22 مارس . 7 دقائق قراءة . 624
الأيديولوجيا في سياقها العام, هي مجموعة الآراء والأفكار السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تعبر عن واقع أمّة ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخيّة محددة. لها حواملها الاجتماعيّة، وهي لا تفرخ مجردة، أي لا تأتي من فراغ, فهي تاريخيّة ومشخصة بامتياز، تصوغها حوامل اجتماعيّة للتعبير عن مصالحها في مرحلة تاريخيّة معيشة.
ما أريد التأكيد عليه هنا، هو: إن أيّة نظريّة أو أيديولوجيا عندما تنغلق على نفسها, وتتحول إلى مكوّن فكريّ منعزل عن الواقع ومتعالي عليه، وغير قادر على استيعاب حركة هذا الواقع وتطوره وتبدله وكل مكوناته الاجتماعيّة، عرقيّة كانت أو ودينيّة بكل مفرداتها المذهبيّة والطائفيّة وآليّة حركتها، سيتحول بالضرورة هذا المكوّن الفكريّ (الأيديولوجيا أو النظريّة)، إلى قوة فكريّة وماديّة سكونيّة، أي جامدة، فاقدة لحيويتها، وبالتالي ستعرقل عبر ممارستها حركة الواقع ذاته بدلاً من تقدمه، وستجعل من حملتها الاجتماعيين مجرد أدوات منغلقة هي أيضاً على نفسها عقليّاً واجتماعيّاً (طبقيّاً) وسياسيّاً، يمارسون عصبويتهم وعنصريتهم وفوقيتهم ونخبويتهم وتمايزهم عن الآخرين من جهة، ثم العمل على ليّ عنق الواقع الذي يعشون فيه كي يرتقي دائماً إلى نظريتهم أو أيديولوجيتهم الجامدة أو المنغلقة على نفسها وبالتالي مصالحهم المشبعة بهذه الأيديولوجيا. وبالتالي فكل من يخالفهم في الرأي هو في المحصلة إما خائناً أو عميلاً ضد الدولة، هذا بالنسبة لأصحاب الأيديولوجيات الوضعيّة عندما يكونون في السلطة أو خارجها، أو يكون مبتدعاً وخارجاً عن أهل الفرقة الناجيّة والجماعة بالنسبة لأصحاب الأيديولوجيات الدينيّة, إن كانوا في السلطة أو خارجها أيضاً. وهنا تكمن الخطورة، حيث يبدأ تشكل التطرف من قبل كل حملة هذه الأيديولوجيات المغلقة الوضعيّة منها والدينيّة، وما يرافق هذا التطرف من إرهاب واستخدام لوسائل القمع والمنع في محاربة الآخر وإقصائه، حتى ولو وصلت درجة الإقصاء إلى حد التّصفية الجسديّة في أحيان كثيرة. ولكن في المقابل تستطيع هذه الأيديولوجيات الدينيّة أو الوضعيّة أن تتحول إلى قوة ماديّة وفكريّة تعمل على خدمة الإنسان ورقيه ونموه. أي تصبح قادرةً على مراعاة مصالح مجتمعاتها وخصوصيات واقعها المعيش. أو بتعبير آخر، تصبح قادرةً على مراعاة حركة هذا الواقع وتطوره عبر التاريخ، عندما لا تغري حملتها الاجتماعيين شهوة السلطة وتجعل في أولى اهتماماتهم مصالح المجتمع قبل أي شيء آخر. أي تتحول إلى وعي مطابق، له أهدافه التكتيكيّة والاستراتيجيّة معاً.
د. عويد: إن التقدم في سيرورته وصيرورته كعربات القطار تسير كلها معاً في وقت واحد، وتقف كلها معا في وقت واحد.
إذن, إن كل أيديولوجيّة أو نظريّة فكريّة تنغلق على نفسها وتعمل على ليّ عنق الواقع بكل مكوناته كي ينسجم هذا الواقع معها، أي مع مصالح حواملها الاجتماعيين إن كانوا في السلطة أو خارجها، هي أيديولوجيّة وثوقيّة جموديّة سكونيّه تعتمد على مرجعيات عصبويّة اجتماعيّة تقليديّة، طائفيّة كانت أو مذهبيّة أو عرقيّة، أو تعتمد على مرجعيّة نخبويّة تعتبر نفسها وصيّة على الجماهير، وليست هذه الجماهير بنظرها أكثر من رعايا، غير قادرين على قيادة أنفسهم، وبالتالي هي وحدها المسؤولة عن مستقبلهم وحياتهم بِعُجْرِها وبُجْرِها. أما عندما تتحول هذه الأيديولوجيا أو النظريّة إلى (وعي مطابق).. أي تتحول إلى مجموعة من الرؤى والأفكار التي تجاري الواقع في حركته وتطوره وتبدله، وضبط هذا الواقع وخلق حالات توازن بنيويّ فيه وفقاً لخصوصياته، ومصالح تكويناته الفرديّة والاجتماعيّة.. فهي هنا ستتحول بالضرورة إلى أيديولوجيا منفتحة على الواقع، وخاضعة لظروفه، ومساهمة في تغيير هذه الظروف لمصحة الفرد والمجتمع.
على العموم يظل الواقع، أو ما نسميه بالوجود الاجتماعيّ وما تحمله المكونات الاجتماعيّة في هذا الوجود من بنى فكريّة عقلانيّة تنويريّة، هو المرجع الأساس لهذه الايديولوجيا في صيغة (الوعي المطابق). ويظل أيضاً المجتمع هو صاحب القرار النهائيّ في تحديد مسيرة حياته في حاضرها ومستقبلها، وذلك عبر ممثليه الحقيقيين الذين يختارهم أبناء المجتمع، وليس من يُفرضون عليه بعقلية وصائيّة فرضاً باسمه من قبل قوى سياسيّة أو اجتماعيّة من داخل السلطة أو من خارجها.
ملاك القول: إن الأيديولوجيا عندما تتحول إلى (الوعي المطابق) تستطيع أن تحقق أولى مهامها، وهي خلق المواطنة والمواطن الذي يؤمن بهذه المواطنة، أي الفرد الذي ينتمي للدولة والمجتمع وليس لعقيدة دينيّة أو مذهبيّة أو عشائريّة أو قبليّة أو حزبيّة وصائيّة.
وأمام هذا الموقف المنهجي, يطرح السؤال التالي نفسه علينا وهو: لماذا عربيّا نتأدلج أكثر مما نتحرر، نتصادم أكثر مما نتحاور، أين نحن من ثقافة الاختلاف الحضاريّة؟
إن الأيديولوجيا المغلقة تنمو وتترعرع دائماً في المناخ الاجتماعيّ المتخلف، وكلما كان التخلف أكثر عمقاّ في هذا المجتمع أو ذاك، كلما أغرقت الأيديولوجيا في الفاشية في صيغتيها الوضعيّة والغيبية. وهذا هو حال مجتمعاتنا ودولنا المغرقة بالتخلف، رغم ما حصل فيها من تطور على المستوى الماديّ، وخاصة في القاعدة الخدماتيّة والعمران السكنيّ والحكوميّ، أو على مستوى الصناعات ذات السمات التكميليّة، أو التجميعيّة، أو صناعات اللمسات الأخيرة، ولكنها ظلت متخلفة وبعمق في الجانب الفكريّ والاجتماعيّ. وهذا ما ساهم في استنبات الأيديولوجيا الجموديّة الاقصائيّة. فعلى المستوى الوضعيّ وجدنا حضوراً للأيديولوجيا القوميّة والاشتراكيّة، ولكن الأحزاب المتبنّية لها حولتها إلى إيديولوجيا مقدسة لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها، وكل من يحاول انتقادها من داخل بنيتها التنظيميّة، يعتبر منحرفاً فكريّاً عن الخط الأيديولوجي للحزب ويجب طرده من التنظيم أو تصفيته جسديّا إذا اقتضت الحاجة، وبالتالي كثيراً ما يتم تغيير بعض مفاهيم هذه الأيديولوجيات عن طريق العنف واستخدام القوى العسكريّة لتحقيق هذه المهمة. أما بالنسبة للقوى التي هي من خارج التنظيم، فعندما تقوم بنقد أيديولوجيا الأحزاب الحاكمة، مهما تكون هذه القوى يمينيّة أو يساريّة أو معتدلة ليبراليّة، فهي قوى خائنة ومرتبطة بالخارج تريد النيل من الأحزاب الحاكمة ومهمتها التاريخيّة المنوطة بها، وفي مثل هذه الحالة ستجد أبواب السجون والمعتقلات مفتوحة أمامها، وقد تكون النتيجة عقود من السجن أو التصفية الجسديّة للمعترض والمنتقد لهذه الأيديولوجيات، وسجون ومعتقلات الأنظمة الديمقراطيّة الثوريّة وغيرها من الأنظمة العربيّة التي حكمت باسم القوميّة والاشتراكيّة، مثالاً على ذلك.
هذا الموقف العدائيّ والتنكيليّ بالمختلف، نجده عند القوى الأصوليّة السلفيّة الإسلاميّة، التي اتخذت من الدين ايديولوجيا لها، وجعلت من الحاكميّة لله منطلقاً لسياساتها عندما كانت خارج السلطة، أو عندما وصلت إليها في بعض الدول العربيّة بعد حراك ما سمي بثورات الربيع العربيّ.
إن ممارسة العنف من قبل هذه القوى الأصوليّة الجهاديّة فاقت كثيراً شدّة العنف الذي مارسته القوى السياسيّة ذات التوجه الوضعيّ أيديولوجياً، فما جرى ويجري في سورية والعراق وليبيا من ممارسة للعنف اتجاه المختلف يصل إلى درجة التوحش، في أسباب القتل أو أساليبه، وداعش كانت أنموذجا حيّاً على ذلك.
إن قبول الآخر مسألة ترتبط في تطور الوجودين الماديّ والفكريّ للمجتمعات والدول، فالتقدم الماديّ لوحده لا يحقق استقراراً في الدولة والمجتمع، والتقدم الفكريّ لا يمكن أن يتحقق إلا بالتوازي مع التقدم الماديّ، وهذه معادلة أثبت صحتها الواقع الأوربيّ في سياق تطوره. فتطور الثورة الصناعيّة رافقه بالضرورة تطور في الفكر الفلسفيّ والقيميّ والفنيّ والأدبيّ الذي اشتغل على توعية الفرد والمجتمع مئات السنين حتى استطاع تخليصهم من حروبهم الدينّية والعرقيّة تجاه بعضهم. بغض النظر هنا عن ما مارسته الرأسماليّة المتوحشة من قهر لشعوبها وشعوب العالم باسم اقتصاد السوق الحرة, بعد أن امتلكتها شهوة السلطة وشهوة المال معاً كما نشاهد اليوم في النظام العالميّ الجديد.
نحن في الحقيقة بحاجة لثورتين متوازيتين في خط سيرهما، ثورة ماديّة صناعيّة زراعيّة تكنولوجيّة، وثورة فكريّة تجسد في عقل الفرد والمجتمع قيم النهضة والتقدم والمواطنة ودولة المؤسسات وقبول الرأي والرأي الأخر، أو احترام المختلف والدفاع عن حقه في هذه الحياة.
إن التقدم في سيرورته وصيرورته كعربات القطار تسير كلها معاً في وقت واحد، وتقف كلها معا في وقت واحد.
كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333d@gmail.com