07 يناير . 3 دقائق قراءة . 293
إحسان عبد القدّوس
دقَّ بندول السّاعةِ القديمة في صالون منزل محمد عبد القدّوس مُعلنًا قدوم العام ١٩١٩. لكنّ أهل البيت لم يتعانقوا مُباركينَ بل كانوا منهمكينَ بولادةٍ أخرى. ولادةُ إحسان عبد القدّوس. طفلٌ متمرِّد لأُمٍّ متمرِّدة في عامٍ متمرِّد.
هل كان لهذا السيناريو حظٌّ لو لم تطأ رِجلا فاطمة أو روز اليوسف اللّبنانيّة ميناء الإسكندرية في ذاكَ اليوم من العام ١٩٠٠؟ هل كان لهذه القصّة نصيبٌ لو أكملت روز رحلتها إلى أميركا كما كان مُقَرَّرًا؟ ربّما. لكنّ القدر الَّذِي يخطُّ حكاياتنا، أرادَ لروز اليوسف المتمرّدة أن تلدَ إحسان عبد القدّوس المتمرّد في عام ١٩١٩ المتمرّد.
في ذاكَ العام الاستثنائيّ، خرجت مصر الّتي ترنح تحت الاحتلال البريطانيّ، مُحتَجَّةً صارخةً بكلّ عناوين كتب إحسان عبد القدّوس الَّذِي لا يزال رضيعًا. فهتفت مُردِّدَةً: أنا حرّة، مُهدِّدةً: لا أنام، مُندِّدةً: الرّصاصةُ لا تزالُ في جيبي. وللمرّةِ الأولى، خرجتِ النِّسَاء، على رأسهنَّ صفية زغلول، أمُّ المصريين، إلى الشّوارع مُتظاهراتٍ مُلفَّحاتٍ بأغطِيتهِنَّ لكنَّ أصواتهنَّ كانت طليقة وارتفعت عاليًا في الفضاء. ثورةٌ سيتنفّس إحسان ذو الأشهر القليلة هواءها وسيحتبس شِعاراتها في عروقه.
كَبُرَ ابن روز اليوسف ومحمد عبد القدّوس المُنفَصِلَينِ في بيئتينِ متناقِضتينِ. بيتُ جدّه الأزهريّ الملتزم دينيًّا وصالون روز اليوسف المنفتح على الفنّ والموسيقى والتمثيل والصّحافة. هذا التّخبّط المؤلِم ما بين الانغلاق التّام والانفتاح التّام، أوقعَ على كاهل إحسان الشّاب مسؤوليّةً كبرى. فشقَّ شرنقته وخرج منها رافضًا أن يعيش في جلبابِ أبيه أو عباءة أمّه. وتبلورَ هذا الكاتب غير شبيهٍ بروز اليوسف ولا يُماثل آل عبد القدّوس.
كاتبٌ جرِيءٌ وهو ما لا يُظهره شكله الخارجيّ الوديع. طرقَ أبواب التّابوهات وكسر أقفالها الصّدِئة. عرّى فساد النّظام قائلًا بضِحكةٍ صفراء: يا عزيزي، كلّنا لصوص. لم يختبئ يومًا وراء نظّارةٍ سوداء بل كشفَ عينيه للحقيقة وامتصَّ نورها حتّى الشُّعاع الأخير.
مئةٌ وعامانِ على ولادة إحسان عبد القدّوس ولا زالت أرواحنا تصرخ: أنا حرّة وقلوبنا تهتف: لا أنام وأصواتنا تُنادي: الرّصاصةُ لا تزال في جيبي.