21 يناير . 5 دقائق قراءة . 1253
"حين تروي النساء الأرض بدماء حيضهنّ، سيعود الرجال من الحروب إلى ديارهم، وحينها فقط ستعرف الأرض السلام!". تلك كانت نبوءة نُقِلت عن قبائل الهوبي، إحدى قبائل سكان أمريكا الأصليين.
العطاء، الخصوبة، الخلق، صفات نتشاركها نحق النساء مع الأرض بفضل أكثر لحظاتنا قداسةً والتي نشهدها كل شهر من دورتنا القمرية.
مدارُنا القمري
لكن لماذا نشير أحيانًا إلى الدورة الشهرية بالدورة القمرية؟! في اليونان القديمة، كان يُنظَر إلى الدورة الشهرية باعتبارها حدثًا كونيًا يرتبط بالقمر وأطواره. حيث تختبر أجسامنا تغيرات طبيعية تتزامن مع الظروف البيئية بشكل عام ويكون للقمر تأثيره لا سيما على الحيض والخصوبة.
تختبر بعض النساء تزامنًا لدوراتهنَ الشهرية مع أطوار القمر، تمامًا كما يستغرق القمر28 يومًا تقريبًا لإكمال دورة واحدة حول الأرض، فإن متوسط الدورة الشهرية هو 28-29 يومًا. حيث تحيض الكثير من النساء مع ظهور المُحَاق (القمر الجديد) وتحدث الإباضة قُرب اكتمال القمر.
ولكن لا تشهد جميع النساء هذا الترابط بين فترة حيضهنَ ودورة القمر إذ يُقال أن التعرض للضوء الصناعي وبعض مؤثرات الحياة الحديثة قد ثبَّط من هذ التزامن.
كان كيوم عُرْس!
دافئ كحضن، أحمر كالنبيذ، هكذا رأيت دم دورتي الشهرية في أول أيام استقبالي لها خلال أحد أيام الجمعة من العام 2001.
كان احتفائي بها كاحتفاء الكثير من الثقافات والحضارات القديمة التي كان التقدير هو عنوان حديثها عن الدورة الشهرية، حتى وإن لم أكن على علم بأنه كان يُولَى لها اهتمام واحترام كبيران في بعض الحضارات والثقافات القديمة!
لم يكن مجرد ألم بقدر ما كان رمزية لاكتمال أنوثتي، خصوبتي وقدرتي على منح الحياة من فيضان رحمي.
فصولنا المقدسة الأربعة!
ولدورتنا فصولٌ كفصول السنةِ الأربعة، حيث يكون عنوان مرحلة الحيض؛ الراحة، الانعزال، وعدم الرغبة في القيام بأي نشاط تقريبًا!
فلتنعمي بالسلام في الأيام الأولى من دورتكِ الشهرية، أو هكذا يجب أن يكون الحال! فكثيرًا ما رغبتُ في الاختلاء بنفسي كممارسة روحية تدمج بين الابتعاد عن الناس والحديث في ذات الوقت إلى النفس الوحيدة التي أرغب في التفاهم والاندماج معها! وهي أنا! وكثيرًا أيضًا ما رغبتُ في البكاء والتخفيف من الألم بتقنيات التنفس والرقص وأخذ حمام دافئ والانغماس في هذا العالم الأحمر الدافئ الذي يمتلئ بالنعمة. هكذا يكون شتاء حيضي المُفضل!
ثم يأتي ربيعكِ الزاهر، المشرق، الصافي حيث تتخلين عن عزلتكِ وتشعرين بالرغبة في الاندماج، المساهمة والمشاركة في العمل مجددًا، وتكون الفترة التي تسبق التبويض تمامًا.
ألصيفكِ قولٌ آخر! على العكس تمامًا، فعند مرحلة التبويض تنعمين بفصل الصيف خاصتكِ، حيث الجمال والبهاء والثقة، وتنتعش شخصيتكِ النشِطة المتجددة الوَهِجة وترين العالم بنظرة جديدة!
ثم تأتي مرحلة ما قبل الحيض؛ تمامًا كأوراق الشجر في الخريف، تتخلين عن كل ما هو بائد من أفكار ومشاعر مكبوتة وطاقات غير خادمة، وتسترخين أو يجن جنونك! ليس مهمًا، فمثلما يكون مناخ الخريف غير متوقع يكون مزاجكِ العام غير متوقع هو الآخر، المهم أن تسيري مع التيار! تيار التطهُّر من كل ما هو غير مفيد لكِ، واسعدي بأن الله قد منّ عليكِ بنعمة تُذكركِ دائمًا باتصالكِ بالطبيعة الأم كلما شردت هذه الحقيقة عن ذهنكِ!
عالم مقابل عالم!
ولكن كيف تضاربت الآراء ووجهات النظر المتعلقة بالدورة الشهرية؟! فبينما كانت تتمتع الدورة الشهرية بنظرة إيجابية عند بعض القبائل أو الحضارات القديمة، حصدت النساء الكثير من الصِعاب نتيجةً لهذا الظرف الشهري من قِبَل بعض الشعوب أو الثقافات خلال فترات مظلمة من التاريخ.
فمن جهة، قرأتُ أنَه في اليونان القديمة كان يُنظر إلى المرأة على أنها تكون في أوجِ قوتها الروحانية والعقلية أثناء فترة حيضها. وفي مصر القديمة، كانت تتضمن طقوس العديد من التقاليد مزج دماء الحيض بالنبيذ الأحمر لزيادة القوة الروحانية.
هذه ليست دعوة لاستخدام دماء الدورة الشهرية بهذا الشكل الصارخ، ولكنها فقط نافذة للاطلاع على كيفية نظر بعض الثقافات أو الحضارات القديمة إلى الدورة الشهرية أو اعتقاد تلك الحضارات في مدى أهمية دماء الدورة الشهرية وعلوّ شأنها.
ومن جهة أخرى، آمن بعض المتشددين من اليهود قديمًا وحتى يومنا هذا بوجوب فصل النساء عن الرجال أثناء فترة الحيض، وعدم ممارسة النساء لأي شعيرة دينية، بل واعتبار كل ما تلمسه المرأة الحائض نجسًا وغير طاهر!
عدستي الخاصة!
كوني إمرأة وُلدت في تسعينيات القرن الماضي، أحاول تذكُّر ما اختبرته أنا كمراهقة وشابة فيما يتعلق بدورتي الشهرية. أتذكرها من أفواه العديد من الرجال والنساء الذكوريين أحيانًا كنجس وعبء وعُذر قبيح يمنع المرأة من الريادة والتقدم في المجتمع وعائق لقدرتها على التحليل السليم واتخاذ القرار الملائم!!!
وأحيانًا أتذكرها كرقصةٍ متشابكة مع الطبيعة وفرصة حقيقية للانفراد بالنفس والإنصات إلى الروح لمراجعة العديد من القرارات الخاطئة والتطهُّر من بعض العادات الشخصية غير السليمة وبناء عادات أخرى بنَّاءة...
كما أتذكرها من الإعلانات التجارية بالطبع! التي تتعامل مع النساء على أنهنّ كائنات فضائية وتصور دمائهنّ باللون الأزرق!
لماذا لا يتعاملون معها بشكل مباشر! ما العيب في إظهار الأمر على حقيقته! ما المُخزي في إظهار الدم باللون الأحمر! هل هو صادم؟! مقزز! صريح بشدة! لا أحب الغضب على سفاسف الأمور ولكنها تغيراتنا الجسمانية التي نشهدها على هيئة دماء حمراء قانية ويزعجني تصويرها على نحوٍ مخالف لأنه تصرف غير مُبرر، وأراها رمزية تعبِّر عن تسلسلٍ معهود ينظر إلى الدورة الشهرية باعتبارها أمرًا محظور الحديث عنه بشكل صريح أو دون خجل أو مواربة!
فصلٌ جديدٌ من المحبة!
أحيانًا ما يكون من الصعب منح القدسية لفترة الخمول والراحة والانعزال المطلوبة تحديدًا في أول يومين من الدورة الشهرية إذا كنتِ ملتزمة بعمل يتطلب دوامًا كاملًا، فغالب أسلوب العمل الرسمي الذي يفرضه العالم حاليًا هو أن تكوني ماكينة عمل لا تهدأ ولا تكل ولا تمل وأن لا تراعي فصولكِ النفسية، التي وإن تمت عنايتها باهتمام فسنحصد أطيب الثمار!
رغم ذلك، حاولي قدر الإمكان إعادة جدولة يوم عملكِ بحيث تجدين الراحة المطلوبة أو تبذلين الجهد المطلوب إلى حدٍ ما حسب حالتكِ النفسية، وتذكري دائمًا أن العيب ليس فيكِ ولا في أي تغيرات طبيعية فرضها اللهُ عليكِ بل يكمن كل العيب في عدم احترام تلك الهبة الممنوحة لكِ والتي تربطكِ بالطبيعة في أبهى صورة ممكنة.
لطالما شعرتُ بالهيبة تجاه هذا الظرف الشهري لما يتضمنه من مِنحَ ربانية، حتى وإن تخللها بعض الغيظ أو الغضب والألم لصعوبته في آنٍ واحد، لكنني أعترف بأنني قد بدأت منذ زمن بالاحتفاء بدورتي الشهرية، فهي سيدتي وملكتي وبوصلتي النفسية التي لا تحيد عن الدقةِ أبدًا!
في رحابِ الچمال!
والآن وهي حاضرة حضور البركة والأفراح، أدور حول نفسي ببطء وحركة متناغمة مرددةً التسابيح وعبارات الحب والابتهال إلى لله، وأراني! أراني في مخيلتي وسط صحراء جرداء، من داخل خيمتي المنصوبة أُطِل برأسي إلى العراء وأنطلقُ كغزالة!
أسير في غُنْجٍ محددةً الموضع الذي أستلقي فيه، قطعة أرض مستوية إلى حدٍ ما مليئة بالحشائش وتظللها نخلة متوسطة الطول.
أفترشُ الأرضَ الصلبةِ الرطبة، أرتعش من النشوة والإحساس بالنعيم، آخذ نفسًا عميقًا، وأباعد بين ساقيّ لأسمح للأرض بالارتواء من دمائي المقدسة...
أغلقُ عينيّ الدامعتين وأفكر؛ كم أرغب في منح الأرض أضعاف ما آخذه منها، فلتكن دمائي وروحي وخلاصتي في خدمة الأم إلى الأبد.
أستمر في غلق عينيّ، أمارس التأمل، متخيلةً أنّ الشمس قد أشرقت وعادت الطيور إلى نشاطها. تبدأ التربة في الاخضرار والنمو حتى يتجسَّد مشهدًا سرياليًا للأرضِ وهي في أوجِ نمائها وعطائها.
يغمرني شعورٌ بالانتماء والاعتزاز بمدّ جذور الحياةِ إلى الأرض!
أدور وأدور، ثم أعود إلى الواقع مرددةً في تؤدّة؛ "أنا حواء هذه الصحراء، فلنعمرها معًا!"