25 يناير . 9 دقائق قراءة . 1573
كلمة ملحمة في الأصل تعني المعركة العظيمة حيث يكون القتال على أشدّه. أما الملحمة الشعرية فهي قصيدة طويلة تروي قصة وتقصّ حكايات حضارات أو شعب من الشعوب نجد فيها موضوعات كانت تشغل بال القوم ونظرتهم إلى الحياة والكون، ولغز الموت، والحب، والكره، والحقد، والقوة، والغضب، ...
أمثلة عن أشهرالملاحم: "الأوديسة"، " الإلياذة " عند اليونان، "المهابهاراتا" عند الهنود، " الإنيادة " عند الرومان، "الشاهنامه" عند الفرس، و ملحمة "جلجامش" ، وهي الأقدم ، من بلاد وادي الرافدين والتي هي موضوعنا.
أدب بلاد وادي الرافدين هو أقدم أدب وصل إلينا من العالم القديم.
ما يميّز هذا الأدب السومري والبابلي عن باقي الآداب العالمية القديمة أنه وصل إلينا على هيئته وبنصوصه الأصلية تقريبا على ألواح الطين المكتوبة قبل أكثرمن أربعة آلاف عام، بينما عانت الكثير من الآداب الأخرى من التحوير والإضافة على أيدي الجامعين والنساخ والشرّاح.
نجد في هذا الأدب، رغم قِدَمه، السمات الأساسية التي نجدها في الآداب العالمية الناضجة سواء أكان ذلك من حيث الأساليب وطرق التعبير أم من ناحية المحتوى والموضوعات والصور الفنية والعرض القصصي الروائي.
تعدّ ملحمة جلجامش الرافدية، من أطول، وأهم، وأكمل الأعمال الأدبية. كتبت قبل أربعة آلاف عام على اثني عشر لوحاً من الطين بخط مسماري ويحتوي كل لوح منها على نحو 300 سطر باستثناء اللوح الأخير الذي يحتوي على نصف المقدار والجدير بالذكر أن النص الذي وصل إلينا كُتب باللغة البابلية ولكن تبين بعد البحث أن الملحمة ترجع الى مصادر سومرية .
يعود زمن اكتشاف هذه الألواح إلى عهد الاستكشافات الأثرية التي قام بها أوائل المكتشفين من هواة الاّثار في مدن العراق الشمالية في القرن التاسع عشر .
ترجمت هذه الملحمة الى عدة لغات كالألمانية، والدانمركية، والفنلندية، والعبرية، والهولندية، والإنكليزية، والعربية،...
لا نعرف بالضبط مؤلفي هذه الأنواع الأدبية لأنها جُمعت على فترات، ولأنها تعبِّرعن ذهنية، وروحية شعب أو عدة شعوب، على امتداد فترات زمنية طويلة.
لقد مزجت هذه الملحمة الحقيقي بالأسطوري، والواقع بالخيال، وعالجت قضايا إنسانية مثل مشكلة الحياة والموت، والخلود.
تصفح ايضا:
تتحدث الملحمة عن بطل في مدينة أوروك اسمه جلجامش، وكان بتكوينه ثلثي إله وثلثَ بشري. كان جلجامش يستخدم قوته في ظلم وإزعاج السكان كما ورد في الملحمة:
لم يترك جلجامش ابناً طليقا لأبيه
لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
أهذا جلجامش راعي "أوروك" المسوَّرة؟
لم يترك جلجامش عذراء لأمها
ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل.
ولذلك اعترض أهل المدينة لدى الآلهة وطلبوا من إلهة الخلق أن تخلق بطلا قويا كي يكون غريماً لجلجامش فيردعه عن أفعاله. فاستجابت الإلهة "أورورو" وخلقت رجلا شديد القوة اسمه أنكيدو عاش في البرية وكان يأكل ويشرب كالحيوانات. ذات يوم، لمح صيادٌ أنكيدو، فأخبر جلجامش عن توحشه وقوته. أراد جلجامش ترويض أنكيدو كي لا يكون منافسا له، فأرسل مومساً مع الصياد كي تغري إنكيدو فينشغل بها عن كل شيء. هذا ما حدث فعلا إذ أقنعته المومس أن يترك عالمه ويذهب معها إلى أوروك ليعيش إنسانًا كسائر البشر.في أوروك، حدثت المومس أنكيدو عن جلجامش، وقوته وظلمه، ما أثار في نفسه الحماسة كي يواجه جلجامش.
صارع أنكيدو جلجامش، لكن كانت الغلبة لجلجامش كما ورد في الملحمة :
أمسك أحدهما بالآخر وهما متمرسان بالصراع
وتصارعا وخارا خوار ثورين وحشيين
حطما عمود الباب وارتج الجدار
وحينما ثنى جلجامش ركبته وقدمه ثابتة في الأرض ليرفع أنكيدو واستدار ليمضي
هدأت سورة غضبه
كلمه أنكيدو وقال له:
"انك الرجل الأوحد، أنت الذي ولدتك أمك "
"ولدتك أمك ننسونا البقرة الوحشية المقدسة
ورفع أنليل رأسك عاليا على الناس
وقدّر إليك الملوكية على البشر"
أصبح جلجامش وأنكيدو صديقين وخاضا سوياً معارك في غابة الأرز حيث قتلا
" خمبابا" الرهيب بمساعدة الإله ( شمش) كما ورد في الملحمة:
وتهيأ خمبابا للهجوم على الصديقين اللذين استحوذ عليهما الرعب وندما على المغامرة ودخول غابة الأرز
وأخذا يتضرعان إلى الإله ( شمش) ليعينهما على الخلاص من الهلاك،
فاستجاب لهما الإله، وانقلبت الآية
حيث أهاج "شمش" الرياح العاتية وساقها على "خمبابا"
فأمسكت به وشلت حركته فاستسلم لهما
وأخذ يتضرع لهما أن يبقيا عليه ويأسراه
فيكون خادماً لجلجامش ويجعل الغابة المسحورة وأشجارها ملك يديه
فرقّ قلب جلجامش وكاد أن يبقي عليه
ولكن صديقه أنكيدو حرضه على قتله فقتلاه وقطعا رأسه
وتنتهي مغامرة غابة الأرز بنجاح البطلين وعودتهما الى "أوروك"
عند عودتهما وقعت إلهة الحب عشتار في حب جلجامش فعرضت عليه الزواج لكنه رفض لأنها أساءت معاملة عشاقها السابقين. وردَ هذا في الملحمة:
أي خير سأناله لو أخذتك زوجة؟
أنت !ما أنت إلا الموقد الذي تخمد ناره في البرد
أنت كالباب الخلفي لا يصد ريحا ولا عاصفة
أنت قصر يتحطم داخله الأبطال
أنت فيل يمزق رحلَه
أنت قربة تبلل حاملها
أي من عشاقك من أحببته على الدوام؟
وأي من رعاتك من أرضاك دائماً؟
تعالي أقصّ عليك مآسي عشاقك
غضبت عشتار وطلبت من أبيها آنو أن ينتقم من جلجامش فيرسل ثور السماء العظيم كي يخرب أوروك :
" اخلق لي يا أبت ثورا سماويا
ليغلب جلجامش ويهلكه
وإذا لم تعطني الثور السماوي
فلأحطمن أبواب العالم الأسفل
وأجعل أعاليها أسافلها
وأدع الموتى يقومون فيأكلون كالأحياء
تمكن جلجامش من قتل الثور بمساعدة صديقه أنكيدو ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان إذ رأى أنكيدو رؤيا تنذر بالشر، فمرض، واشتد به المرض ومات. اعترى جلجامش شعور بالحزن على فراق صديقه، وشعور بالقلق والخوف من الموت:
اسمعوني أيها الشيوخ وأصغوا إليّ
من أجل أنكيدو خِلّي وصاحبي أبكي
وأنوح نواح الثكلى
إنها الفأس التي في جنبي
وقوة ساعدي
والخنجر الذي في حزامي
والمِجنُّ الذي يدرأ عني
بدأ جلجامش يفكر بمصيره ويسعى للخلود فقرر الذهاب في رحلة لمعرفة سر الحياة الأبدية من "اوتو نبشتم" لأنه استطاع بلوغ الخلود، كانت رحلة صعبة التقى في نهايتها جلجامش اوتو نبشتم الذي حدّثه أن الآلهة سعت للتخلص من البشرعن طريق الطوفان ولكن إله الحكمة أفشل المخطط. أعطى اوتو نبشتم اختبارا لجلجامش نجح به فأخبره عن نبتة تمكنه من تحقيق الخلود. وجد جلجامش النبتة بعد خوض الكثير من المشقات ولكن سرقها منه ثعبان في طريق عودته مما أبكى جلجامش فعاد فارغ اليدين إلى أوروك وقرر أن يكون حاكما عادلا كي يخلد اسمه بعد مماته وهكذا بقي اسمه خالداً حتى يومنا هذا.
إن ملحمة جلجامش تتعامل مع أشياء من عالمنا الدنيوي مثل الإنسان والطبيعة، والحب والمغامرة، والصداقة والحرب.. وقد أمكن مزجها جميعاً ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيسي ألا وهو «حقيقة الموت المطلقة».. إن الكفاح الشديد لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره المحتوم، عن طريق معرفة سر الخلود، من رجل الطوفان، ينتهي بالفشل في نهاية الأمر، ولكن مع ذلك الفشل يأتي شعور هادئ بالاستسلام، ولأول مرة في تاريخ العالم، نجد تجربة عميقة بهذا المستوى البطولي بأسلوب شعري رفيع، وهذا ما جعلها تنال إعجاب الناس في كل العصور، والأزمنة، لذلك وجدت أجزاء منها في أماكن عديدة خارج بلاد الرافدين، وتم ترجمتها إلى لغات كثيرة، ولاحظ الباحثون أن تأثيراتها وجدت في ملحمتي «هوميروس» (الإلياذة والأوديسا)، وهناك من قارب «اكيليس» بطل الإلياذة ورفيقه باتروكليس بالبطل جلجامش ورفيقه أنكيدو.
رغم قدمها، ورغم أنها شعر مترجم، إلاّ أن الملحمة شدتني ونفذَت إلى أعماقي وذلك لأنها تطرح أسئلة وجودية وإشكالياتٍ لم تزل راهنة حتى يومنا هذا. ولعل أعمق هذه الأسئلة سؤال الحياة والموت والخلود، وبعض أهم الإشكاليات في الملحمة إشكالية القوة والظلم. إذ اقتنع جلجامش آخرا أنه لا يستطيع الهروب من الموت، فقرر أن يكون عادلا حسن السيرة كي يخلد اسمه. وهذه رسالة لكل البشر كي يتعايشوا مع حقيقة أنهم زائلون، وأنهم بعيشهم حياتهم بسلام وبسعيهم للخير قد ينالون الخلود.
وهنا تحضرني بعض من الأبيات الأحب إلى قلبي، يجمعها سبب إلى فكرة الخلود:
قال أحمد شوقي:
دقات قلب المرء قائلةً له: إن الحياةَ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذِكرها فالذِكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
وقال الميكالي:
عُمرُ الفَتى ذِكرُهُ لا طُولُ مُدَّتِهِ وَمَوتُهُ خِزيه لا يومُهُ الداني
فَأَحي ذِكرَك بِالإِحسانِ تودعه تَجمعْ بِذَلِكَ في الدُنيا حَياتانِ
المصادر
- كتاب " ملحمة كلكامش وقصص أخرى عن كلكامش والطوفان " طه باقر-سلسلة الكتاب للجميع
- كتاب " حركية الأدب وفاعليته " د.كامل فرحان صالح. دار الحداثة-بيروت. الطبعة الثانية 2018
- موقع ويب:
https://www.marefa.org/%D9%85%D9%84%D8%AD%D9%85%D8%A9_%D8%AC%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B4