01 يناير . 6 دقائق قراءة . 710
الجواب عن هذا السؤال يقرَّر في ضوء أهداف التربية وباعتبار الأبعاد الثلاثة للشخصية، وهي العقل والشعور والإرادة. لذلك يجب أن يحوي برنامج الدراسة مواد لتنمية الأبعاد المذكورة، فلا يقتصر على نقل المعارف، بل يشمل المواقف والقيم أيضاً. والمعارف هي الحقائق أو المعلومات الموضوعية التي جمعها الناس خلال التاريخ عن الطبيعة المحيطة بهم، وكذلك عن أنفسهم ومجتمعاتهم. كما تتناول المنطق ومناهج التفكير الضرورية لجمع المعلومات واستخراج النتائج. هذا يعني أنّ من واجبات المدرسة الأساسية إعطاء التلاميذ معلوماتٍ وطرقاً تمكّنهم من اكتشاف مزيد من المعلومات في مختلف حقول المعرفة. لأنه مهما استطاعت المدرسة إعطاء التلميذ معلومات تحويها الكتب المدرسية في موضوع معين، فمن المستحيل إعطاء التلميذ كل المعلومات في هذا الموضوع، حتى مع تدرّجه من مرحلة إلى أخرى خلال سنوات الدراسة. لذلك كانت الطريقة أو المنهج جزءاً لا يتجزأ من تعليم المعارف لكي يستطيع التلميذ ملء الثغرات المعرفية والنظر نقدياً إلى المواضيع التي يتعلمها ويتحرّاها.
تحت المعارف تأتي مواضيع كثيرة تشكّل معظم المواد التعليمية التي تتيحها المدرسة لطلابها، كاللغات والرياضيات والتاريخ والعلوم الطبيعية والاجتماعية والمنطق. ولا يجوز أن تهمل المدرسة المنطق لأنه ضروري جداً للتربية على التفكير المنهجي النقدي وضوابط الفكر والتحذير من الأخطاء والمغالطات وتنمية القدرة على الاستنتاج الصحيح. وتحت المنطق يقع الفهم الفلسفي الذي يقوم على تحديد نطاق كل موضوع: ما هو داخل هذا النطاق وما هو خارجه، والطريقة التي يقوم عليها كل موضوع، واختلاف الاستعمالات اللغوية والمصطلحات من موضوع إلى آخر، وشروط المعرفة ومقاييس الصحة والخطأ واليقين في كل موضوع، والفرق بين الحقائق الوصفية والمواقف والقيم.
تحتلّ المواقف والقيم موقعاً مهماً بين مواد التعليم، لأنّ دَورها لا يقل عن دَور المعارف في تنمية الشخصية. ومن الفوارق الجوهرية بين التربية المنغلقة والتربية المنفتحة في هذا المجال أنّ تلك تفرض مواقفها على التلاميذ عن طريق التلقين، فيما تعمد هذه إلى إعداد التلاميذ لتكوين مواقفهم بأنفسهم والتمكّن من الدفاع عنها. ومن الأمثلة على المواقف الاهتمام والانجذاب والنفور والحب والكره واللامبالاة. ولا يكفي أن يجمع الفرد حقائق وصفية أو معارف عن ظاهرة معينة من أجل تكوين مواقف حولها. والتربية الحديثة، كما قلنا، تساعد التلميذ في تكوين مواقف اجتماعية وخُلقية ودينية ونفسية، لكن من غير أن تفرضها عليه. ويصبح الموقف عاملاً ثابتاً أو شبه ثابت من العوامل التي تقوم عليها الشخصية، يصعب تبديله تلقائياً، وإنْ كان خاضعاً للتبديل والتعديل حسب ظروف الحياة. ويجدر بالمدرسة تعليم التلاميذ الابتعاد عن المواقف المتزمتة التي لا يمكن الدفاع عنها دفاعاً مقْنعاً، والابتعاد أيضاً عن المواقف المنغلقة التي لا تقيم وزناً للآخرين ولا تحترم كرامتهم كأشخاص، وتكوين مواقف نقدية منفتحة يسهل تعديلها في ضوء التجربة.
أما القيم فتتناول أحكاماً مثل "جيد" و"رديء" و"صالح" و"أصلح". وهي تعين المرء على اتخاذ مواقف. وهناك قيم علمية ونفسية واجتماعية وجمالية وخُلقية ودينية. لكن في رأس القيم كلها تأتي قيمة الإنسان من حيث هو غاية، وتستتبع موقفاً هو احترام كرامة الإنسان. وللعائلة والمدرسة كلتيهما أثر كبير في تنمية القيم والمواقف، ولهذه أثر كبير في فهم الذات والعالم والآخرين وحتى في تكوين المعارف. وكم من موقف سلبي اكتسبه الفرد من مجتمعه العائلي أو المدرسي أو سواهما منعه من فهم الحقائق كما هي. وكم من تلميذ رافقه الضعف المدرسي في إحدى المواد، كالرياضيات أو الفيزياء أو التاريخ أو اللغة، لأن معلّميه لم ينجحوا في شرح حقيقتها ومعرفة قيمتها وحَمله على حبها.
وأهم المواد الدراسية التي تنمّي القيم والمواقف لدى الطالب الأخلاق والأدب والفنون والدين. المسائل الخُلقية، التي تتناول مفاهيم كالحرية والواجب والمسؤولية والصلاح والصواب والخطأ والاختيار، تنمّي البُعد الخُلقي لدى الشخص، وهو عنصر لا تكتمل الشخصية من دونه. وإلى المفاهيم المذكورة، هناك أسئلة يطرحها الفرد منذ سنّ باكرة حول الأصل والمصير والهدف ومعنى الحياة. وهذه تساعد في تنمية الحسّ الديني أيضاً. وبعد تعليم القراءة والكتابة، تعلّم المدرسة اللغة والأدب. وهذا يواجه التلميذ بأروع ما أُنتج في حضارته وسواها من أنواع الكتابة، وأهمها الرواية والمسرح والمقالة والتأملات والشعر. ويكتمل الأدب بالفنون على أنواعها، من موسيقى ورسم ونحت ورقص وتمثيل.
لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه المواد التي تنمّي القيم والمواقف تندرج أيضاً تحت المعارف. فالاطّلاع على كتابات معينة في الآداب والأخلاق والدين يضيف إلى معارف الشخص. وبعض ما يعنيه قولنا إنها لم تكن ذات أثر لدى أحدهم هو أنه اكتسبها كمعلومات فقط، من غير أن تدخل في تكوين منظومة القيم والمواقف لديه، بمعنى أن يستمد منها قدرة على التذوق الجمالي وإصدار الأحكام في مجالات الأخلاق والدين والأدب والفن. إلا أنه لا يجوز إقامة فصل سطحي بين مواد تؤدي إلى اكتساب معارف ومواد تؤدي إلى اكتساب قيم ومواقف. فالحقائق التاريخية والعلمية تؤدّي بدورها إلى تكوين قيم ومواقف. وكما قلنا، التربية الحديثة لا تعمد إلى إملاء القيم والمواقف على التلاميذ، بل تساعدهم على تكوينها بأنفسهم والدفاع عنها دفاعاً حسَناً وتعديلها عند الضرورة.