قصة الخداع والبشاعة

شادي رزق

04 نوفمبر  .   7 دقائق قراءة  .    407

الصورة من البيمارستان النوري في دمشق القديمة وهو حاليا متحف طبي - عدسة الكاتب.

في منتصف الليل، وكل المحال مغلقة، ألوان أبوابها باهتة متسخة بدخان الزمن. المدينة معتمة، أشبه بقبو أشباح، يخافون من بعضهم إذا ما تحرك أحدهم. لكن الطقس جميل جداً، الهواء بارد يلامسك كحبيب يتجرأ لأول مرة ويجسّ يد حبيب. هدوء كصلاة راهب سارع إلى صومعته بعد ضجيج يوم طويل.

كنت أسير مسرعاً ألتفت لهذه التفصيل رغماً عني، كأنها تفرض نفسها عليّ لأنها لم تتغير، مرغمةً رهافة الشعور، واشتياقي لمثل هكذا ليل، لكنني أستصعب جداً وجودي خارج المنزل في مثل هذا الوقت!

إذا بي أصادف رجلاً في مثل عمري، ينهي حقبة ويتجه نحو أخرى، هكذا يبدو من ملامحه بشكل عام، بعدما ميّزت هذه التفاصيل، سخرت من نفسي وضحكت في داخلي وكأن هناك فرقاً بين عمرنا ومضيّ السنين.

 المُلفت به كان حالته، يقف متخذاً شكلاً صنمياً، يُذكّركَ بالأشخاص الذين يحصّلون رزقهم في شوارع أوروبا واقفين بثبات، ملابسهم ملونة بالذهب المعتّق، بطلنا هكذا كان، تسند قدماه أرض الرصيف في منتصفه دون انتباه، واحدة إلى الأمام والثانية بخطوة إلى الخلف وكأنك ضغطت على أداة تحكّم أثناء مروره. يده اليسرى في جيبه واليمنى تيبّست وهي تفرك جبينه. أما رأسه مرفوعاً بغصبٍ نحو سطوح المباني المظلمة، يبدو أن رقبة نفسه لم تساعده اتصل عيناه بالسماء.

انطبع في مخيلتي شكل العينين بدقة متناهية، لم تكونا شاخصتين، لكن بياضهما كجمرة مرمّدة، والسواد شاحب لا يظهر كاملاً لأن الجفن يغطيه مكتسياً برمش كثيف طويل. المميز بالمشهد هو بُعد التَرَقٌّب، لم يكن شارداً بالمطلق، بل يترقّب حدوث أمر يعلم جيداً أنه لن يحدث لا الآن ولا هنا. يخرج منه صوت عالٍ دون أن يتكلم يمكنك سماعه، "أضناني السعي، أنهكني الانتظار، كفى أيها السراب. أنا الرقيب بلا طائل، أنت أيها الضوء في آخر السرداب، أأنت الموت؟ أم خيال الكذبة؟ هل نحن نسير عليكَ أم أنك تسير تحتنا؟".

ثمَ فجأة فتح جفناه وكأنه رأى حلماً فيه امرأة بديعة، لكن عيونه بدت في موقف تحدٍّ سافر، وضغط على فكّه الأسفل، وظهرت على سترته ترددات الشهيق والزفير دون أن يتحرك، تمكّنت من اختلاس معالمها من كلامه معها الذي لم يقله، كانت تقف معتذرة وكأنها خجولة مما فعلته به، عيناها واسعتان ترجوانه بشدة وجرأة دون انتظار مسامحته، أما هو فحاول أن يغلق شفتيه محاولاً الصمت، وارتسمت على وجنتيه الكلمات كالترجمة في أسفل فيلم ساخر وممل "ماذا تريدين أكثر؟ ارحلي مع كلماتك الأخيرة، كلّما حاولتُ أن أنسى تعود لتذكرني. اخرجي من الأحلام، لن ينفع شيء بعد، خذي السلامة معك". وعاد لترقبه المُقفر.

الغريب أنني صحوت لنفسي، لأجدها مسمّرة تراقب رجلنا هذا، واقفاً على تقاطع حارة مع الشارع، أترصّد كنشّال الأفكار والمشاعر، نظرت حولي بسرعة، فرأيت من كان يتلصصني ويحلل، ومن يراقبه ويتخيل، وهكذا كنّا مبعثرين نتأمل بعضنا الآخر، كُلٌّ متخذاً وضعية التمثال التي يرتاح لها، في موقعٍ يوحي بشكله الخارجي بالسكون، لكن الرؤوس الممتدة كانت تغلي بالحسرة.

انحلَّ المشهد بلحظة، اشتعلت مصابيح الشارع كبرق، فهو موعد وصول الكهرباء، فتحول الحيُّ إلى حيوية وكأنه الصباح والمارة يهرعون إلى أعمالهم التي تأخروا عليها وهم لا يريدون تسجيل الدوام. هذا الضوء حرّكنا جميعاً وبدونا مندهشين وصرنا نسمع وقع خطواتنا المسرعة على الأرض والتي أصبحت تتبدد وتتلاشى تدريجياً كلما ابتعد أحدنا عن الآخر، كي لا يبقى في المكان سوى صدى قدمين وحيدتين تحملان كل منّا لتوصله إلى سريره، حيث تبدأ القصة الثانية مع ذكريات ما حصل منذ قليل على سقف الغرفة.

  4
  8
 0
مواضيع مشابهة

02 أغسطس  .  3 دقائق قراءة

  1
  2
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال