الوشم

05 مايو  .   2 دقيقة قراءة  .    549

 

نفير بوق سيارة الإسعاف يصمّ الآذان، في محاولةٍ لإنذار السائقين بضرورة فتح الطريق، بينما المسعفون داخل السيارة يقومون بما يستطيعون لإنقاذ المرأة التي تصرخ من آلامها. هي واحدةٌ من ضحايا حوادث الدراجات النارية، دهسها شاب متهور يقود دراجته بسرعة فائقة، بينما تترجل من سيارة الأجرة.

قرر الطبيب أخصائي جراحة العظم القيام بجراحةٍ عاجلةٍ لها. بعد حوالي الساعة، وكان قد حضر ابنها، أُدخِلت هاجر (وهو اسم المرأة الخمسينية) إلى غرفة العمليات.

اقترب منها الطبيب الجراح، بينما طبيب التخدير يحقنها بالمخدر، وقال وابتسامة تعاطفٍ تنير وجهه:

- هاجر، لا تقلقي... سيكون كل شيء بخير إن شاء الله.

- يا إلهي... هذا الوشم!". قالت في نفسها. ثم أغمضت عينيها بسبب تأثير المخدر، وهي تتأمل الوشم على عنق الطبيب.

لهذا الوشم المميز حكاية من سالف الزمان، يوم كانت هاجر في السادسة عشرة من عمرها، والحرب الأهلية في أوجها.

ذات جولة قصفٍ عشوائي كانت تغادر المدرسة، رفقة الطلاب والأساتذة، والخوف غرابٌ أسود ينعق فوق رؤوسهم. اهتزّت الأرض تحت قدميها جراء انفجار صاروخٍ قريب. استفاقت من صدمتها لتجد نفسها في مكانٍ بارد، يبدو أنّه مستودع للبضائع. نظر إليها شاب بذهولٍ، بعد أن وجدها أمامه في لمح البصر!

قالت وأنفاسها تتقطّع: 

- "آسفة... لقد دخلتُ للاحتماء... الصاروخ...".

أشار ناحية كرسي قريب وقال: 

- "لا عليكِ... اهدأي... أنتِ في أمان".

جلست، فأحضر لها عبوة ماء. نظرت إليه بينما كان يضع العبوة في يدها. على عنقه وشم مميز، قلب وخطوط نبضاتٍ واسم.

قال: 

- لا تخافي... إنها جولة قصف كالمعتاد.

تناولت جرعة ماءٍ، فاستعادت اتّزانها وقالت: 

- يجب أن أذهب... ستقلق أمي عليّ.

أجاب: الأفضل أن تنتظري قليلاً كي يهدأ القصف.

لكنها غادرت بلمح البصر، كما حضرت، وهي تقول:

- أشكرك على كل شيء.

اختفت، ولم تترك مجالاً للشاب أن يرد. كان يريد أن يقول لها إنّه سيرافقها إلى منزلها. 

 

بعد أن تحسن وضع هاجر واستقر بعد العملية، أوصى الطبيب بنقلها من غرفة العناية المشددة إلى غرفة عادية. 

في المساء، وهو يطمئن على صحة مرضاه قبل المغادرة، دخل غرفتها وهو يبتسم ويقول: 

- هاجر البطلة... الحمد لله على السلامة.

ابتسمت في وجهه، بينما ابنها يقول: 

- ماما، الدكتور كمال أجرى لكِ العملية.

ابتسمت وقالت:

- الوشم... الوشم على عنقك... لقد عرفتكَ....

نظر إليها متسائلاً، فذكّرته بالحادثة والملجأ. عادا بالذاكرة إلى زمان الحرب الأهلية القاسي. ثم قالت: 

- الآن تذكرت... كان الوشم اسم جلنار مع قلب. أرجو أنّكما ما زلتما معاً.

ابتسم الطبيب بحزن وأجاب: 

- جلنار توفيت منذ أن كنتُ طفلاً... هي أمي. وللوشم حكاية سأخبرك بها. 

في العاشرة من عمري، كنتُ جالساً إلى جانب والدتي على شرفة المنزل، ننعم بدفء شمس الشتاء. فجأة سقطت قذيفة قربنا، فتوفيت والدتي وأصبتُ أنا في عنقي. بعد تعافيَّ من الإصابة، عانيتُ من صدمة وفاة أمي. كان والدي كلما بحث عني وجدني في غرفتي أمام المرآة، أخدش مكان الإصابة. 

بفضل العلاج النفسي، تعلّمتُ أن أرسم أشكالاً جميلة فوق الإصابة، كي أحافظ عليها من أظافري، بعدها أصبحتُ أطلب من أبي أن يكتب بدل الرسومات اسم أمي... جلنار. في الثامنة عشرة من عمري، فاجأتُ والدي بهذا الوشم الذي يخلد اسم أمي. استاء مني وخاف عليَّ، بحجة أنّ المواد المستخدمة في الوشم يمكن أن تكون ملوثة، ولكنني قبّلتُ رأسه واستعطفته، فاسم جلنار الموشوم فوق حبل وريدي لن يحمل لي إلا السلامة.

ابتسمت بحزن وقالت وهي تمسح دمعة عن خدها: 

- تعيش وتتذكر.

ابتسم مجدداً وقال: 

- تعيشي يا ست هاجر... هي ذكرياتنا الموجعة، والجميلة أحياناً. لكنها ذكرياتنا وكنزنا الدفين في كل الأحوال. 

 

 

 

  0
  10
 0
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال