04 يناير . 5 دقائق قراءة . 748
كانت كل معلمة تفرض على صف من الصفوف مبلغا من المال، فندفع في المرحلة الابتدائية صباح كل يوم سبت قرشا من مصروفنا آنذاك، فيما تزداد الضريبة تصاعديا على الصفوف الأعلى. تبرير الضريبة كانت تندرج تحت بند تخصيص تلك المبالغ لشراء المستلزمات الصفية، كالمساحة والطباشير وإصلاح زجاج النوافذ المحطمة. بدأت بتشكيك رفيقاتي في الصف الخامس الابتدائي برواية المعلمات تلك، أكدت لهن أن الدولة هي المسؤولة عن توفير مستلزمات المدرسة، لم يكن هناك مجالا للشك في تأكيداتي، خاصة وأني تلميذة مستجدة، حيث جئت من مدرسة في محافظة أخرى- إذ لم تكن مدرستي السابقة تجمع نقودا من التلامذة، والتي هي حقنا المشروع في شراء قضامة وبسكيوت من مقصف المدرسة. شرعت أجتمع بالرفيقات المستاءات خلال فترة الفرصة تحت شجرة كينيا في زاوية الساحة، كنت متنبه طيلة الوقت لأيّ "داسوسة"تدخل بيننا من صف آخر، -خاصة الكبار فهن أكثر جبنا- خشية إفشاء السر وإجهاض التنظيم قبل نضوجه، أقنعت العناصر بأن هدف المعلمات إنما هو جمع فروقات تنقلاتهن من قريتنا الى أماكن سكناهن في المحافظات نهاية كل الأسبوع. تغلغت أفكاري في الرؤوس الصغيرة، التي حزمت أمرها بضرورة إنفجار اللحظة الثورية، التي طال انتظارها، بعد مجيئي كمبشرة بالعدالة والحرية ورفض الإملاءات المجحفة. في يوم خميس -كان ينتهي الدوام في العاشرة صباحا-إجتمعنا على عطفة خارج سور المدرسة، تم الاتفاق على تنصيبي رسميا كمتحدثة صباح السبت، ذلك يعني مواجهة المديرة التي جاءت منذ شهر، وتولت بنفسها جمع المكوس من الصفوف دون الاتكال على المعلمات كما كان سابق العهد. اشترطت على الرفيقات أني في حال وقفت -وكنت دائما ما أجلس في المقعد الأول لقصر قامتي إن يبادرن بتأييد موقفي برفض الدفع مهما كانت النتائج وذلك ما تم إقراره في تلك اللحظة الحاسمة. كما هو متوقع دخلت المديرة، توقفت معلمة الرياضيات عن الحصة- مازلت أكره الحساب -أشارت بيدها نحوي، قالت: يا الله هاتي.. قلت: معيش مصاري.. شعرت أن رذاذ فمها لامس وجهي... أردفت هائجة: شو وليه، كبرانه براسك.. وقفي... وقفت، قلت: كلنا معناش مصاري ومعناش ندفع، وهاي البنات إسأليهن... نظرت في الرفيقات شزرا وسألتهن: صحيح بدكمش تدفعوا..... التفت خلفي كي أرى ردة فعل الأعضاء، فرأيت التنظيم قد تهاوى عن بكرة أبيه، كل الرفيقات يجلسن في مقاعدهن كالدجاجات المبتله، وحدي أقف كقشرة فستق أمام وهج النار... بدأت همهمتهن، لا ياست ماحينا هيك، بدنا ندفع، جبنا مصاري. حدقت بي المديرة ثم أطلقت في وجهي شتيمة شقت بكارة الدنيا... شتمت والدي... ورب الكعبة، لا زيادة ولا نقصان، ذلك ما جرى فلا يستغربن أحد الموقعة..... استجمعت قواي، شعرت بحرارة أنفاسي تضرب أرنبة أنفي، ردت عليها الشتيمة بذات المستوى تماما... طردتني من المدرسة، حملت حقيبتي وعدت إلى البيت مطرقة الرأس، لم أخبر جدتي بالحادثة، وبقيت أنتظر آذان العصر، فالعصر موعدي لكي أذهب إلى سكن المعلمات، حسب رغبة معلمة اللغة العربية التي وقتئذ تدربني على حفظ وأداء الأناشيد استعدادا للاحتفال بعيد الأم..... يا لوقاحتي.. ذهبت وكأن شيئا لم يقع... فوجئت المديرة بي ادخل عليهن... حدجتني بنظرة استغراب دون أن تتفوه بشيء... تدربت حتى انتهى المساء بصورة عادية جدا. في صباح اليوم التالي، ذهبت للمدرسة كباقي الأيام وكأني لم أطرد بالأمس... بعد مرور الحصة الأولى، جاءت المديرة، وقفت عند الباب، ثم طلبت مني الخروج معها، قلت لنفسي: إن كانت تريد ضربي فأنا لا أخشى العصا، أما إن كانت تريد استدعاء ولي أمري فذلك مستحيل-فهذه مشكلتي وحدي التي لا تخص غيري -... لم يحدث لا هذا البال ولا ذاك... نظرت في وجهي... قالت: آسفة حبيبتي، الله يرحم أبوك، ضمتني إلى صدرها بقوة.. تمشيت معها في الساحة، وأنا أجيبها على أسئلة شتى، كنت أحس بنظرات التلميذات تتسرب من أبواب الصفوف ونوافذها نحوي - إنه حلم مرافقة سيدة المدرسة- التي ظلت حتى انتقلت إلى مكان آخر، وهي تواظب على مودتها لي، بل كانت في بعض الأحيان تعطيني قروشا أو ساندوتش زيت وزعتر، بل أني تسلمت مفاتيح المكتبة.... وألغي في ذاك الزمن دفع الضريبة سالفة الذكر، وربحت وخسرن الرفيقات وتم وأد التنظيم يوم ولادته... عموما لا تثق بكل من قال لك أنا معك، فقد ينقلب عليك بطرفة عين وسهوها... ولا يستبعد انقلاب المراحل على الرموز.. المهم أن تظل أنت أنت... وتربح نفسك في موازين الربح والخسارة...!!!