نيتشه ما بعد الحداثي

18 يناير  .   8 دقائق قراءة  .    902

يمثل كتاب نيتشه (إرادة القوة) أقوى تأكيد على موقف نيتشه الجذري من المثالية. هذا الموقف على وجه الخصوص هو الذي جذب انتباه المفكرين ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين على حد سواء. وهذا الموقف من المثالية أيضا هو ما يسمح لنا بتعيين نيتشه بوصفه مفكرا أفقياً. ولكن ماذا نعني حين نقول إنه مفكر أفقي؟


يمكن للمرء أن يخمن أن استدعاء المحور الأفقي يعني وضع الأفكار على مستوى واحد، ومن ثم فإن نيتشه ربما يقترح مساواة معينة في الفكر. أو ربما أن التفكير الأفقي هو الفكر الديمقراطي على وجه التحديد؟ والحقيقة هي أن الفكر الأفقي لا علاقة له بمفهوم المساواة أو الديمقراطية. فهو في الواقع لا يشير إلى أي نوع من التماثل، بل إن المقصود هو العكس تماما. فالفكر الأفقي حيث الأفكار غير قابلة للمقارنة. لأنه لا يمكن وضعها على مستوى أو مقياس؛ وبالتالي فالفكر الأفقي هو الفكر عن الاختلاف، وليس الهوية.


أشار نيتشه في العديد من المناسبات إلى المساواة والتساوي بوصفها مثال على نظام التشابه أو المِثل. على سبيل المثال، يقول نيتشه أن المساواة المثالية في الديمقراطية أو المسيحية هي المساواة المتجانسة على أساس "أخلاق القطيع ". وبالمثل، يدعي نيتشه أن المبدأ المثالي، والذي غالبا ما يُطرح من قبل "علماء الفسيولوجيا"، عن أن حياة الإنسان في نهاية المطاف يمكن اختزالها إلى "غريزة البقاء"، هو غائي غير مبرر ومثقل بالتجانس. حياة الإنسان هي مجرد نفحة من الحياة التي هي في الوقت نفسه (إرادة القوة). وما يقوض مبدأ (غريزة البقاء) هو كل الحقائق التي تناقضه (العنف، والتضحية، والمعيشة غير الصحية... إلخ). ويرى أيضا أن أي أسسية أو غائية، نسخة من المثالية، لا بد أن تنكر جانبا أو أكثر من الحياة المعيشية حتى تقدم نفسها بصورة متماسكة. لذلك يعتقد نيتشه أن المثالية هي إنكار الحياة، الإنكار الذي بلغ في الحداثة حد إنتاج تبعات وعواقب مَرضية. الحياة دائما وأبدا غير قابلة للاختزال، الحياة هي مجموعة من الاختلافات، وليست هوية متجانسة بحال من الأحوال. فالهوية يمكن تمثيلها ووضعها على مقياس بقياسات ومعايير مشتركة وعامة. ولكن الأفقية، بالمقابل، تشير إلى استحالة العثور على المقياس الذي يكفي تقييم الاختلافات ووضع تعميمات عن الحياة وظروفها والبشر فيها.


إقرأ أيضا: ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية


نيتشه أيضا كان أحد من ساهموا في اللاعقلانية التي عبدت الطريق أمام ما بعد الحداثيين في مواجهتهم الشرسة مع العقل، والوعي، والذات الواعية.

بدأ نيتشه ابستمولوجيا بالتوافق مع كانط بطريقة مفارقة: " عندما يقول كانط: إن العقل لا يشتق قوانينه من الطبيعة ولكنه يصفها للطبيعة" فإن ذلك، فيما يتعلق بالطبيعة، صحيح تماما". كل مشاكل الفلسفة، فيما يرى نيتشه، منذ سقراط إلى كانط سببها تأكيدها على العقل، صعود الفلاسفة الذي لم يعن شيئا إلا سقوط الإنسان، لأنه متى سيطر العقل، فإن البشر، يقول نيتشه في جينيالوجيا الأخلاق، " ما عاد لهم في وجه هذا العالم الجديد المجهول أحد من القادة القدامى، من تلك الغرائز الناظمة المسددة الخطى، ومن حيث لا يدرون ردوا إلى التفكير والنظر في العواقب والحساب وتركيب العلل والمعلولات، هؤلاء التعساء قد ردوا إلى عضوهم الأكثر بؤسا والأكثر عرضة للأخطاء". و"كم هو بائس وغامض وعابر وبلا هدف ونزوي هذا العقل البشري". ثم "ولأنه مجرد ظاهرة سطحية تعتمد على دوافع غريزية كامنة، فالعقل بالتأكيد ليس مستقلا ولا مسيطرا على أي شيء". ما يعنيه نيتشه، بتحريضه العاطفي أن نكون صادقين مع أنفسنا، هو الخروج من كل الفئات الاصطناعية والمقيدة للعقل. فالعقل هو أداة الضعفاء الذين يخشون مواجهة الواقع القاسي والصراع ومن ثم فإنهم يشيدون بنى فكرية خيالية للاختباء وراءها".


ما نحتاجه في (جينيالوجيا الأخلاق) لإخراج أفضل ما يمكن فينا هو: "الاشتغال المأمون للغرائز المعدلة اللاواعية أو حتى عدم التعقل". ليس نيتشه أول اللاعقلانيين، فقد ساهم كل من  شلايرماخر وكيركيغارد وشوبنهاور مع نيتشه بالإطاحة بالعقل عن عرشه، بل إن هيغل وكانط اللذين يظهران دائما بوصفهما ممن أعلوا مكانة العقل كانا أيضا، في الحقيقة، من أوائل من خلخلوا عرشه.


ويمكن تلخيص إرث اللاعقلانية الذي تسلمه القرن العشرين في أربع نقاط:

1- موافقة كانط أن العقل عاجز عن معرفة الحقيقة،

2- موافقة هيغل أن الحقيقة تصارعية متناقضة و/أو منافية للعقل،

3- استنتاج أن العقل مشوش بمزاعم مستندة على المشاعر والغرائز أو وثبات الإيمان وعليه، أخيرا

4- فإن اللاعقلانية تساهم في إنشاء حقائق عميقة عن الواقع.


إقرأ أيضا: عن التحول الباراديمي بين الحداثة وما بعد الحداثة


مات نيتشه مطلع القرن العشرين في الوقت الذي كانت الفلسفة الألمانية قد طورت خطين رئيسيين من الفكرــ الميتافيزيقا التأملية والابستمولوجيا اللاعقلانية. وربما أن ما كان ملحا حينها هو جلب هذين الخطين في توفيقية جديدة تمهيدا لفلسفة ستسود القرن الجديد ــ ما بعد الحداثة. ومن أنجز تلك المهمة لاحقا هو مارتن هايدغر.

  7
  0
 0
مواضيع مشابهة

25 يناير  .  10 دقائق قراءة

  2
  0
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال