15 أكتوبر . 7 دقائق قراءة . 100
سيميائية الإختيار والانزياح التناصي، وبنيوية الإزدواجية الذاتية المأزومة في ديوان"عدالة شعرية ” للشاعرة المغربية منى وفيق
بقلم : حسن غريب أحمد
عضو نقابة اتحاد كتاب مصر
(عدالة شعرية) للشاعرة والكاتبة المغربية منى وفيق عن منشورات «لازورد» بالتعاون مع منشورات «نبض» فى العراق.
ولدت منى وفيق في 29 مارس 1981م بالرّباط، وهي خرّيجة أدب إنجليزي من جامعة محمد الخامس بالرباط، وحاصلة على بكالوريا آداب عصرية ميزة مستحسن.
عملت مراسلة للجريدة المغربيّة «أحداث البوغاز» من عام 2001م إلى عام 2002م، ومحررة بالصفحة الثقافية من أسرة مجلّة حطّة الإماراتيّة الإلكترونيّة من عام 2003م، ومحرّرة أدبية بجريدة «طنجة الأدبيّة» و«طنجة نت» المتخصصة في التكنلوجيا والإنترنت من عام 2004م، ومراسلة موقع سودانيل السوداني وموقع هداية نت من المغرب من عام 2005م، ومراسلة الصفحة الثقافية لمجلة غزالة الليبية وجريدة شباب مصر من المغرب.
كما عملت محررة بالمنتدى الثقافي لجريدة الشرق الأوسط اللندنية من عام 2006م، ومراسلة صحيفة إيلاف من المغرب من عام 2007م إلى عام 2008م، ومحررة في موقع أويا الليبي ومراسلة جريدة قورينا الليبية في المغرب من عام 2009م إلى عام 2010م، مراسلة مجلة روتانا من المغرب العربي من عام 2011م، وكاتبة عمود شهري في مجلة دبي الثقافية من عام 2010م إلى عام 2011م
والديوان هو الإصدار السادس لمنى وفيق بعد خمس إنتاجات أدبية متنوعة بين الشعر والقصة. فى الشعر، «فانيليا سمراء» (دار أزمنة، الأردن)، «نيون أحمر» (دار النهضة العربية، بيروت)، «حافة حادة لنصف صحن مكسور» (دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة). فى حقل القصة القصيرة، «نعناع، شمع وموت» (دار شرقيات المصرية)، «لعب دوت كوم» (دار افاق المصرية).
من أجواء الديوان:
التّماثيل مكرّسةٌ لأولئك الذين تجاوزوا وقتهم.
أَنظرُ إلى المرآة وأرمى روحى خلفى بعد ذلك.
كَففتُ عن إفعامِ المَشاهد بِموسيقىً عاطفيّة.
تاركةً التوتّر الصّوتى للصّمت، للصّرير، لأبواب الشّاحنة، لفَتح بِيرة..
شاعرةٌ من فُرق الإعدام المتجوّلة،
اختطَفتْها تلك الحانة، فأحْجَمَتْ عن تتّبع الخِطاب، الفرضيّات، الوقت..
أَلغَتْ نفسَها
مِثل محمصةٍ
تُعيدُ تشكيل المؤخّرات
أو ما يُطلق عليه بالخبز المسطّح
غلاف الديوان من تصميم الفنان والمبدع الجزائري «زبير فارس».
وتعريف
العدالة الشعرية قبل أن ندلف إلى نصوص الديوان لشاعرتنا هي أداة أدبية حيث يتم فيها انتصار الخير وهزيمة الشر في نهاية أي عمل أدبي مثل رواية أو قصة أو مسرحية أو قصيدة شعرية، في الأدب الحديث، غالبًا ما ترتبط العدالة الشعرية بتحريف المصير اللفظي المرتبط بأفعال الشخصية.
وتنتمي القصائد الموجودة في ديوان “عدالة شعرية ” للشاعرة منى وفيق إلى ما يمكن أن نسميه سرديات الذات المتكلمة، الذات المتكلمة هنا ليست الشاعرة، فنحنُ من المفترض ألا نكون على معرفة بها، لكننا الآن على معرفة، أو نحاول أن نكون على معرفة بالذات المتكلمة في القصائد، إنها الذات الموجودة في بؤرة أحداث وصور تومئ وتشير إلى أحلامها وصراعاتها وصدماتها وحكاياتها وفق علاقتها مع أسرتها ومع المقربين ومع من كانت تحبهم وظنت أنهم يحبونها، ومع البشر والحيوانات والأشياء الموجودة في العالم، الذات المتكلمة -كمصطلح- هي الذات المُفعمة بالدوافع والمخاوف والرغبات، وهي كما أشار فرويد ولاكان وجوليا كريستيفا ليست منفصلة عن تاريخها الشخصي ولا عن التاريخ العام ولا عن الوعي والمجتمع وضوابطه وقيوده.
إنها ذات منقسمة، ما بين عقلها الشعوري الواعي المُحاط بالقيود الاجتماعية والأقنعة الشخصية، وبين عقلها ووجدانها اللاشعوري الذي يرتبط أكثر بجسدها ودوافعها ونوازعها ورغباتها، وكذلك بوعيها الشخصي المُنقسم والذي يقف خلف أي تأليف أو كتابة أو غناء أو موسيقى أو تشكيل أو شعر أو أي إبداع فني آخر.
إن ذلك الوعي المُنقسم بين ما نتمناه ونحلم به.. وما ندركه ونعاني منه. هكذا تكون الذات المتكلمة في القصيدة ذاتاً منقسمة بطبيعتها، ما بين ذات إنسانية تفرح وتحزن وتحب وتتألم وتشبه الآخرين بدرجة ما، أو تتمنى أن تكون معهم “خارج القصيدة”، وذات أخرى تدرك ذلك التفاوت وتلك الصدمات والتوقعات المحبطة والآلام في الخارج، وتحاول أن تعبر عنها “داخل القصيدة”، من خلال لغتها كذات متكلمة، تلك اللغة التي يتم من خلالها استخدام الرموز والصور والعلامات والإيحاءات والإيماءات، كما تكون هذه الذات منقسمة أيضاً بين الحقيقة التي تدركها وتسعى إليها، وبين ذلك الآخر الذي يشكل نوعاً من الصدع وبؤرة الانقسام بداخلها.
بهذا تكون الذات المتكلمة موجودة مع الآخر خارج اللغة، وداخلها، واللغة مصطلح يستخدم هنا بمعناه الشامل، الذي لا يقتصر على الكتابة بالحروف والكلمات، حيث الألوان في التشكيل لغة، والأصوات في الموسيقى لغة.. إلخ.
والذات في ديوان “عدالة شعرية ” منقسمة بين محاولاتها اتخاذ واجهة أو ارتداء قناع التظاهر بالقوة واللامبالاة كأسلوب مواجهة للعالم، وبين الشعور بهشاشتها وضعفها وحاجتها إلى أرض ثابتة، إلى جدار، تستند عليه أو إليه. فالعالم في الديوان منظور إليه من خلال أعضاء الجسد، وبخاصة العين والفم. فنحن لا نعرف عين من تلك التي غادرت، هل هي عين الذات أم عين الآخر أم أنها عين ثالثة موجودة بين الذات والآخر؟ تلك العين الثالثة الموجودة في تلك المسافة الثالثة، منطقة الالتباس والغموض والشك وفقدان اليقين، عين الازدواج والانقسام وعين الذات في مراحل مختلفة من حياتها. عين تنظر وتغادر سريعاً لكنها تظل أيضاً موجودة في الذاكرة والوعي والحلم.
هذا الطفل كان.. أنا”
العين رمز الإحاطة الكلية والخيال والضوء والإشراق والمعرفة والمراقبة والإدراك والمشاهدة والرؤية الداخلية والحسد عند المغاربة .
الأزرق رمز للسماء الصافية والنهار والبحر والعمق والصفاء الديني والبراءة الحقيقية والهدوء والتجرد من الصراعات والوقاية من الحسد (الخرزة الزرقاء). والرمادي يرتبط بالاكتئاب والحزن والموت والندم.. لون مزدوج يجمع بين الأبيض والأسود، الأبيض الذي هو رمز غير متمايز أيضاً، لكنه يرتبط بالاكتمال والبساطة والضوء والشمس والهواء والنقاء والبراءة الكلية والظهر والسلطة الروحية والحب والحياة، كما يرتبط بالموت والأكفان البيضاء وملابس المرضى البيضاء. والأسود رمز الظلمة الأبدية، رمز العالم الغامض والمخبوء والمخيف، رمز الموت واليأس والدمار، رمز الحزن والأسى والفساد والتحلل، رمز الزمن والمشقة والعناء، رمز الفوضى والجحيم والليل.. وكما أن هناك ازدواجية في لون العينين، فهناك ازدواجية أيضاً في رؤية الذات لنفسها، فالذات هنا تنظر إلى داخلها بالعين الثالثة؛ عين الذاكرة والخيال، فترى صورتها الأخرى، ترى الطفل الذي يضحك لها ويضع “يده على فمه ليكتم ضحكة/ أو شهقة”.
الإعلان
مفردة “الشهقة” متكررة في الديوان، وهي دلالة على الاندهاش، والشهاق والشهيق قد يكون مصحوباً بالتأوه والألم، والشهيق من أصوات المكروبين كما جاء في لسان العرب، وقد ربطه البعض بالأنين الشديد المرتفع جداً، وقالوا إن الزفير في الحلق والشهيق في الصدر، والشهيق قد يكون مصحوباً بحركة ما في العين تدل على الدهشة، “وشهق فلان بشهقة فمات”، فهي إذن قد تكون العلامة السابقة على الموت.
هل شهيق الذات هنا حالة تسبق الموت، أو تشبه الموت؟ لا، إنها تتحرك ما بين ذلك الشعور بموت الأشياء، وموت الأحبة والبشر، والشعور كذلك بالدهشة والخوف وتعدد الذات وتحولاتها، والرغبة في الانسحاب من العالم والانزواء في الداخل، في البيت، في قلب الشوارع، وفي أعماق الأرض. هكذا تبدأ الذات توحداتها مع عالم الأعضاء والأشياء.
“تقول أمي
إنني مثل القطة
لأنها كلما جاءت
إلى غرفتي
لتغير الملاءة
لتكنس السجاد
لتطبق الغسيل
تجد شَعري عالقاً فيها
تقول إننا لسنا في الخريف
تقول هذا كثيراً
اليوم شهقت
حين دخلت عليّ
كانت كل شعرة
تنبت
رأساً”
هنا الشهقة مرتبطة برؤية شيء غير عادي، شيء غريب وغير مألوف، حيث أصبحت الرؤوس تنبت من الشعر، وليس العكس. وتشظي العالم وتوالد الكائنات ينقلنا إلى محور آخر في هذا الديوان يتعلق بفكرة انفصال الأشياء وتوالدها، ونجد ذلك في الشعر الذي ينفصل عن الرأس، واليد التي تنفصل عن الجسد، والأصابع التي تنفصل عن اليد، والأجساد التي بلا ذراعين أو ساقين، والأغصان التي بلا أشجار، والأجزاء التي تتجول منفصلة حرة، كأن لها وجودها المستقل عن أصلها، فثمة رغبة طوال الوقت في الانفصال عن الذات وعن الآخرين.
“البارحة
نسيت يدي على الطاولة
وذهبتُ إلى العمل
لم أستطِع أن أسلِّم
على أحد
أو أكتبَ أي شيء
وحين عدتُ
وجدتُ يدي تجوب البيت
بحثاً عني
يدي التي يئست
وعادت ثانية إلى الطاولة
مُمسكةً بفنجان القهوة
والسيجارة
معاً”
هذه القصيدة وغيرها من قصائد الديوان فيها نوع من الحس السيريالي الميتافيزيقي أيضاً، فاليد هنا تجوب البيت وتبحث عن صاحبتها، وتشعر باليأس وتعود إلى الطاولة وتمسك بفنجان القهوة والسيجارة معاً، إنها يد حية على الرغم من أنه قد يفترض أن تكون ميتة، يد تشعر بوجودها وحياتها واستقلالها وتحل محل الذات التي تفقد وظائفها العملية وقدراتها الإنسانية شيئاً فشيئاً: “لم أستطع أن أسلم على أحد/ أو أكتب أي شيء”، هنا نوع من التعبير الرمزي والمجازي عن فقدان العلاقات الاجتماعية والانفصال عن الآخرين، وفقد كذلك القدرة على الكتابة، اليد التي هي أداة السلام والكتابة والرسم، وأداة كل الأدوات، كما يقول أرسطو. واليد المنفصلة هذه موجودة في أعمال أدبية كثيرة، مثل قصيدة “يدي أسوأ مني” للشاعر محمود خير الله، وقصة “اليد المتحركة” لجي دي موباسان، و”اليد البنية” لأرثر كونان دويل، و”نداء اليد” لوليم جولدنج.
اليد في قصيدة منى وفيق ، وكذلك الأعضاء الأخرى التي تنفصل عن أصلها، وتتحرك حرة، قد تكون دلالة على انفصال الذات وتفككها، أو دلالة على اغتراب هذه الذات، وفقدانها القدرة على التحكم في أعضائها، وعلى سيطرة الأعضاء عليها وقيامها بتوجيهها، وعلى رغبة الجزء في أن يكون أكثر أهمية وذات حياة مستقلة بعيداً عن الكل، وعلى انفصال الفرد عن المجتمع وعن المجموع وعن الجذور، وعلى الرغبة في الابتعاد عن هذا الحضور الكُلي للجسد والآخر والمجتمع أو أنها قد تكون أشبه بتمثيل رمزي مكثف للمشاعر والخبرات والأحلام والصراعات والانفعالات الكامنة في هذه الذات. لكنه رمز بقدر ما يكون مألوفاً بقدر ما يكون مخيفاً ومعبراً عن وجود الذات أيضاً في عالم مخيف وموحش وغريب، عالم مفكك مُفعم بالتشظي والفقدان للتجانس والتكامل والعلاقات الحميمية، بحيث أن فقدان العلاقة مع الآخر قد يتم استبدالها وإحلال علاقة أخرى مع أعضاء الجسد، أو جوانب أخرى من الذات، فالطفل الذي كان موجوداً في الماضي وشهق لما حل بهذه الذات التي أصبح لديها عين زرقاء وأخرى رمادية، واليد التي انفصلت عن صاحبتها وصارت تجلس وتحتسى القهوة والسيجارة غير معنية بذلك الإنسان الذي كانت جزءاً منه، وأيضاً الأصابع التي انغلق الباب عليها ورفض الذين كانوا في الداخل أن يفتحوا لها، أو يردوا عليها؛ “الحوائط والدواليب والشرفات/ فقررت أن أترك أصابعي محشورة”، مع أمنيات أن يأتي أحد ويفتح الباب، ويأخذ هذه الأصابع إلى أقرب جامع “وينادي في الميكرفون/ بأعلى صوته/ أنه وجد أربع أصابع/ لا تزال بدمائها”.
هنا أيضاً نوع من التوحد الخاص بهذه الذات المتكلمة في القصائد مع أصابعها، التي أصبحت “محشورة” في الباب، وأصبحت هناك أمنية لأن يأتي أحد ويأخذها إلى أقرب جامع وينادي عليها مثل طفلة يتيمة أو تائهة وربما قد لا يجد لها صاحباً فيزرعها في “تربة” فتطرح “شجرة من الأصابع”، “يقطف منها كل من ينغلق الباب على أصابعه”.
هنا أيضاً تجسيد لحالة التوالد والتناسخ وظهور الكل من الجزء وليس العكس، كما كان الحال بالنسبة للشَعر الذي يُنبت رؤوساً، وفي هذه القصيدة تتحول الأصابع إلى أشجار تقدم التواصل والدفء والاهتمام لكل هؤلاء الذين بخلوا في البداية في الاهتمام بصاحبة تلك الأصابع، هنا تكون الأشجار بديلة للأبواب والحوائط والدواليب والشرفات الصامتة، وللبشر الغائبين المتجاهلين ذوي القلوب القاسية المتحجرة لهؤلاء الذين تحاول الذات المتكلمة في قصيدة “العالقون بجسدي” أن تتخلص منهم: “حين أعود إلى البيت/ أستحم مباشرةً/ لأتخلص من هؤلاء /الذين علقوا بجسدي”، ومحاولة كذلك للخلاص من هؤلاء: “الذين اصطدموا بكتفي/ الذين دهسوا قلبي/ دون قصد”.. “الذين لم أنظر إليهم/ ولم ينظروا إلىّ”.. “الذين بلا ذراعين/ أو ساقين”.. “الذين يضحكون بلا سبب/ والذين يبكون لأن رؤوسهم كلما مشوا / تقع منهم”. هنا لا يكون حالات قطع الأوصال مقتصرة على الذات بل مُحيطة أيضاً بالآخر، حيث توجد قصة حب في الديوان مصحوبة بفجيعة وصدمة.
الشاعرة منى وفيق
في الديوان، يتحول البشر إلى كائنات أخرى تشبه القطط والكلاب، كما حدث في قصيدة “ولد يمشي على ركبتيه”، حيث رأت الذات المتكلمة ولداً “يشبه الكلب كثيراً”.. “ويشم قطعة الخبز/ التي أعطتها له امرأة/ ويحرك رأسه حركة عشوائية/ ويترك لعابه يسيل”، هذا الولد أو الطفل لم يكن له ذيل، لكن هذا لا ينفي أنه كلب كلباً أكثر إنسانية وحميمية من البشر، لهذا نبتت له في القصيدة جناحان، وهنا تأكيد أيضاً على فكرة التوالد وظهور البدائل، وعلى العالم الذي يكتسي دائماً بصفة وصبغة سيريالية في الديوان، فهناك أيضاً النافذة التي تريد أن تُفتح في النهار “وأن تمر من أمامها القطط/ والكلاب/ والسيارات/ والناس أيضاً”، “وأن تغمض أضلافها في الليل”، وذلك في مواجهة الآخرين الذين يزاحمون ويداهمون ويباغتون، كما في قصيدة (شق طويل): “ما يخيفني أن يفكر أحدهم/ أن يطل برأسه/ ويباغتني”، والملامح التي تتفكك وتتبعثر وتسقط في قصيدة (في يوم وجدت ملامحي على الوسادة)، حيث توجد رأس الذات المتكلمة في القصيدة وشعرها وحاجباها على الوسادة، بينما تسقط العينان والأذنان والأنف والفم وتتدحرج على الأرض، وحيث تزداد مشاعر الحزن وتنهمر الدموع وأصوات البكاء المكتومة التي تنبع من القلب ومن العين، والفم الذي يتمتم ويهمهم ويقول كلاماً غير مفهوم، وينفصل عن الذات المتكلمة والتي تعبر عن مشاعرها المؤلمة ليس بالكلام، بل بالوجدان، بحالات الانفصال والتشتت وبعثرة الملامح، فالفم يتحرك هنا حركة مستقلة، مثل اليد في قصيدة (يد تجوب البيت)، ومثل الأصابع في قصيدة (شجرة من الأصابع)، الفم يريد أن “يسب الحياة في وجهها”، فالذات لم تعد قادرة على مواجهة العالم وتريد أن تهرب من واقعها ومن حياتها: “الآن/ لم أعد قادرة/ على التقاط سيلفى لنفسي”، كما أصبح الوجه أداة للذاكرة، التي تراكمت فوقها أتربة الأحداث التي لا تريد الذات أن تستدعيها، فهي لا تريد أن تغسل وجهها، لأنها كلما مررت أصابعها عليه، يصاب وتصاب برعشة ورعدة عنيفة مخيفة، تجلب ذكريات ووجوه الذين غادروها.
في قصيدة (مسمار أبي)، كان ذلك الآخر/ الأب ضعيف النظر، بينما كانت الذات المتكلمة في القصيدة نحيفة وقصيرة للغاية، فقام الأب بمد يده وأخذها “وصار يدق بعنف على رأسي/ حتى أدخل في الحائط/ لكنني لم أدخل/ وانفلت من بين أصابعه”، هنا رصد لقوة الآخر وسلطته، قوة الأب التي قد تحتوى بداخلها على نوع من الضعف، وكذلك عدم قدرته على إدخال رأسها الذي تحول إلى مسمار، هكذا انفلتت من بين أصابعه وانزوت في الركن تبكي “..كمسمار اعوج للتو”. في القصيدة، تتزايد الرغبة لدى الذات المتكلمة في الانطواء والانزواء، في الدخول إلى الداخل، إلى أعماق الذات المعتمة المتكلمة، حيث لا أحد سواها، فهي كلما خرجت إلى العالم تجد نفسها قد فقدت أسلحة تأكيد وجودها، لهذا لا تمانع أن تكون شارعاً، فالبقال في قصيدة “ظن أني شارع” رش الماء عليها معتقداً أنها شارع، وهي لم تبد أدنى مقاومة أو رفض لذلك، تقول: ” وحتى لا أخيب ظنه/ ذبتُ تماماً في الوحل”.. “وحين مرت سيارة مسرعة/ من أمامه/ وجدني عالقة/ على شاربه/ وعلى ساعديه/ وبنطاله الساقط”.
من الشارع إلى القبر في قصيدة “قبر وحيد على الطريق”، والذي تتعاطف مع وحدته الموحشة على الطريق ومع غربته حيث “لا يزوره أحد/ ولا يعرفُ أحدٌ من المارة/ كيف أتى إلى هنا”. يتحول القبر في وعي وإدراك وتخييلات الذات المتكلمة وتهومياتها إلى إنسان يمشي وينام وتطرده عائلته ويجد نفسه في النهاية بلا مأوى، القبر هنا هو الذات، هو المكان المعتم فيها، هو الموضع أو الرمز الذي تم إسقاط مشاعر التعب والتجوال والانتظار غير المجدي للأحبة، إنه قبر وحيد مجهول، بلا أقارب أو أصدقاء.
ويزداد توحد الذات المتكلمة مع الأطفال والقبور وأغصان الشجر (قصيدة مثل غصن) والأشياء التي تتمرد وتترك المكان الذي وضعتها فيه (قصيدة أن تغيب بحق) والأجنحة، وذلك في مواجهة الوحشة والليل الذي يزحف على بطنه (قصيدة ليل يزحف على بطنه) والحوائط التي تبكي في الليل، والليل الذي لا يحدث فيه شيء، حيث تقوم الذات المتكلمة أيضاً برعاية عنكبوت في درج مكتبها، وحيث القطعة المتبقية من قلبها التي تجمع حولها النمل (قصيدة يقولون إن الوحدة تأتي)، وهنا أيضاً رصد لحالة الوحدة التي تكاد تقترب من الجنون: “يقولونَ إنْ الوحدةَ تأتي/ حين يُكلّم الواحد نفسهُ/ وهو عارٍ”، كما تحلم الذات في الديوان بأن تكون ساعة معلقة على الجدار: “أحلمُ أن ينهدم الجدار/ ويسقط مني الوقت/ وتهرب العقارب”.
وبين جدار لا ينهدم، ووقت متوقف جامد، وعقارب لا تهرب، بل تلدغ وتميت تتمنى الذات أن يكون جسدها طريقاً “أن يود الناس المشي عليّ/ ولا يصلون”، كما يعود هؤلاء الذين كانوا قد ظهروا خفية وعلى نحو سريع أو معمم في قصيدة (العالقون بجسدي) والذين قالت عنهم الذات المتكلمة إنهم دهسوا قلبها دون قصد، إلى الظهور على نحو مباشر في قصيدة “قلبي”:
“الحصاةُ التي قَفَزَتْ في حذائك
التي أمسكتها بأطراف أصابعك
وألقيتها بعيداً
كانت قلبي”
هنا بوح أشبه بالتصريح بحالة من الخداع والهجران والتخلي من قبل حبيب مخادع وقاسي، حيث تعامل مع قلب الذات المتكلمة كما لو أنها حصاة صغيرة.. لا قيمة لها، حصاة موجودة في طريق “يمشي الناس عليه ولا يصلون”، حصاة تماثل ذلك الطفل الذي يمشي على ركبتيه، والساعة المعطلة والمعلقة على الفراغ، والبرطمان الذي تهشم وتناثر فتاته على البلاط، والدولاب الوحيد في البيت، وعلبة الجبن التي انتهت صلاحيتها، والغصن الذي “لم يأمل يوماً أن تنبت له ورقة خضراء”، والقبر الوحيد على الطريق، واليد التي غادرت الجسد، والأصابع المحشورة في الباب، والشغف المفقود:
“حين أفقد الشغف
أقف أمام المرآة
وأنظر لا إلى نفسي
بل إليها
وأقول لها
ابتلعيني أيتها الادوية”
ومثلما تحولت المرآة إلى هاوية، إلى متاهة، إلى خلاء وعدم، فكذلك كان الحبيب رجلاً من زجاج ” كلما لمسته/ كلما احتضنته/ كلما قبّلته/ خُدِشْتُ”، كلما اقتربت منه الذات المتكلمة انكسر جزء من تكوينه الزجاجي الهش، هكذا تتفكك أواصر العلاقة وروابطها: “حتى وجدتُهُ في يوم محض فتات/ أجمعهُ بيدي”، كما سقط منها: “كما تسقط أظافري/ وكما يسقط شعري/ وأنا استحم”، وهناك أيضاً في الجزء الأخير من الديوان استعادة لأماكن ذهبا إليها أو مرا عليها في القاهرة، لكنها تصل في النهاية إلى الوحدة الموحشة، حيث الثقب الذي أحدث في قلبها قد “اتسع بعض الشيء/ وصارت تمر منه الفئران”.. هكذا جسدت الذات المتكلمة لنا وعبر هذه القصائد الكثير من المواقف والصراعات والصدمات التي مرت بها خلال حياتها وعبر علاقاتها في وسط واقع ذكوري منحط شديد القسوة والتسلط واللإنسانية.ق
17 فبراير . 0 دقيقة قراءة