عن الحب: أبحثُ عنك كلِ صباحٍ

ندى غنيم

01 يناير  .   9 دقائق قراءة  .    707


أين الحب؟

عادة يبدأ البحث عن الحب في سن المراهقة حين يداعبنا شعور مغري بالتعرّف على الآخر ورغبة قوية في لفت انتباهه إلينا. يختفي تدريجيًا مرح الطفولة ليحل محله قلق مُبْهَم، "هل سأعثر على الحبيب؟" سألت صديقتي قبل التحاقنا بالجامعة، أجابت سريعًا "بالطبع.. أنتِ جميلة جدًا". كان سؤالي نابعًا من افتقادي للسكينة.

هذا الفراغ الذي يفرض نفسه حتى في أكثر الأوقات سعادة. نشعر بعدم الاكتمال ونتساءل ما قيمة الحياة إذا لم نجد من يُشاركنا إيّاها. هناك القول بأننا نستطيع العثور على الحب بين الأهل والأصدقاء. نعم، هم ركن أساسي في حياة الفرد ولكن ماذا عن الحب الرومانسي.. عن شريك الحياة؟ ألا نستحق هذا الحب؟

عندما يغيب ذلك النوع الرومانسي من الحب، تبدأ نظريات القسمة والنصيب في الظهور. ربما ينتابنا الشعور بالذنب بسبب تذمّرنا وقد منّ الله علينا بنعم أخرى كثيرة. تجول وتتردد داخلنا فكرة أن الحياة لا تعطي كل شيء وها هو قدرنا أن نعيش وحيدين، كل ما علينا هو التسليم بهذا القدر. غير أنه تسليمٌ ظاهري لا يلبث أن ينكشف زيفه بعد رؤيتنا للعاشقين في الطرقات وهم منسحبون داخل عالمهم الخاص، بعيدًا عنا. يزداد الألم وتنخر الرغبة فينا عند رجوعنا في المساء واستشعار أجسادنا برودة الوحدة.



البحث المحموم والعلاقة التي غيرت كل شيء

لم يكن تنبؤ صديقتي دقيقًا، نعم ترددت كلمات الحب على مسامعي في سنوات التحاقي بالجامعة ولاحقتني الكثير من نظرات الاهتمام والتعلّق، لكن لم أعثر على الحب أبدًا. أسمع كلمات الحب لتزداد الوحشة داخلي.. تُعمّق فراغ الوحدة. ازداد اشتياقي لمبادلة الغرام بالغرام، وانتظرت كثيرًا حتى جاء يومٌ موعود.

قابلته، شعرت من حينها بأن شيئًا مختلفًا يتحرك داخلي لم أعهد به من قبل. أحببته بشدة أو هكذا ظننت، أعطيت وأعطيت إلى حد الاستنزاف. انتهت تلك العلاقة المؤذية بعد قرابة السنتين والنصف، حينما قال لي في رسالة نصيّة: لا أحبك بالقدر الكافي للتمسك بكِ. أنتِ لا تكفي.


بلغ ألمي حد الهلع، وبَدأتْ أعراض الانسحاب. تعريف الإدمان هو الحالة الناتجة عن استعمال مواد مخدرة بصفة مستمرة؛ بحيث يصبح الإنسان معتمدًا عليها نفسيًّا وجسديًّا. اعتمدّت عاطفيًا عليه، أنتظره يمنحني قبساتٍ من كلمات الحب، وبعضًا من التسكين لألم الفراغ الداخلي. كلماته كانت مادة مُخدِّرة لشعوري المُهلِك بعدم استحقاقي في الوجود. كانت جراحي دامية تنزف كل يوم مع استفحال إحساسِ الخزي والعار. لكن شيئًا داخلي ظل متحديًا يرفض الاستسلام.

 


تغيير وجهة البحث ولمحات من رحلة التعافي

أتذكر جيدًا أنني كتبت في محرك البحث جوجل العملاق كلمة "Self-awareness" كانت خيط النور وبداية رحلتي الخاصة التي لم ولن تنتهي أبدًا. تعلّمت أن جميعنا يستحق الحب، وإن لم نُدرك ذلك بعد. فطنْت إلى الفرق بين التعلّق والحب، وتجسيدًا لتلك المفاهيم المجرّدة، أرى تشبيه التعلّق بظاهرة السراب. السراب هو؛ نوع من الوهم البصري، والتعلّق هو توهّم الحب. حين نتعلّق بالآخرين فإننا نكون في حالة انتظارٍ دائمٍ وركود، نُوقِف حركة الحياة داخلنا عندما نستخدم طاقتها في التمركز والدوران حول الآخرين. طريقٌ نتكبدُ فيه الويْلات والخسائر من أجل جذب انتباههم إلينا. نبدأ بالخوف من معارضتهم، والتنازل عن حقنا الأصيل في التصريح بالرفض لأي شيء لا يمثّلنا. ننغمس في العطاء غير الحكيم. هي معركة لخسارة الذات، هكذا نشعر بالإنهاك والوحْشة وافتقاد السكينة. 

الحب هو؛ أن تتمثل فيك الحياة، بكل تقلباتها وعنفوانها، فالحياة طاقة للحركة والخَلْق. تحتاج عملية الخَلْق إلى الإيمان؛ وهو التصديق في شيء غيبي لا تراه العين. عليك أن تؤمن بقيمتك الفريدة واستحقاقك لكل ما يرغب قلبك فيه قبل أن يتجلّى ذلك في عالمك المادي. 

أتذكر جلستي مع طبيبي النفسي الذي فطن من محور حديثي أن حبي لذاتي مشترطا بتحقيق أهداف وإنجازات؛ كلما أنجزت ازداد تقديري لذاتي والعكس بالعكس. استوقفتني كلماته حينما قال لي "وإن لم تفعلي شيئًا وجلست طوال اليوم مرتاحة على أريكة.. فأنت تستحقين الحب". لم أستوعب بالكامل مضمون كلماته... فقط سكنتُ وظلّت عيناي مُثبّتة عليه وكأنني أتشبث بما قال أحاول تذكر الحقيقة التي حُجبت عنّي منذ زمنٍ.  

بدأت تدريجيًا أستوعب مدى اختلال المعيار السابق لحب الذات، وخاصة عند مراجعتي لحقيقة أخرى كانت غائبة وهي؛ أن التجربة وتقبّل الفشل من العناصر الأساسية لخلق حياة مليئة بالنجاح والرضا. ولمّا كان الفشل عدوًا مبينًا يُفقِدني استحقاق الحب، أحجمت عن التجربة إلا لماماً وبحذر. هنا أدركت أن معيار حب الذات المرتبط بالإنجازات معيار مذبذب غير دائم، قد خُلق من رحم الجحيم ليحجب عني سلام الجنة.

أوقفت السباق اللاهث وطاحونة العمل الدائرة، تجردت تدريجيًا من كل الألقاب والتعريفات ووقفت عارية. كانت غرفتي ملجئي، أقبع فيه وحدي بالساعات يؤنسني نورالقمر وسكون الكون. أتابع حركة تنفسي وأنصت لما يعتمل في نفسي. قد أوصاني طبيبي بمتابعة أفكاري ومشاعري وتدوينها، والنظر في المعتقدات والقناعات من أين جاءت، وبدأت التساؤل في مدى صحتها والجرأة على تغييرها بما ينفعني ويناسبني أنا... وحدي أنا كان لي القرار. 

اتخذت قرارًا ذكيًا وشجاعًا وهو عدم اللجوء إلى العلاقات للهروب من وحدتي، كيف أتوقع أو أتمنى أن يبقى أحد بجانبي إذا كنت أهرب أنا. عقدت العزم على الحضور والإصغاء إلى ألمي.

واتبعت حيلة لطيفة... في إحدى الليالي ابتعْت قطعة صغيرة من الحلوى "Red velvet"، كانت موضوعة في إناءٍ زجاجي جميل مغلق، بعدما فرغت من أكل الحلوى أتتني فكرة استخدام الإناء في لعبة نفسية. غسلت إناء الحلوى وجلست أفكر: ما هي الكلمات أو الجمل التي أود سماعها من الأهل أو الأصدقاء أو الحبيب المرتقب. أتى سيل من الجمل، كل يوم أسأل نفسي ماذا وكيف تُحِب أن تُعامل؟ كتبت كل ما تريده على قصاصات من ورق طويتها ووضعتها داخل الإناء وأغلقته. 

في صباحِ كل يومٍ أو حينما تُلِحّ الحاجة، ألجأ إلى الإناء وأختار قصاصة ورق مطوية وأقرؤها عليّ. في البدءِ كنت أشعر بالسذاجة والإشفاق لكن بطريقة ما انطلت الحيلة على عقلي ورأيت نتائج مدهشة. إذا حدث وتمت معاملتي بما لا يليق أو لا أحب، وجدت صوتًا بداخلي رافض ومعتد بنفسه، يملي علي سلوكيات جديدة كردودِ أفعالٍ على مواقف أو إعلانا مني بالمبادرة.

كانت جمل وتوجّهات جديدة –أو منسيّة- أسمع صداها داخلي تطلب تجسيدها في أفعالٍ؛ لا تسمحي بذلك، أعلني رفضك، أخرجي في نزهة على الأقدام، لا تحاول الاتصال بي... فعّلي حظر المكالمات، أنا مشغولة، لا تنتظري أحدا، أحب الحديث معك هل ترغب في الخروج سويا؟ 

تعمّقت الصلة بيني وبين ذلك الصوت الداخلي، الذي طلب منّي المزيد من التنقيب عن جذور الأفكار المعطوبة التي توارثتها. أدركت بعد الخوض في البحث أنني لم أكن -فيما سبق- أسعى إلى الحب الحقيقي... كنت أبحث عن الحب الذي أعرفه وقد اعتدته من الأهل والمدرسة والمجتمع.. رأيت جذور الأذى واستوعبت مدى فداحة الخسارة التي لحقت بي فاشتعلت نار الغضب بداخلي. ابتعدت عن الناس أكثر واقتربت من الطبيعة. 

للطبيعة تأثير طاغ عليّ... تسحب مني أمواج البحر ذبذبات القلق والتوتر، تُعلمني الأشجار الصبر واحترام إيقاعي في النمو. وتُخبرني الجبال ألا أعبأ كثيرًا، وأن أنظر في أعين المتبجح والمغرور. أما الفضاء الشاسع الممتد فقد ملأني بالرهبة والتواضع والسكون. ساعدتني الطبيعة على استبدال الغضب الكامن تجاه الناس –تدريجيًا- بالتسامح والتعاطف، بعدما فطنت أن الأذى متكرر منذ أجيال بعيدة وأنه حلقة تدور لتسحقنا جميعا. تعهدت بكسر تلك الحلقة الملعونة. 

تسامحت مع من أذاني لغلق صفحات الماضي، ووضعت الحدود لحماية الحاضر والمستقبل. حدود قوية كالقلاع أسستها وبنيتها بنفسي من أفكار وقناعات مفعة بالحب. لن يؤذن لأحد بالدخول إلا إذا كان يتناغم مع ترددات الحب الصادرة عني. ولأنني لا أخشى الوحدة اجترأت على قول لا.. وشجعت من حولي على بناء قلاع الحب الخاصة بهم. أحترم حدودهم وأطلب احترام حدودي. شيئا فشيئا تكونت حولي علاقات جديدة يُحركها الاحترام والمسؤولية والود المتبادل.

رحلتي المستمرة لم ولن يكون هدفها المثالية، هي رحلة لخلق التوازن الداخلي -ما استطعت- ليفيض مثيله بالخارج. رحلة تُعزز من قدرتي على الحضور في زمن اللحظة، ذلك الحيز الزمني الساكن خلف دوامات الحزن من الماضي والقلق من المستقبل. 


  5
  10
 2
مواضيع مشابهة

15 فبراير  .  1 دقيقة قراءة

  1
  4
 0

18 فبراير  .  3 دقائق قراءة

  1
  10
 3

30 يناير  .  3 دقائق قراءة

  1
  10
 0

20 أبريل  .  1 دقيقة قراءة

  1
  12
 0

04 أغسطس  .  0 دقيقة قراءة

  0
  2
 0

15 فبراير  .  1 دقيقة قراءة

  0
  5
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
فراس كبيدات
03 يناير
فعلاً مقال قيّم وجميل... ننتظر المزيد من تجاربك ندى
  0
  1
 1
عادل خالد الديري
03 يناير
تلك اللحظة المصيرية التي تدرك فيها أن ما تتنفس الهواء لأجله هو ما يسممك ويعكر صفو حياتك. كم هو قاس ذاك القرار بالإلتفاف إلى الوراء والسير ضد عاصفة قلبك وإدمان عقلك على شخص ما حتى بلوغ واحة السكينة في العزلة. السلام الداخلي الذي ينتظرك هناك يستحق مشقة الرحلة ولا شك.
  0
  2