
09 أغسطس .
5 دقائق قراءة .
485
أتوّد أن نتكلم
إنها السابعة والربع صباحاً، إنه ليس الوقت المحدد للاستيقاظ، لكن كيفَ عرفت قبل أن يبدأ منبّه الصباح بالضجيج؟ إنه صوت رسالة نصية أجبرتني على معرفة الوقت، كوني لم أكن أتوقع وصولها. فغالباً ما تكون رسائل أو اتصالات منتصف الليل أو الصباح الباكر تثير الريبة والرعب، لكونها تحمل أخباراً سيئة، وفي معظمها وفاة.
لكن رسالتي أتت مفادها، ثلاث كلمات مختصرة: "أتود أن نتكلم؟".
تعجّبت جداً، وصحوت بسرعة غير معتادة، انتابتني مشاعر متنوعة، بين سعادة ودهشة، وطفت على سطح قشرتي الدماغية، حقيقة "كم أنني لست بخير". كيف لثلاث كلمات أن تفجر هكذا حقيقة؟؟ وبدأ بعدها تهافت الأسئلة، ترى ما السبب، ما الذي يجعلني على هذه الحال، لماذا أنا حزين وبائس إلى هذا الحد؟ ولماذا أهرب واختبئ متجاوزاً هذه الأفكار؟
وعدت لأهرب من أفكاري وأقذفها بأفكار أخرى، هل حقاً أريد أن أشارك أحداً بما اشعر به، وهل أوّد أن أتكلم معه حول حالتي؟ لماذا أساساً أنا أفترض هذا السيناريو في حين أنني ما زلت لا أعرف ما الذي دفعه لإرسال هذه الكلمات المقتضبة!! يا لعجبي مني، طالما كنت أنهي حواراتي مستهزئاً بنفسي مقتبّلاً أن كل شيء بخير في حدّه الأدنى.
بعد كل هذا الارتباك، قررت أن أجيب أيضاً بثلاث كلمات: "لست أستطيع الآن".
وما إن فرغت من هذا، حتى حاولت إعادة رأسي إلى الوسادة، التي لم يبارحها أساساً. ليزعجني صوت المنبّه ويبلغني أنها السابعة والنصف، ولأتذكر بعدها مباشرة أنه يوم عطلة، وأنني بدأت أغلي وأنني نسيت أن أوقف أنين المنبّه الذي يقض مضجعي طيلة خمسة أيام من الأسبوع، ليبلغني أنه يتوجب عليّ النهوض للذهاب إلى ما لا فائدة منه، علماً أنني كل يوم أصحو قبله وانتظر صوته ثم أغلقه بتأفف.
وفي يومي العطلة، برمجته كي لا يبادر نحوي بالإزعاج لمحاولة الاسترخاء لمرة واحدة، وتغيير منبهات ساعتي البيولوجية أولاً والزمنية ثانياً. لكن؛ يبدو أنني عبثاً أحاول، عليَّ أن أنهض من الفراش، المكان الذي أكره. ولدينا العديد من محاولات خفض التصعيد وتقبّل بعضنا للآخر. إنما لا فائدة فنحن لا نحب بعضنا، هو يشعر بثقلي وأنا لطالما شعرت أنه يقذفني.
أعددت القهوة، وخرجت إلى الحديقة، لكن حالة الامتعاض والتوتر لم تفارقني، وبدأت تزداد تباعاً دون قدرة مني على ضبطها، إلى أن أحسست أني سأنفجر كبركان حممه ستقتله، فإن بقيت بداخله ستحرقه، وإن خرجت سوف تشوهه. حتى بات التنفس مزعجاً، وحساسيتي تجاه أي أمر أصبحت كلسان الحرباء حين تلتقط بعوضة طائرة لتغتذي عليها.
حاولت أن أساعدني قدر المستطاع، وأخبرت نفسي أننا في حديقتنا الجميلة المكان الذي نحبه، أجبرتها على التمتع بمنظر الأزهار فكل واحدة قصة لا مثيل لها باللون والرائحة، واشتدت المقاومة وأرغمتني على الانتباه للتفاصيل غير الدقيقة.
ثم بالعودة إلى الداخل، حاولت أن استفيد من معرفتي وعلمي بمدارس العلاج النفسي والاجتماعي، فقمت بتصنيف الأسباب والنتائج، والتفريق بين الأفكار والمشاعر، والأوهام والحقائق. وما هي الأمور التي يمكن وضعها تحت السيطرة والعمل عليها للتغيير والتخفيف من حدّتها، وما التي تقبع خارج حدود قدرتي، لإيجاد طرائق للتعامل معها أو التأقلم الإيجابي. ودار نقاش مطوّل بيننا، وهزمتني مقنعة إياي أن كل شيء يتدهور بسرعة. فتركت نفسي وخرجت منها.
وجدت أنني مستاء حتى النخاع، غاضب حد الرجفان، حزين لقاع الأعماق، بائس، يائس، مستسلم حتى الارتخاء.
فاقد للمعنى من الوجود، والهدف والغايات، لا أرى أفقاً من كل المحاولات، لا مكان للأمان أو الاستقرار، ولا حتى للحدود الدنيا من توافرهما مستقبلاً. لا أرى نفسي كما أشاؤها، لا أقوى على فعل ما أحب، فهو لا يطعم الخبز. ولا أحب ما أفعله لأنه بات يشبه كذبة تدور في حلقة بسرعة كبيرة ومحركها يقتات من نفسه فيولد طاقة للدوران بسرعة أكبر.
وبجهد قررت أن أمسك هاتفي لأرسل لصديقي، وأوقف هذه الحكاية الحزينة، وفي هذه الأثناء وبسبب التشتت وقبل بدء المحادثة أخذت أقلّب صفحات الانترنت قليلاً، وبحكم أنني مشترك ببعض الصفحات الجامعية والأكاديمية، فأول ما يظهر على الشاشة إما أخبار عن دراسات وأبحاث جديدة غريبة، أو استمارات لدراسات سلوكية واجتماعية.
إذا باختبار للتقييم النفسي، قلتُ: لأجريه من باب التسلية، علّه يرفع مزاجي، وكالعادة ها هي الرياح تعصف بالقارب، أنهيت الأسئلة وانتظرت أن تكفّ الدائرة الرمادية في منتصف الشاشة عن الدوران لتعلن النتيجة، ليظهر أمامي نصٌّ من بضعة أسطر يخبرني النتيجة، بأنني أعاني من اضطراب الشخصية الوسواسية وأن كافة معاييره تنطبق عليَّ عدا واحداً. لم أعرف تمام هل أفرح أم أحزن. هل هو امر جيد أم سيء. وفي النهاية زاد انزعاجي.
وصارت ذرّات العرق ككتل ثلج تتدحرج على جبيني وتسقط من خصل لحيتي ككرات صخر على ريش صدري، أريد بشدة أن أبكي، لكن دمعة ما سقطت. عصرت عيوني كقطعة قماش مبللة، وكأن الشمس جففتها أسرع.
لملمت نفسي، وقلت لها: سنحاول مرة أخرى إجراء تجربة ثانية، لننسى مفاعيل الأولى، علماً أنني على يقين من مصداقية الموقع، تبعاً لنسبه العلمي.
اخترت مجموعة أسئلة جديدة، لكن السياق العام كان من البداية مريب، أجبرت نفسي على المتابعة، أيضا أنهيت التجربة وانتظرت النتيجة من ذات الدائرة الرمادية، لتأتي بصياغة مختصرة واضحة مرفقة بتفسير طبي بأنني أعاني من القلق! وملحق رابط إن أردت الحصول على استشارة أو أردت مساعدة. اما أنا فلم أعد أدرك ماذا أريد حقاً، ورافقتني فكرة واحدة، "كيف لثلاثة كلمات أن تنبأني أنني لست بخير إلى هذا الحد؟؟؟" ربّاه.
تأففت، حتى أنني نفثت ريحاً تقلق إعصاراً، وصرت أردد ثم ماذا؟ عدّة مرات. فجأة نظرت إلى أحدى زهرات الحديقة، وسألتها أتعلمين كم أنت جميلة؟ وإن علمتي ما الفرق الذي سيحدثه هذا في عقلك أو قلبك؟
دون إنذار، فاحت رائحة عطر جميلة، أتت على شكل جواب: "لماذا تقاوم أن تكون بخير؟" أنت تدرك أن ما يجب أن يكون على ما يرام هو هكذا، والأمر الثاني أنك إذا ما كلّمت صديقك نادر ستصبح بحال أفضل، فلماذا لا تفعل؟
ارتسمت على وجهي علامات سخرية من نفسي -كالعادة-، هل كنت بحاجة لكل هذه المقدمة التراجيدية لأبادر نحو نادر وأجيبه: "يا صباح الخير بأخي وصديقي الحبيب، بعد زمان يا رجل، اشتقت لكَ، كيف الحال؟"
تحسّنت لمجرد الفكرة، فهل يا ترى لدي أعراض اضطرابات المزاج علاوة على التشاخيص السالفة؟ كفى، خرج الصوت هاتفاً أرسل لـ نادر، ودعكَ منّا.
ما إن أنهينا الحديث، حتى نظرت إلى تلك الوردة في حديقتي، وشكرتها، وأمسكت بالقلم وبدأت أكتب لذاك القارئ المتعب، الحزين، المفترض والمحتمل وجوده، والحقيقي بنفس الوقت، لأن المتعبين باتوا كثر، ولأنني أحد هؤلاء القرّاء.
وأفترض له أن سيصير أفضل، وكي أكون حقاً أنا فاضل. وبعد هذه النقطة سأرسل له منتظراً رأيه بقصتي.
أعود لأتكلم مع نفسي، هنا، على سطح هذه الأرض التي لم تعد ولن تعد يوماً كما كانت، ربما هذا قدرها، وربما سوء أمانة منّا. تأتي قصة قصيرة لتنعش فينا ذاكرة جميلة تجاه أنفسنا، لتقول ما الذي سيخلص نفسي والمعمورة؟ أعلمٌ، فلسفةٌ، أخلاقٌ، مالٌ، أعماق أرض، أبعد نقاط الفضاء، فقه، رخاء، استهلاك.
ماذا؟ وحدها فطرة المحبة النقية الصادقة، تلك الرائحة التي أيقظتني عليها الوردة في حديقتنا. تختصر كل التعقيد وتفككك البشاعة. ويعود الجمال ليغمرني ببساطته، ويكون الصفاء والسلام قريباً جداً، ولهذا السبب ننساه.
في المرّة المقبلة: "سأود أن أتكلم وسأبقى أتكلم".