى وجواهر القيم، أمام ضبابية الواقع والبيئة الملوثة التي تحيط بخارجنا وتضغط على مثاليّتنا.
من هنا ينشأ مبدأ الحركة الإنسانية، ومن هذا الحراك تستمد الروح البشرية مفهوم وجودها. هذا يعني، ألّا نكون هشّين أمام كلِّ موقف نتعرض له. والمقصود فيما ذكر بالهشاشة هي حقيقة ظاهر الأمور الحياتية بالنسبة لكل إنسان على أن يكوّن قناعة وتبنّي لما لا يمكن الهروب منه! فكل شخص يمرض ويتألم ويشعر بالضعف الجسدي أو النفسي، ينهزم، يتفاجأ وينصدم، ينتقل من مرحلة عمرية إلى أخرى ترتبط بكشوفات وفتوحات داخلية وخارجية متغيرة. وهذا أمر يوميٌّ مفروغ منه مرتبط بحقيقة طبيعتنا الإنسانية المبعثرة، والتي إحدى أهم رسائلها إعادة الوحدة لأجزائها (توحيد رؤية التجاذب العكسي: الجسد والنفس، العقل والروح). لهذا واحدة من واجبات التربية هي أن نضع هذه السلّة من المعلومات أمام الشخص بما يتناسب مع كل مرحلة انتقالية كي يشعر لو بالحدّ الأدنى أنه مهيأ للدخول لمحطة أخرى. علينا أن نساعد الفرد بوضع عدّة خيارات ينتقي منها ما يناسبه، لا أن نفرض حلولاً أحادية تحدُّ من شخصه واستقلاليته.
إذاً؛ علينا أن نكون موضوعيين –ما استطعنا- في قراءتنا للواقع وتحليلنا له، وأن نحاول بناء منظومة أهدافنا الكبرى والصغرى بشكل يوائم بين الغاية (تحقيق الذات) والممكن (حقيقة الواقع). من غير الجائز التأفف من أبسط الأمور حتى لو تراكمت. الروح الانهزامية والسلبية المفرطة والسوداوية في تلقّي مفرزات المحيط ومعالجتها وإعادة تشكيلها فينا، أو بالأكثر ما تعيد تشكيله هي فينا، يؤول بنا إلى توجّه انحداري متسارع.
المطلب الأساس هو أن نكون أكثر قوة وصلابة في تلقّي مفرزات واقعنا الاجتماعي، أن نكون قادرين على تكوين موقف واضح وواعٍ يرسم حدود العلاقات المتشعبة. أما الوجه الآخر فهو في العودة إلى الذات مع نفسها والاستمرار في بناء "الحلم الممكن" كي يكون قادراً على أن يترجم نفسه كحقيقة ملموسة تجعلنا نشعر بالتغيير والوجود الممكن والفاعل القادر على نقلنا من حالة إلى حالة أفضل، وإن كانت على مستوى وعينا الداخلي الفكري الشخصي، أو أكثر عمومية كنقلة نوعية على مستوى الحضور الخارجي وفي علاقتنا مع المجتمع ككل والآخرين كأفراد.
هذه الفلسفة لا تتحقق إلا من خلال هذا الصراع الثنائي بين الذات مع كينونتها من جهة، والذات أي التي تشاء أن تكون وأن تترك أثراً لها، تلك الذات التي اكتشفت يقيناً رسالتها أنها معنية بكل أمر وفكرة وغاية فضلى وأنها في الوسط وتمثّل مركزية تحقيق هذه الجواهر من خلال الإنسانية، وليست على الهامش تسند وتتسنّد بجدران الحياة وتعدّ أيام عبورها. على هذه الروح تجسيم دورها الذي ليس فقط في حدّها الوظائفي بل في دعوتها الانطولوجية.
هكذا تنعكس مع محيطها إلى أن تجد استقراراً، علماً أن الروح الحرّة لا تعرف سكوناً فهي تستقر في جموحها ورغبتها في صعودها، في أن لديها على الدوام همٌّ يؤرِّقها. هذه الروح الحاملة للإرادة المستقلة بفرادتها والتي بذات الوقت تنتمي وتحترم أنها نتاج مركَّب لخبرات متبادلة بينها وبين الجماعة إيجاباً كان أو سلباً. هذه الحقيبة المعرفية هي موقف الإنسان من الحياة ونظرته للكون والمصير ونزعة