اختطاف

15 مارس  .   3 دقائق قراءة  .    611

 

يا لصخب هذا الاحتفال في رأسي.
منذ أيام ثلاث ترقص الأفكار في دماغي، ترافقها الذكريات، بينما يعزف لها الماضي على طبول الأحلام، والمخاوف هي المايسترو.  
أستفيق صباحاً منهكة، فأشتمها جميعاً... أتوعدها بالإبادة مساءً. تمد لي لسانها وتزعق "مجنونة"... لن تستطيعي.
الليلة... هذه الليلة سأبيدها عن بكرة أبيها، لعلي أناااااااااام.


كان هذا قراري البارحة. فتمددتُ على السرير وأنا أتملقها جميعها لتتحلق حولي، فأبيدها دفعة واحدة.
وإذ بها!... تتحلق حولي كغيمة سوداء، حاطتني من الجهات الأربع، ثم حملتني عالياً... عالياً، 

فوجدتُ نفسي في مكانٍ أشبه بقاعة محكمة.
أجلسوني في مقعد الاعتراف... وأعلنوا ضميري قاضٍ عليّ.
كانت محاكمة من "خارج الصندوق" فعلاً. فللمرة الأولى تتجسد أمامي أفكاري وأحلامي وذكرياتي ومخاوفي... 
بدأت المحاكمة باستعراضٍ راقص أدت فيه أفكاري فالس على مقطوعة لأندريه ريو...
وقفت وصفقتُ بحرارة وقلت: لم أكن أعرف انك راقصة ماهرة!
أجابتني إحداها: لأنك عمياء البصر، فلطالما رقصنا في الزوايا وأنتِ تسرحين بين أنغام اللحن.
ذهلت وأجبت: حقاً!؟
أجلسني مجدداً حلمٌ تركته يزوي منذ عشرات السنين وقال: والآن حان دور المحاكمة.


جاء حلمُ وعرَّف عن نفسه محامي الأحلام. 
قال للقاضي: لطالما قتلت صغارنا في المهد.
نظر إليَّ القاضي وقال: أجيبي...
لم أجب... بل جلستُ على الأرض أبكي وأركل كطفلٍ عنيد غاضب.
قال المحامي: ولما هذا البكاء الآن؟
أجبت: لماذا خذلتموني وتخليتم عني؟
أجاب بحكمة عجوز: وماذا فعلتِ أنتِ؟ هل حاولتِ التمسك بنا؟
بكيتُ مجدداً فقال: حسناً... حسناً اصمتي. لا داعي للبكاء.
فأجبت: أنتم تعرفون أن الظروف...
أسكتني القاضي بحركة من يده وقال: هذه هي "الشماعة" التي تعلقون عليها فشلكم في لبنان.
قلت بحزم: لا... أنت تعلم وضع البلد المأساوي.
أحسستُ بيدٍ على ذراعي، نظرت... فإذا هو حلم صغير بريء.
ابتسمت له بحب وقلت: أما زلتَ طفلاً.
أعطاني "بنبونة" وقال: لا أريد أن أكبر.
قال القاضي: هل تعترفين بجريمة قتل الأحلام في المهد؟

بكيت وأجبت: أجل... أعترف. لكن لدي أسبابي...
طرق القاضي بمطرقته على الطبل وقال: الاعتراف سيد الأدلة... 

أحكم عليكِ بتربية صغارها إلى أن تكبر، ومساندة شبابها إلى أن يحقق ذاته.  

دخل جيش جرار، ينفخ في آلة تشبه البوق. 
الذكريات... تولت أقسى ذكرى منهم دور محامي الدفاع.
تنحنحت وقالت: سيدي القاضي أطالب بسجنها من دون ماضٍ فهي ناكرة للجميل. 

إذا قدما لها ذكرى جميلة... بكت. وإذا قدمنا ذكرى أليمة... سخرت أو شتمت. وإذا...
قاطعتها وأجبت: هييي أنتِ، ألا تعرفين أن الذكريات المفرحة، تُحزن أكثر من تلك السعيدة؟
نظرت إلى القاضي وقالت: ما معنى ذلك سيدي القاضي؟
أجاب القاضي: معناه أن الذكرى المفرحة تبكينا لأنها لم تعد موجودة، بينما  تضحكنا الذكرى المؤلمة بسبب سخافتها.
صعقت الذكرى، ولم تعرف بما تجيب. فحاولت أن تلاعب طفلها لتشتت انتباهي.
قال القاضي: بنت يا لينا... ما قضيتك مع الذكريات؟
أجبت: تدخلني في حلقة مفرغة من الأحزان والأفراح، أكون فرحة، فتأتيني أبشع الذكريات وأقساها، 

أكون حزينة تظهر أسخف الذكريات وتمد لي لسانها... 

والله أبدو مجنونة حين تزورني... ساعة أضحك... وساعة أبكي. 
سأل محامية الذكريات: هل تعترفين بأنكِ ومجموعتك، تشوشين مزاج ونفسية المتهمة؟
سكتت الذكريات ولم تجب.
فطرق بمطرقته على الطبل وقال: حسناً... هذا اعتراف. 

أحكم على الذكريات بأن تحمل بعضها بعضاً بالتناوب طول العمر.
أجبت بامتعاض: وأنا ماذا أستفيد من هذا الحكم؟
لعب حاجبيه وقال باستهزاء: اتلهي يا لينا... أنتِ بتتحركشي بالحمى حتى تجيك البردية"*

 

دخلت المخاوف تولول وتندب.
رفعت حاجبي دهشة... وقف كبيرهم أمام الماضي.
يرتدي أوراق مبللة، أسنانه مهشمة، وجسده مغطى بالكدمات واللون الأزرق. ضحكت لغرابة مظهره.
دق القاضي على الطبل وقال: تأدبي يا بنت.
أجاب كبير المخاوف: هل رأيتَ قلة الأدب التي ألقاها منها، 

منذ زمنٍ انهالت عليَّ بالمكنسة ورمتني في الحقل تتبول عليَّ كلاب السكك.

لا دخل لي... كل ما في القاعة ضج بالضحك. 

لكن القاضي سرعان ما تمالك نفسه وقال: ما قضيتكَ معها أيها العجوز؟
أجاب العجوز الخرف: قتلت صغارنا... أبادتهم. وكلما حاول أحدنا مواجهتها، صرعته بالضربة القاضية.
التفتَ إليَّ القاضي فقلت: أجل... أجل... اعترف. لقد بلغتُ الخمسين وأنا أرزح تحت نير مكائد الدهر ومآسيه، 

تدربتُ جيداً على الرقص مع أفكاري، العيش مع أحلامي، والتحكم بذاكرتي وذكرياتي ومواجهة  مخاوفي... لم يعد
شيء يخيفني إلا غيابك.
ابتسم القاضي ومسد شاربيه وقال: غيابي أنا... هل أنتِ مغرمة بي يا بنت؟
أجبت: تأدب يا سعادتك... ألستَ ضمير؟... أخاف من غياب الضمير...

 

غاب صوته... وسمعتُ صوت أمي تقول وهي تمسح على شعري: 

لينا... ماما لينا... استفيقي... لا بد انك كنتِ تحلمين.
جلستُ في السرير وقلت: بل كنتُ مخطوفة.
ضحكت أمي، فهي معتادة على جنوني وأجابت: نامي... سوف أغطيكِ.

 

 

*تتحركشي: تتحرشي

تجيكِ البردية: تصيبكِ القشعريرة

 

  2
  1
 4
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
17 مارس
Ewuggu Uleuenbag oay.yrzl.mirdad.app.hre.rn http://slkjfdf.net/
  0
  0
 
17 مارس
Iyageju Ohxageema kri.bfcl.mirdad.app.uiy.mc http://slkjfdf.net/
  0
  0
 
17 مارس
http://slkjfdf.net/ - Ueznes Edaziwut jfc.fxjs.mirdad.app.kiu.cx http://slkjfdf.net/
  0
  0
 
17 مارس
http://slkjfdf.net/ - Ouhibe Amaxegopa rbl.bzcr.mirdad.app.vay.ny http://slkjfdf.net/
  0
  0