07 يناير . 4 دقائق قراءة . 493
البطالة المستقبلية التي يتحدثون عنها هي أمر بديهي بالنسبة إليّ. أستغرب تفاجؤ البعض بالأمر.
صاحب العمل يهدف دائماً إلى تقليل عدد العمال قدر الإمكان. وبحسب الفلسفة الأخلاقية للرأسمالية يجب على العامل العادي أن يعيش في مستوى معيشيّ يتراوح بين الضعيف والوسط لكي يبقى محفزاً على العمل، فلا يفتقر كلياً للمال فيصيبه اليأس من العمل ولا يغتني فيهمل في أداء واجباته. (ويمكن مراجعة كتاب ماكس فيبر خول الخلاق البروتستانتية والرأسمالية بهذا الخصوص).
حقوق العمال التي وُلِدنا ونحن نسمع بوجودها ليست جزءاً رئيسياً من أخلاقيات العمل الرأسمالية ولا بديهية من بديهيات فلسفة السوق الرأسمالية في العالم الحديث، بل هي نكبة بالنسبة إلى معظم المشغّلين الكبار؛ ومعظم الأحزاب التي تناصر أصحاب العمل والتي تناهض الأحزاب العمالية والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية تناضل من أجل إعادة تحرير المُشغّل من بعض القيود (وبعضها مطالب مفهومة، لكي لا نكون ظالمين). هذه النكبة سببتها الانتصارات الكبرى التي حققتها الحركات العمالية التي استلمت الحكم أو شكّلت أحزاباً اخترقت الحالة السياسية الموجودة بشكل كبير وفعّال (ولا أتحدث هنا عن الدول الاشتراكية) في القرن العشرين في فترة سبقت ظهور التكنولوجيا الرقمية. وببساطة لم يكن المُشغّل قادراً على التحدي حتى النهاية فهو بحاجة إلى العمال الذين يديرون كل شيء ويقومون بكل الأعمال، وفي النهاية لا يستطيع إلا أن يرضخ لجزء من مطالبهم على الأقل.
ثم أتت التكنولوجيا الرقمية في زمننا هذا لتكون بمثابة المسيح المخلّص للشركات الكبرى، فالآلة لا تحلّ محلّ العامل فقط، بل تمكّن أيضاً صاحب العمل من التنبؤ بالنتائج ومن محاكاة العديد من السناريوهات بشكل قَبْليّ ومن إجراء ما يسمى اليوم بتحقيق الحالة المُثلى optimization. أصبح المُشغّل قادراً عبر برنامج كومبيوتر وبضعة معادلات على تخيل عشرات السيناريوهات واختيار أفضلها بطريقة كان من الصعب جداً لا بل من المستحيل إجراؤها قبل عصر الرقمنة.
مثلاً، وأضرب هنا مثالاً عشوائياً: يمكن للآلة ضمن معطيات معينة أن تخبر المُشغّل أنه ضمن سياق معين من سياقات العمل والدخل و...إلخ سيكون من الأفضل في العام القادم، لكي يحقق نموّاً مقداره كذا، أن يطرد مثلاً 29 عاملاً من الذين ينالون رواتب ضمن مجال معيّن، وأن يخفض سعر السلعة الفلانية والقيام بحركات متعددة أخرى. أصبحت الآلة فعلياً هي من تطرد العامل وتتحكم في خفض الأجور أو رفعها وما شاكل من إجراءات عن طريق التنبؤ والحسابات.
هذه الإمكانيات كلها متاحة وسهلة. ما يمنع تطبيقها هو أمر واحد فقط لا غير: وجود الدولة وقوانينها. هذا المقيِّد المُهَلهَل وغير المُحكَم هو المانع الوحيد من طرد عشرات ومئات آلاف العمال عبر العالم حتى قبل الكورونا وغيرها، وهو لم يفلح في منع هذا الطرد على أيّة حال، ولن يُفلِح في المستقبل. فالطرد يأخذ عدة أشكال، بعضها مباشر وبعضها غير مباشر يعتمد على دفع العمال إلى الاستقالة بأساليب متنوعة.
الرقمنة ليست تقنيات فقط، بل عقلية ومنهج تفكير. وعندما تتوفر إمكانيات كبرى وسهلة للoptimization سوف يكون هذا باب الجحيم الذي لا يمكن إغلاقه من دون كوارث كبرى أو قيام مفهوم جديد قوي وعصريّ للدولة. كلما ازدادت هذه الإمكانية قلت فرص "الصدفة" والserendipity التي لطالما عاش الملايين على حسابها بشكل أو بآخر. في النهاية لا يوجد ما يشير إلى أن عدد المهن والوظائف المتاحة بسبب الرقمنة سيكافئ عدد المهن والوظائف المحذوفة بسببها.
21 نيسان 2020 (منقّحة)