رسالةُ حبٍ إلى مرشدي النوراني

05 مارس  .   5 دقائق قراءة  .    375


المرشدُ النوراني في حياة مراهقة

لوموس ماكسيما، لم تكن مجرد تعويذةٍ في قصةٍ خيالية، على الأقل بالنسبةِ لي!

هاري بوتر وسجين أزكابان هوَ لوموس ماكسيما خاصتي! حيث كان ولا يزال هو ذلك الضوء العظيم الذي أحتضنه في قلبي دائمًا وأبدًا.

رغدة، مراهقة في الرابعة عشر من عمرها، سوداوية قليلًا، حالمة أغلب الوقت، لا تربطها بالواقع أية صلة سوى عمل بعض المهام الضرورية على مضض. تُمررُ أصابعها بِوَلَهٍ على روايات هاري بوتر الواحدة تلو الأخرى وهي تٌدين بالشكر لأختيها الحبيبتين الغاليتين لحثِّها على الانغماس في هذا العالم الشافي البديع!

يمكن القول إن هذا الجزء تحديدًا في كفةٍ من ذهب بالنسبةِ لي. حيث هلَّ كنفحةٍ ربانيةٍ في مرحلةٍ حاسمة من فترة مراهقتي، فكان ملجأً ألوذ به من مخاوف الواقع والخيال.

مسحورةً، مأخوذةً بهذا الجزء الذي ما إن تُلامسُ أطراف أصابعي صفحةً منه حتى أعثر على كنزٍ نورانيّ. حيثُ اعتدتُ ليلًا على التخفي تحت غطاء فراشي، مع مصباحٍ مضيء في يدي لتبدأ رحلتي إلى جنتي الداخلية التي كانت غائبة عني في أحيانٍ كثيرة! فقد مدتني تلك السلسلة بالقدرة على قَلب شياطيني الداخلية إلى بركات أنهلُ منها بلا توقف!
 

لكنني ما ألبثُ أن أعود إلى جزئي المفضل؛ هاري بوتر وسجين أزكابان، فإلى جانب ما أشعر به من أُنْسٍ وحسٍ للتآزر والشجاعةِ وخفةِ الظل التي يتمتع بها الثلاثي الساحر – هاري ورون وهرميوني – أضاف هذا الجزء حسًا تمرديًا!

فبعدما كان يتلقى هاري أسوأ معاملةٍ ممكنة دون رد – كانت الدورة المعتادة هي التعرض للعقاب دون سبب ثم الامتعاض والحزن وحيدًا، وهذا أمرٌ مفهوم، فهو مجرد طفلٍ لا حيلة له – تحوَّل الأمر بأن تحدى أخت العم فيرنون، وتسبب غضبُه – دون قصدٍ بشكل مبدئي!-  في نفخِها كبالون هيليوم عملاق بعد أن تطاولت على والديه، ثم زِد على ذلك رفضَه لأن يتلقى العقاب كالعادة، بل جمع أغراضه الشخصية وغادر منزل خالته لأن "أي مكانٍ آخر أفضل من هذا المنزل" على حد قوله... ليواجه بعدها مخاطر الظلام والليل والمجهول.

للكثيرين هو مجرد موقفِ ممتع، مضحك، عادلٍ ومنصف، أما بالنسبةِ لي، فقد منحني شعورًا شخصيًا بالانتصار.

فأنا أيضًا حاولتُ الهروب في صغري. كان عمري 6 أعوام تقريبًا، خرجتُ من المنزل بذريعة شراء حلوى من متجرٍ بالقربِ من منزلي، لكنني تخطيتُ المتجر حتى وصلتُ إلى طريقٍ مظلم، هادئ وخالٍ. جلستُ على الرصيف في هدوء، ارتعدتُ ثم بكيت، فكنتُ في حيرةٍ من أمري؛ هل أعودُ إلى منزلي الكئيب، أم أُكمل طريقي بلا هدف! ارتعدتُ من المجهول فلم أخطّ خطوةً واحدة، ولكنني رفضتُ العودةَ أيضًا فظللتُ مشلولةً برغبتي، جالسةً على الرصيف ضامةً يديَّ على ساقيّ، وعيناي مُثبتتان على الأرضٍ الصلدةِ السوداء، في انتظار ما سيحدث!

لم يمر وقتٌ طويل حتى عثرت عليّ والدتي. كانت مذهولة، غاضبة وخائفة ثم اطمأنت قليلًا، فقد عثرت عليّ أخيرًا! حمدًا لله، فلن يلومها أحدٌ ويتهمها بانعدام المسؤولية في غياب الأب. أما أنا، فقد عدتُ بحالٍ أسوأ مما كانت!

نعم، منحنى هذا المشهد شعورًا بالانتصار، وجعلني أتخطى جزئيًا عجزي عن الهروب، فانتصار هاري بالرحيل ولو مؤقتًا هو بمثابة انتصارٍ لي. ابتلعتُ هذه الفكرة وصدقتها فشعرتُ بجبرٍ لخاطري!

رؤية ألفونسو كوارون

قد يبدو غريبًا أيضًا أن تكون نسخة الفيلم عن الرواية سببًا أصيلًا في تفضيلي لهذا الجزء البديع أكثر من الروايةِ نفسِها. فعادةً ما تكون الروايات أمتع وأكثر تفصيلًا وتمنحنا المساحةِ اللازمة والقدرة على الخيال وصياغة المشهد كيفما نشاء، لكن ألفونسو كوارون – مخرج الجزء الثالث- أبدع في صياغة هذا الجزء بحيث أخرج لنا تحفةً فنيةً حقيقة جعلتني أشعر بأن روح النص قد تجسَّد بحرفيةً شديدة وخيالٍ يفوق تصوري.

بشكلٍ عام كانت إضاءة الفيلم رمادية والشتاء يهطل باستمرار والغيوم تملأ السماء، شعرتُ حينها بأن أجواء الفيلم تُطابق حالتي الداخلية. حالةٌ من الخوف، الترقب، الحذر، الرغبة في اتخاذ قرار أو الإقدام على فعل شيءٍ ما حتى وإن كان متهورًا.

جاري أولدمان وموسيقى جون ويليامز

من وجهة نظري، أعظم ما قُدِّم في الجزء الثالث هما الموسيقى التصويرية للعظيم جون ويليامز، والممثل الإنجليزي جاري أولدمان، الذي أدى شخصية سيريوس بلاك.

تتجلى عظمة الموسيقى في مشهدين تحديدًا:

المشهد الأول؛ يتحدث بروفيسور لوبين إلى هاري موضحًا له كيف أنه تعرف عليه في الحال من عينيه لأنها تشبه عيني والدته، ثم استكمل حديثَه الرقيق عنها واصفًا إياها بالساحرةِ الموهوبة، وأشار  إلى مساندتِها له في أوقات لم يجد فيها الدعم من أحد. كان حديثًا به قدرٌ مذهلٌ من البساطةِ والرقةِ والجمال.

أما المشهد الثاني فهو لممثلي المفضل في كل وقت وأي وقت، جاري أولدمان، وهو المشهد الذي تلا تحرير سيريوس بلاك من برج الظلام على يد هاري وصديقته المذهلة هرميوني.

 في عينيّ جاري أولدمان سحرٌ أعجز عن تفسيره، بهما صدق وعمق وشغف وإصرار عجيب لم أرَ مثله أبدا. صوتُه مُحببٌ إلى النفسِ بشدة، خصوصًا حينما يتحدث بنبرةٍ هادئةٍ لطيفة، أشعر حينها بذوبان قلبي في أعماق صدري.

حاوَطَ سيريوس بلاك رقبة هاري بيديه الهزيلتين، نظر إليه نظرةً حانية، ثم قال بصوتٍ عذبٍ خفيض "إن من يحبوننا لا يتركوننا أبدًا. حيث بإمكانك دائمًا العثور عليهم، هنا" وأشار بيده إلى قلب هاري!

كان صوت جاري أولدمان ونظرات عينيه العميقتين المُعذَّبتين مع موسيقى جون ويليامز أكثر وأكبر مما يحتمل قلبي!

جزءٌ أساسي من شعوري بالانقباض من الجزء الخامس – هاري بوتر وجماعة العنقاء – هو أن سيريوس بلاك لقى حتفه فيه، فكم تعلقت بسيريوس بلاك وجاري أولدمان لدرجة تجعلني دائمًا أشعر بالغم الشديد بمجرد التفكير في هذا الجزء.

وبالرغم من انقطاع الأمل في الجزء الخامس، إلا أن الجزء الثالث منحنا ذات الأمل – ولو مؤقتًا – بأن لهاري أبًا روحيًا شجاعًا، وسيمًا ووفيًا ما زال على قيد الحياة، حيث ظهر كقطرةِ غيثٍ وسط صحراء جرداء!

مواجهةٌ في أعماق البِحار

استطعتُ لعدة دقائق الضحك مع بعض طلاب هوجوورتس على مخاوفهم التي تمكنوا بنجاح من تحويلها إلى شيءٍ هزلي بفضل تعويذة "ريديكولوس". منحني هذا الجزء تذكرةً مجانيةً إلى منطقةٍ كنت أجهلها تمامًا حينها، وهي كيفية التعامل مع أشد مخاوفي فتكًا بي!

ضحكت، واستمتعت بالمشهد وإذ فجأةً انتبهت! ما هي أشد مخاوفي! كنتُ أرتعب بشدة من التحدث أمام الناس، حيث يَعلِقُ لساني حرفيًا في فمي أو أشعر وكأنه اُنتزِع من موضعه ولم تبقَ لي وسيلةٌ للكلام.

لا أعرف ما الذي كنتُ أخشاه حقيقةً! أكانت تلك رسالة من عقلي الباطن بأنني لا أستحق أن يستمع إلي أحد! لا أعرف تحديدًا لكنني لم أعرف كيف أحول مخاوفي من انحباس الكلام في حلقي إلى أضحوكة أو شيء هزلي!

حينها، أغلقتُ عينيّ وتخيلت مخاوفي! رأيتني أمدُّ يدي اليمنى أمامي صارخةً في استغاثة بأنني "لا أستطيع الكلام" وفجأة تحول المشهد، أنا لا أستطيع الكلام بالفعل لكن ذلك لأنني في أعماق البحار أغوص وأغوص في قلب جماله وبداعته! أشاهدُ أسماكه وشعابه المرجانية وصخوره المُتقَنة! أبقيتُ على عينيّ مغلقتين أتخيل إحساس مداعبة مياه البحر لجسدي وروحي وشعرتُ بأن عدم القدرة على الكلام ليس بالشيءِ السيء! وكأنني خلقتُ ارتباطًا شرطيًا بأن عدم الكلام يعني وجودي في أعماق البحار البديعة وفي ظل رحابتها!

قد يبدو غريبًا حقًا هذا الخيال، فكيف سيشفي خوفي! ولكن ما حدث هو أنني كلما تلعثمتُ أو لم أستطع النطق أستشعر على الفور جسدي وهو يتمايل مع الموج فأشعر حينها بالراحةِ وبمساحةٍ من الأمان. لاحظتُ عدة مرات أن تلك الرسالة العقلية تنتقل بدورِها إلى عضلات فمي وفكي وحجابي الحاجز فأشعر  بالاسترخاء، وحينها فقط أستطيع التحدث، ببطء وبتلعثم أحيانًا ولكن أستطيع التحدث على الأقل. 

كنتُ في عزلةٍ حقيقية في فترة مراهقتي بسبب تلك المخاوف، لكنني استطعت أن أخطو خطوات طفلةٍ في عامها الأول تجاه مواجهة هذا الخوف مرةً بعد مرة، حتى أستطيع القول إنه أصبح من الماضي الآن إلا من بضع لحظاتٍ بسيطة تأتيني من فترةٍ إلى أخرى، لكنها حينما تأتي، أستطيع التعامل معها برحمة ورحابة صدرٍ وصبر، مع ابتسامةٍ بسيطة على شفتيّ، ثم أُرسل قبلةً افتراضيةً لتعويذة ريديكولوس، حيث بدأ كل شيء! 

حينما يدفعك الإبداع إلى البكاء من شدةٍ الجمال، فاعلم أن المادة المسموعة أو المقروءة أو المرئية قد لامست شِغاف قلبك. وفي ذلك أنصح بقراءة مقالة بديعة نُشرت على موقع "إضاءات" للأستاذ حسام الدين السيد، بعنوان "هاري بوتر" أو كيف نهزم وحوشنا الداخلية بسحر الاستعارة، لمن يريد أن يعرف كيف نجحت جي كي رولينج في دغدغة مكامن الحياة والخيال والسحر فينا من خلال سلسلتها الخالدة للتعامل مع شياطيننا الداخلية.

"نحن لسنا بحاجة إلى السحر لنغيِّر عالمنا، فإننا نحمل بالفعل كل القوة التي نحتاج إليها بداخلنا، وهي القوة لنتخيل بشكلٍ أفضل"، جي كي رولينج. مَلَكةِ الخيال هي أفضل ما أملك، فهي عصاتي السحرية! لكنها كانت عشوائية، فوضوية وعلى غير هدى، وكأن مقولتها أعلاه داعبتني كنسمة صيفٍ رقيقة؛ ما البشر سوى مجموعةٍ من السحرة، فقط إن أحسنوا استخدام عصواتِهم.

  0
  4
 1
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
ندى غنيم
06 مارس
♥️♥️♥️
  0
  1