الاختصاص الجامعي ومحنة الثقافة

01 يناير  .   18 دقيقة قراءة  .    972

مقدّمة

كثيرون يَنظرون إلى الثقافة على أنها الاختصاص في أحد حقول المعرفة والحصول على درجة جامعية فيه. ويبدو أنّ العلوم الطبيعية والمهنية تشكّل أعلى نموذج ثقافي في أذهان عامّة الناس. من هنا تنزع أكثر مجتمعات العالم إلى إضفاء قيمة إضافية على اختصاصات كالطبّ والصيدلة والهندسة والمحاماة وبعض فروع العلوم كالفيزياء النوويّة والهندسة الجينيّة، وتنظر إلى حاملي الدرجات الجامعية في هذه الحقول كما لو كانوا نخبة المجتمع. ولعل هذا يفسّر إقبال غالبية الطلاب الجامعيين في معظم أنحاء العالم اليوم على هذه الاختصاصات وما شابهها وإحجامهم عن اختيار أحد حقول الدراسات الإنسانية، كالتاريخ والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأدب، إلى حدّ باتت معه جامعات كثيرة حول العالم تطلق هذه الصرخة المدوّية: "أنْقِذوا الإنسانيات" (1). ويدعم دعاة الاختصاص موقفهم بإبراز أهمية المعرفة المعمقة في حقل معين، وما أنتجته هذه المعرفة من ابتكارات في العلوم الطبيعية والاجتماعية والطب والهندسة، وفي الانسانيات نفسها من تاريخ وفلسفة ولغة وأدب، وفي كل حقل من حقول المعرفة. أما الدراسة الممتدة أُفقياً لا عمودياً، أي المتصفة بالسعة دون العمق، فهي تنتج أُناساً يعرفون القليل عن كل شيء من غير أن يعرفوا الكثير عن شيء واحد، كما تُفقِر سوق العمل إلى خبراء في مختلف الحقول.

لا شك أنّ هذا الموقف يرتكز إلى سوء فهم للمقصود بالثقافة الإنسانية التي تبدأ على مقاعد المدرسة وتترسخ في الجامعة وتتجدد مدى الحياة. ولكي نكشف سوء الفهم هذا ونعمل على إزالته، لا بد أولاً من الكلام عن مهمّة الجامعة أو وظيفتها.

مهمّة الجامعة

في هذا القسم سنتبنّى تصنيف المفكر أديب صعب (3) ورؤيته لمهمة الجامعة تحت هذه العناوين الأربعة الكبيرة: (1) الجامعة مكان لإعداد اختصاصيين. (2) الجامعة مكان لإعداد باحثين. (3) الجامعة مكان لإعداد مثقفين. (4) الجامعة مكان للتدريب على التفكير النقدي.

1. إعداد الاختصاصيين

معظم الطلاب يدخلون الجامعة سعياً وراء اختصاص معين في حقل أو آخر من حقول المعرفة، كالهندسة أو الطب أو الفيزياء أو التاريخ أو الفلسفة أو الاقتصاد أو علم النفس أو الأدب. والجامعة إنما استمدّت اسمها من جمعها كل الاختصاصات أو معظمها، وإن اقتصرت بعض الجامعات على عدد قليل من الاختصاصات. لكن في هذه الحال ينطبق عليها اسم الكلّية أكثر من اسم الجامعة. وتتيح الجامعة الناجحة، في مختبراتها ومراكز أبحاثها ومكتباتها، أوسع الوسائل أمام طالب الاختصاص كي يتحرّى أفضل ما توصل إليه المبتكرون والباحثون والمؤلفون والأساتذة في حقل المعرفة الذي يَنشده. ويأتي دَور الأستاذ في الصف لينقل أساسيات المعرفة إلى الطلاب، علماً أنّ أهم ما يفعله الأستاذ هو تأهيل الطلاب لابتكار مناهج أو طرق يستطيعون على أساسها تحرّي المعارف بأنفسهم. فالمواد التي تتيحها الجامعة في حقول الاختصاص المختلفة لطلابها غير كافية لتغطية هذه الحقول. لذلك تركّز الجامعة على أساسيات علم معين، مع مساعدة طلاب الاختصاص على تكوين منهج يعينهم على الاستزادة وتحرّي المستجدّات في حقول اختصاصهم. مثلاً، لا ينفع الطبيبَ الناجحَ الطَّموح، عندما يخرج إلى العمل، الاكتفاءُ بما تعلّمه من الأساتذة والكتب والمختبرات والتدريب خلال سنيّ دراسته، بل ينبغي أن يلاحق المستجدّات النظرية والتقنية في حقل اختصاصه يوماً بعد يوم. ومن أهداف المؤتمرات الطبية عرض نتائج الأبحاث الجديدة وتبادل الخبرات. وما يصحّ على الطب يصحّ على أيّ اختصاص جامعي آخر.

2. إعداد الباحثين

لم تَعرف العلومُ والمعارفُ التقدمَ إلا على أيدي باحثين. هؤلاء هم الصنّاع الرئيسيون للحضارة. وفي رأي أحد كبار علماء النفس، سيغموند فرويد، أنّ هؤلاء يضحّون بملذّاتهم لكي يصنعوا الحضارة (4). وإذ لا نشكّ في أنّ تكريس الحياة لهذا الهدف الجليل، وهو المساهمة في صنع ما ليس بأقل من مستقبل الجنس البشري في مختلف المجالات، يقتضي العمل المتواصل والكدّ والتضحيات، غير أنّ العلماء المبتكِرين عموماً ما كانوا ليكرّسوا حياتهم لملاحقة ابتكاراتهم لو لم يكن هذا النوع من العمل عين اللذّة والرغبة والحلاوة بالنسبة إليهم. وهم اختاروا الانصراف إلى الأبحاث بمحض إرادتهم. وهؤلاء قلّة من طلاب الجامعات الذين لم يكتفوا بالدرجة الاولى من الاختصاص، بل تابعوا الدراسات العليا ونالوا درجات مثل الماجستير والدكتوراه. وإذ لا يعني هذا أنّ كل مَن يحمل درجة من هذا النوع هو بالضرورة باحث أصيل أو باحث من أيّ نوع، إلا أنّ الدراسات العليا هي التي تعدّ الطلاب كي يصيروا باحثين. ومن واجبات الجامعة تأمين أفضل الظروف المادية والمعنوية في سبيل إعداد بعض طلابها كي يكونوا باحثين. ولا تكتفي الجامعات بالدوائر التقليدية من أجل تحقيق هذا الهدف، بل تلجأ إلى إنشاء مراكز أبحاث هي التي تُصدِر التقارير والمطبوعات عادةً في حقول العلم التي تنزع نحو تفريع الاختصاص. ففي حين تَحمل الدوائر أسماء مثل: دائرة الفيزياء، دائرة علم النفس، دائرة الفلسفة، تحمل مراكز البحث أسماء مثل: مركز علم النفس التربوي، مركز علم النفس الجنائي، مركز علم النفس الديني، مركز دراسة فلسفة القرون الوسطى، مركز الدراسات الشكسبيرية، معهد الفيزياء النووية، مركز الزراعة الاختبارية، مركز الأمراض الاستوائية... والخطأ الذي يمكن أن ترتكبه بعض الجامعات في حق مراكز الأبحاث لديها هو إهمال دعمها بما يكفي من معدّات وتسهيلات ومرشدين للطلاب، بحجّة أنّ المقبلين على الاختصاص في مراكز من هذا النوع أقلية على الدوام، وأنها بالتالي تحتاج إلى موازنة ضخمة. لكنّ الجامعة تتخلى عن إحدى أكبر مهمّاتها إنْ هي تخلّت عن تأسيس مراكز أبحاث ودعمها على أفضل وجه. وإضافةً إلى الخدمات الجلّى التي تقدمها هذه المراكز للمجتمع والحضارة، فهي التي تصنع اسمَ الجامعة أو سِمَتَها أكثر من أيّ عامل آخر.

3. إعداد المثقفين

ما سبق يندرج تحت باب الاختصاص. إلا أنّ مهمّة الجامعة لا تقف عند هذا الحد، وإنْ كانت جامعات كثيرة حول العالم تكتفي به ظنّاً أنها تلبّي حاجةَ سوق العمل بوظيفتها الأولى وحاجةَ تقدُّم العلوم بالوظيفة الثانية. لكن بما أنّ هدف التربية، سواءٌ أكان مكانها المدرسة أم الجامعة أم سواهما، هو تنمية الشخصية الإنسانية، فهذه الشخصية تبقى قاصرة جداً عن النمو بعيداً عن الدراسات الإنسانية. وقد سُمِّيَت هذه الدراسات إنسانية لأنها تتناول الإنسان في بُعده الوجودي أو النفسي أو الروحي. ومن أبرزها التاريخ والفلسفة والأدب والعلوم الاجتماعية والدين والفن. ولعل ما جاء في كتاب "الميتافيزيق" الذي وضعه أرسطو قديماً يلقي بعض نور على الفرق بين نطاق الاختصاص ونطاق الثقافة. فهو وصفَ العلوم أو المعارف المختلفة بقوله إنّ كلاً منها يقتطع جانباً من الوجود ويعمل عليه. فالرياضيات تَدرس الوجود من حيث هو عدد أو رقم، والكيمياء من حيث هو مادّة، والفيزياء من حيث هو حركة، والجيولوجيا من حيث طبقات الأرض، وهكذا. ويتابع أرسطو أنّ هناك علماً يختلف عن هذه العلوم كلها لأنّ موضوعه يتناول الوجود لا من هذه الناحية أو تلك، بل الوجود من حيث هو موجود. ويعطي أمثلة عن المسائل التي يطرحها هذا العلم، مركّزاً على الغاية أو المعنى: ما معنى الوجود؟ ما غايته؟ كيف يمكن أن ينظر الإنسان إلى العالم، بما في ذلك نفسه؟ ما الفرق بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل؟ كيف تنتقل الأشياء من ذاك الطور إلى هذا، أي كيف تحقق ذاتها؟ ويطلق على هذا العلم اسم "الفلسفة الأولى"، أو علم الوجود من حيث هو موجود. وإذ لن نحصر الثقافة بالفلسفة، لكن تجدر الإشارة إلى أنّ ما قصده أرسطو بالفلسفة كان يذهب أبعد كثيراً مما تشير إليه الكلمة اليوم. الفلسفة آنذاك كانت تعني التبحُّر في علوم كثيرة تحوي كل علوم الإنسان إضافةً إلى الرياضيات والعلوم الطبيعية والطب وما تَيسَّر من بقية المعارف. وكان الفيلسوف عالماً في كل شيء تقريباً (polymath).

غنيٌّ عن القول إننا لم نقصد بالثقافة هذا النوع من الشمول. لكننا سقنا هذا الإيضاح الأرسطيّ للتمييز بين نطاق الاختصاص الجزئي ونطاق الثقافة الشامل. فالطالب الجامعي، مهما كان حقل اختصاصه، لا يُعَدّ مثقفاً ما لم يطّلع على العلوم التي ذكرناها والتي سنخصص لها القسم التالي. لنأخذ الطبيب مثلاً. إنّ الطبيب الذي لم يطّلع اطّلاعاً لائقاً على علمَي النفس والاجتماع يجهل المريض الذي يقصده للعلاج. فهذا المريض فرد ينتمي إلى بيئة اجتماعية معينة، يجب أن ينشأ تعاون بينها وبين المريض من أجل حصول الشفاء. كما أنّ وضع المريض النفسي هو أحد عوامل شفائه. كذلك يجدر بالطبيب معرفة الأفكار التي استمدّها مريضه من عقيدته الدينية. ثمّ إنّ قراءة الشعر والرواية وسواهما من الأنواع الأدبية تساعد الطبيب في فهم الشخصية البشرية فهماً أكبر. ومَن يقرأ كتابات فرويد يدرك أهمية الأدب والفلسفة والثقافة عموماً للطب. في غياب هذه الثقافة الإنسانية عن الاختصاص الطبي، قد يكون للطبيب من سلامة فطرته ما يمنحه بُعداً إنسانياً. لكنّ الأرجح أنه سوف ينظر إلى ذاك الإنسان الذي يقصده بهدف العلاج والشفاء كما لو كان "زبوناً" جاء يشتري سلعة من حانوته أكثر من كونه "مريضاً"؛ ولعل هذه الصفقة التجارية لا تنطوي على أيّ نوع من "الكفالة" أو "خدمة ما بعد البيع". وما قلناه عن الاختصاص الطبي ينطبق على كل حقول الاختصاص. صحيحٌ أنّ مهمّة الجامعة تكوين الطبيب، والاختصاصي عموماً، لكنّ مهمتها لا تكتمل إلا بتكوين الإنسان وراء الطبيب والمهندس والصيدلي والمحامي والفيزيائي وأيّ اختصاصي آخر، وإنْ كان حقل اختصاصه ضمن الانسانيات نفسها. فالاختصاص في التاريخ أو علم النفس أو علم الاجتماع أو الفلسفة يقتضي، إلى جانبه، ثقافةً في الحقول الإنسانية الأخرى وفي العلوم الطبيعية.

باختصار، المهم أن يخرج الطالب من الجامعة بموضوعات لا في حقل اختصاصه فحسب، بل في الثقافة الإنسانية العامة أيضاً، تخوّله أن يكوّن نظرة إلى العالم (Weltanschauung). والنظرة إلى العالم تنطوي على نظرة إلى الإنسان عموماً وإلى الذات. وقديماً جعل سقراط رأس الحكمة هذا الشعار: "اعرِفْ نفسك". وهذا ما أكّدته الفلسفة الرواقية في تركيزها على فحص الذات المستمر. إنّ النظرة إلى العالم تشبه الخريطة التي يحملها السائح أو السائق لتدلّه على المكان. وسوف يبقى الاختصاصيون يتلمسون طريقهم على غير هدى ما لم تزوّدهم الجامعة بالأدوات التي يرسمون بها خرائطهم. وقد صرنا نعرف أنّ كثيراً من هذه الأدوات مستمَدة من الثقافة الإنسانية. إنّ اختصاصياً يفتقر إلى هذه الثقافة تنطبق عليه صفة "المتعلّم الأُمّي" التي أطلقها في القرن الماضي الفيلسوف الإسباني خوسيه أُورتيغا إي غاسيت (5)، ومن كتبه واحدٌ عن مهمّة الجامعة (6). ويسمّي أورتيغا الاختصاصيَّ "بدائياً"، لأنه يجهل الإنسان بالرغم من معارفه الكثيرة في حقل اختصاصه، أي يجهل كل ما يقع خارج نطاقه المحدود جداً، على سعته. والمفارقة، في رأي هذا الفيلسوف، أن تكون العلوم الاختبارية والتقنيات في عصره تقدّمت على أيدي أُناس عديمي الثقافة، بعدما كانت المعارف مترابطة كما يجب أن تكون (7).

4. التدريب على التفكير النقدي

المعلّم يدل الطالب على الطريق، لكن لا يجوز ولا يمكن أن يقطعها عنه. وقد تخلّت التربية الحديثة عن اعتماد التلقين، وإن كانت هذه الطريقة ما تزال تمارَس في بعض الأنظمة العقائدية السياسية والدينية. وفي التلقين تُفرَض معلومات ناجزة على أنها الحقيقة المطلقة التي لا يجوز أن يرقى إليها أيّ شك. وتَبذل الإدارات التربوية، الجامعية وسواها، في هذه الأنظمة كل ما في وسعها لسكب تفكير الطلاب في القالب المرغوب بعيداً عن منطق التساؤل والنقد. وكم من الأساتذة الجامعيين في الأنظمة المنغلقة أُنهِيَت خدماتهم لأنهم شجّعوا الطلاب على التفكير النقدي من خلال كتاب أو دراسة أو تعليم. لكن ما هو التفكير النقدي؟ وهل يعني بالضرورة رفض التقاليد التي استمدها المرء من محيطه العائلي والاجتماعي، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالعقائد الدينية؟ التفكير النقدي يعني أن نكوّن مناهجنا، التي في ضوئها نفهم ما نقرأ ونحكم عليه ونعبّر عن أفكارنا ومواقفنا، على نحو يمكّننا من الدفاع عما نقبله من معارف وأفكار وقيم ومواقف دفاعاً مقنعاً. وهذا النوع من التفكير يتجاوز قبول ما تعلمناه من بيئتنا أو رفضه. ولئن كان النقد في أذهان الكثيرين، ولا سيما في ثقافتنا العربية، يعني الرفض، إلا أنه ليس هكذا بالضرورة. فالنقد أو الفهم النقدي أو التفكير النقدي، كما قلنا، يذهب أبعد من رفض فكرة معينة أو قبولها إلى حسن الدفاع عنها، سواءٌ في حال القبول أو في حال الرفض. وما يجب أن يتوقعه الأستاذ، خصوصاً في مواد تحتمل الرأي، لا أن يرضيه الطالب بتبنّي آرائه، بل أن يستعرض الرأي الذي تَوصل إليه والخطوات التي قطعها في هذا السبيل، ويستطيع الدفاع الحسَن عن أيّ رأي قد يصل إليه.

التدريب على هذا النوع من التفكير يزوّد الطالب بالمناهج أو الطرق التي على أساسها يتحرّى المعارف ويكوّن الآراء، وهكذا يصير معلّم نفسه الفعلي. فالجامعة تَختصر بعض المحطات الحضارية الرئيسية وتَهدي الطالب إلى الطريق، لكن يبقى عليه هو، كما قلنا، أن يسلك الطريق وأن يستزيد من العلم سعةً وعمقاً. وهناك عدد من الكتب التي وضعها أكاديميون مرموقون حول منهجية القراءة والبحث والكتابة، نكتفي باثنين منها: واحد من تأليف آيفور آرمسترونغ ريتشاردز، أُستاذ النقد الأدبي في جامعة كامبريدج البريطانية، والآخر من تأليف مورتيمر آدلر، أُستاذ الفلسفة في جامعة شيكاغو الأميركية.

في كتابه "كيف نقرأ كتاباً" (1940)، يتكلم آدلر عن ثلاث مراحل (8). في المرحلة الأولى يتولّى القارئ وضع الكتاب مع النوع الذي ينتمي إليه، ويحدد باختصار شديد الموضوع الذي يدور عليه الكتاب، مع إظهار أقسامه الرئيسية حسب تسلسلها والمسألة أو المسائل التي يحاول المؤلف حلّها. في المرحلة الثانية يتناول القارئ الكلمات والجمل المفصلية التي يستعملها الكاتب، مع صياغة مناقشات الكتاب والإشارة إلى مواضع نجاحها وإخفاقها. المرحلة الثالثة تدور على نقد الكتاب لجهة أُمور مثل الصحة والخطأ. ولا يجوز مباشرة نقد الكتاب قبل الفراغ من قراءته وتلخيصه وإبراز مناقشاته وإظهار مقدار اطّلاع الكاتب على المواضيع التي يعالجها ومنطقيّة مناقشاته. وأهمّ ما في النقد دفاعُنا المنطقي عن أيّ فكرة نبديها.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الكتاب أوحى إلى مؤلفه مورتيمر آدلر تأسيس برنامج "الكتب العظيمة" أو "الروائع" في جامعة شيكاغو، انطلاقاً من أنّ الأفكار الأساسية التي يجب أن ترتكز إليها التربية ليس ما يصدف أن يكون سائداً في عصرنا فحسب، بل الحقائق والقيم الخالدة في كل زمان ومكان. وتبنّت جامعة شيكاغو البرنامج المذكور نموذجاً للثقافة العامة المفروضة على كل طلابها مهما كان حقل اختصاصهم. وبدعم من رئيس جامعة شيكاغو آنذاك روبرت هتشنز، اتّفق آدلر مع ناشري الموسوعة البريطانية على إصدار 443 كتاباً من روائع الأدب والفلسفة والانسانيات عموماً، طُبعَت في 54 مجلَّداً. وعمدت جامعات كثيرة إلى اعتماد برامج للثقافة الإنسانية، تمَّ تأسيس الكثير منها بتقليد تجربة شيكاغو.

أما كتاب آيفور ريتشاردز "كيف نقرأ صفحة" (1942) فهو أيضاً دليل منهجي – عملي إلى القراءة الفعّالة (9). وعنده أنّ اللغة بتراكيبها لا بمفرداتها، أي أنّ معنى العبارة يتقرر في ضوء السياق الذي تنتمي إليه. لكنه عمد إلى اختيار مئة كلمة تشكّل، في نظره، مفاتيح فهم النصوص. ومن هذه الكلمات: مناقشة، اعتقاد، سبب، غاية، مقارَنة، واقع، مثَل، شعور، شكل، تقدير، فكرة، معرفة، مراقَبة، سؤال، مسألة، علاقة. هذا من ناحية الأسماء. وهنا نماذج من الصفات – المفاتيح عند ريتشاردز: واضح، جميل، جيد، مختلف، مهمّ، ضروري، عامّ، ممكن، محتمَل، صحيح، يقينيّ، بسيط، شبيه، مساوٍ.

لقد وضع الكاتبان المرموقان كتابيهما تأكيداً على أنّ مَن يستطيع قراءة صفحة واحدة كما يجب يستطيع قراءة كل صفحة، وأنّ مَن يتقن قراءة كتاب واحد يتقن قراءة أيّ كتاب. لكن بما أنّ الوقت الذي يقضيه الطالب في الجامعة محدود بسنواته وأيامه وساعاته، وبما أنّ الطالب يجب أن يَقرأ بنفسه ولا يُقرأ عنه، كان لا بدّ من تدريب الطالب على المنهج أو الطريقة لكي يستطيع أن يكون معلّم نفسه عبر كونه قارئاً ناجحاً وناقداً راجحاً.

الوظائف الأربع التي تكلمنا عنها، وهي إعداد اختصاصيين وإعداد باحثين وإعداد مثقَّفين والتدريب على التفكير النقدي، لا تَستنفد كل الوظائف المرتبطة باسم الجامعة ومفهوم الجامعة. ومن أبرز الوظائف الأخرى التي يجب أن تؤدّيها الجامعة: خدمة المجتمع، تلبية حاجات سوق العمل، مساعدة إدارات الدولة المختصة في تحسين التربية المدرسية الأساسية والثانوية، دعوة أساتذة زوّار في مختلف الاختصاصات وحقول المعرفة من جامعات ومراكز أبحاث مرموقة حول العالم، إقامة مؤتمرات علمية ودورات تأهيلية. لكن يبقى أنّ المهمّات الأربع التي عرضناها هي مهمّات الجامعة الرئيسية، ويمكن أن تُدرَج ضمنها معظم المهمات الأخرى.

  1
  1
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال