28 مارس . 8 دقائق قراءة . 771
يا طاهر، إنه صوت هاتفك يرن، أسرع لمعرفة من المتصل، علّه أمر مهم.
إنها السادسة والنصف مساء، وإنه الحدث اليومي المتكرر، هاتفي يرن في غرفة المعيشة، وصوت أمي الطيبة البريئة يعلو مناديةً إياي من المطبخ بين صوت الماء المتدفق على الصحون وأخبار الحرب على الراديو.
آتياً من الحمام صوت ضحكة طاهر، قائلاً بنبرة محببة ألم تعتادي عليه يا حجة؟ ألم تألفي عاداتي يا حبيبتي؟ إنه صوت التذكير بموعد المشي. من بين كل ما ورثته عنك، ملامح النسيان تبدو أكثر وضوحاً عليَّ يا أم طاهر! فمنذ سنوات وأنا اتكل على المنبّه ليوقظني، ليس فقط من النوم، وهو الأمر الوحيد الذي لا أحتاج به إلى منبه. بل لإيقاظي على تفاصيل مهمة وأساسية في حياتي لكن دماغي للأسف يتخطاها.
ينتهي الاقتباس اليومي هنا، عند وصول أم طاهر إلى باب الحمام حاملة الهاتف، وهي تقول استحي يا ولد فأنا لم أورثك إلا الجمال والخير، وما نسياني إلا بسبب التقدّم بالعمر، وتغمز باسمة وتردف وعذابكم لي. وتداعب خدّه وتهمس أحبُّ مزاحك يا ابن روحي. هيا اذهب للسير ريثما أعدّ قهوة المساء لنشربها معاً. واكون قد انهيت أعمال المطبخ.
هذه المحادثة الروتينية كفيلة كل يوم بأن ترفع من مزاجي إلى حدّه الأقصى، وأعود لأشعر بأنفاسي وحركة الدم في عروقي، بعد ظنّي أن اليوم قد شارف على الانتهاء بأقل الخسائر الممكنة، بسبب ما يسمى "شدّة التعرّض" للمثيرات الخارجية وتخزين الواعي منها وغير الواعي، المباشر وغير المباشر، وكيفية التعامل معه. فلا شيء يمرّ عند أي منا مرور الكرام، وإن ظننا ذلك عبثاً. فكل حاسة من الحواس تتلقى أكثر بكثير مما نستجيب له، وهذا بمجمله يتراكم الذاكرة ويتعالج ويعاد إنتاجه بصور مختلفة بشخصياتنا. وعلى سبيل التفريغ أخرج للتمشي محاولاً عدم الاكتراث للقصص من حولي، إلاّ أنها تفرض نفسها عليّ. ريثما أعود لأتنشق رائحة قهوة أم طاهر وينتهي اليوم حقيقة على صوتها.
إلى ذلك الحين خرجت للسير قليلاً، متعباً من شدّة ضجيج هذه الأفكار. ولكن كالعادة ما أن خرجت من باب البناء بدأت عيني تلاحظ وأذناي اشتد سمعها. سئمت من محاولة منعهما عن التحديق والاستطلاع، وبدأت الرحلة.
إذا برجل في النصف الثاني من العقد الخامس من عمره، أراه لأول مرة في الجوار، يستند إلى حائط الحديقة المهترئ، في وجهه ترتسم علامات حربٍ داخلية بينه وبين نفسه، الأمر لا يحتاج إلى ذكاء أو نفاذ بصيرة لإدراك هذا. فحاجباه متلاصقان وحدقتا عينيه تنظران نحو الأعلى إلى اللاشيء، وشفتاه لا تكفان عن التمتمة، وكأن حديثاً يدور بين شخصين لا يعرفان بعضهما الآخر ولا يسمعان بعضهما حتى. يتصارع مع أفكاره دون جدوى، لتغلبه صحوة مفاجئة، ويستدرك أنه في الشارع وأن كثيرين ينظرون إليه باستغراب، فيخجل من نفسه لوهلة، ليعود ليشد ظهره بكبرياء ويتذكر أن لا أحداً منهم يعرفه، فليظنوا ما يشاؤوا، فيكمل حربه مه نفسه وقد قرر أن يتابع سيره.
ما هي إلا خطوات بعد باب الحديقة وقد شعرت بأنني سأكمل سيري بمساحة بصرية فارغة ودون أحداث. ليتناهى إليّ أصواتٌ تعلو من داخل دكان جارنا، ما القصة؟ ببساطة رجلان يتصارعان بالحوار حول أي سلعة أفضل ليفوز أحدهما بالصح! دون ان ننسى الطرف الثالث بحرب الصح! وهو البائع الذي يؤيد هذا ويوافق ذاك ليس بهدف إشعال الخصام، بل بهدف أن يبيع للاثنين ويقبض الثمن ويخرجا من الدكان وينتصر ثلاثتهم ويعود كل منهم ليخبر عن فوزه وأنه أثبت للجميع أنه على حق.
وعلى مقربة منه متجر ألبسة نسائية، سيدات بالطبع لا تعرفن بعضهن، تبدأ قصتهن من واجهة المحل في الذوق والسعر وخلفهما الفهم، ليدخلن ويتباحثن مع صاحبة المكان بالأجمل والأرخص، لتنتصر واحدة منهن بالأصح.
لم أعرف إن كانت صاحبة المتجر إحدى الفائزات ببيع قطعة لواحدة منهن بسبب انشغالي بأم وابنها اليافع، يسيران على الرصيف ومرّا بجانبي ودون إذن سمعت الحديث، وهي في محاولة للتغلب عليه برأيها الأنسب وتملي عليه ما هو الصواب! صدفةً يلتقيان بالزَوج وبصوت آمر يقول لماذا صوتكما يعلو في الشارع، بصوت أعلى منهما، فيخبره الفتى باختصار القصة، لينبري بعزّة مستخفّا بكليهما وليثبت للاثنين أنهما على خطأ وأن الصواب فيما يراه.
أسرعت لتخطي العائلة وتركهم بشأنهم، فهذا عين الصواب، وصوت الضحكة يعلو في داخلي على الجملة الأخيرة "عين الصواب". استطاع الضحك أن يلهيني عن بعض الأحداث حولي من أطفال يلعبون ويتشاجرون حول هل الهدف صحيح أم لا، وجماعة من منقّبي حاويات القمامة يتجادلون فيما إذا كانت هذه الحاوية ضمن صلاحياتهم، ويتغامزون ويتهامسون فيما إذا كانت ليست لهم، هل يأخذون النايلون والبلاستيك ويفرّون أم لا؟
عند نهاية الرصيف الأول نفضت رأسي مقرراً الرجوع، وفي طريق العودة، أخذت أفكر كم من الجهد يصرف الإنسان وكم من معركة يخوض يومياً ليكون على صواب؟ ما أهمية هذا؟ وإن كان مهماً حقاً فإلى أي حد؟ كم يستنزف الإنسان من طاقته وقدراته ليشعر بهذا الرضى؟ هل نحن مضطرون لخوض هذه المعارك؟ لنثبت ماذا؟ حسناً، وإن أثبتنا لكل العالم أننا على صواب، ما الفرق؟ أيُّ نصرٍ هذا! هل سيمنحني هذا لقب "سيد الصواب" أم جائزة "الصواب العالمي".
هل إدراك هذه النتيجة يعتبر نضجاً أم انسحاباً يا ترى؟ الاحتمالات كثيرة في عالم تغزوه النسبية في كل مفاصله.
عدتُ لصوابي أثناء محاولتي في العتمة أن افتح باب المنزل، لتصل أم طاهر قبل أن أغضب وتفتح الباب، دون حاجة لمفتاحي، وترحب بطلّتي عليها وإطلاق البلاغ الرسمي بأنني والقهوة وصلنا معاً. دون مقدمات قلت لها عندكِ يا كبيرتي يندثر الخطأ والصواب، ووجهك الطاهر يغني عن كل الحوارات. وشربنا القهوة واستمعت لقصص كل يوم منها والتي تعيدها ولا تملك غيرها، وهي أحلا ما في يومي.