03 يونيو . 5 دقائق قراءة . 540
التربية عملية تهدف إلى تكوين الشخصية وتنميتها. لكن المأزق الذي يمكن أن تصل إليه العملية التربوية، وطالما فعلت، ناجمٌ عن نظرة خاطئة إلى تكوين الشخصية، ترتكز إلى فهم هذا التكوين على أنه سكبٌ للشخصية في قالب محدد. وهذا يحصل على وجه الخصوص في المؤسسات التربوية القائمة على أيديولوجية معينة، دينية أو سياسية أو سواها. لكنّ هذه النظرة التربوية التقليدية تستتبع عدداً من الإشكاليات، أبرزها الآتي: (1) اعتبار مادّة التعليم، لا شخصية المتعلم، محوَر العملية التربوية وغايتها؛ (2) اعتماد التلقين، أي الذاكرة والحفظ، طريقةً للتعلم؛ (3) التركيز على إعطاء المعلومات والمعارف بعيداً عن مساعدة المتعلم على تكوين القيم والمواقف والتفكير النقدي؛ (4) اعتبار كل مادة تعليمية وحدة سكونيّة قائمة في ذاتها، وعدم ربطها بالمواد الأخرى عبر رابط منطقي – معنوي – غائي؛ (5) فصل عملية التعليم والتعلم عن النظر إلى المتعلمين كأفراد من حيث مواهبهم وحاجاتهم الشخصية. وبكلمة واحدة، يمكن اختصار محنة التربية التقليدية بأنها منفصلة عن هدف تحقيق الذات ومقتضياته. وإذ لا تزال هذه الطريقة التربوية سائدة في الأنظمة المنغلقة، إلا أن التربية الحديثة، التي باتت واسعة الانتشار حول العالم، ثارت عليها. وسوف تتناول هذه الدراسةُ التربيةَ كشرط لازم للإنسان من أجل تنمية معارفه واستغلال مواهبه وتكوين مواقفه والدفاع عن آرائه واكتساب مهاراته وتحقيق إمكاناته. البداية ستكون مقدمة عن تحديد ماهية التربية، يليها معالجة خمس مسائل أساسية يثيرها الموضوع، هي: لماذا نعلِّم؟ ماذا نعلِّم؟ كيف نعلِّم؟ مَن نعلِّم؟ مَن يعلِّم؟ وهي الأسئلة التي تُطرَح عموماً لمعالجة أي موضوع. وهذا يذكّرنا بما كتبه الشاعر البريطاني روديارد كبلنغ، وهو أنّ لديه عدداً من "المعلِّمين" يدين لهم بكل ما يعرفه، ويطلق عليهم الأسماء الآتية: "ماذا، أين، متى، كيف، لماذا، مَن".
لكنّ دراستنا تَخدم أيضاً هدفاً يتجاوز حدودها، وهو معالجة إشكالية التربية في لبنان، خصوصاً وسط انقسامات اجتماعية حادّة ناشئة، في معظمها، من الوضع الطائفي وعجز الدولة عن التصدّي لهذه الانقسامات وتأدية دَورها كوحدة في التعدد أو التنوع، علماً أنّ التربية من أقوى عوامل التوحيد الاجتماعي. لذلك سنكرّس فقرة مختصَرة في آخر هذه الدراسة لملاحظة الوضع التربوي في لبنان.
إذا عدنا إلى اللغة العادية، لوجدنا أن التربية لا تقتصر على الإنسان. فهناك كلام عن تربية النبات وتربية الحيوان أيضاً. ومن أبرز المعاني الملازمة لفعل "يربّي": يعتني، يتعهّد، يدجّن، يزيد. فالتربية مثل التربة التي يُزرَع فيها النبات لكي ينمو ويعطي أزهاراً وأوراقاً وأثماراً، أي لكي يتغير. وفي حال الإنسان، تغدو التربة المقصودة تلك البيئة العقلية والنفسية والاجتماعية التي هي المدرسة، يعاونها البيت وباقي المؤسسات الاجتماعية. وإذا كانت حصيلة التربية تغييراً ما، فهدف هذا التغيير ليس فقط الانتقال من حال إلى حال، بل الحصول على حال أفضل. أما بالنسبة إلى التربية الإنسانية، فأهمّ علامات النمو هي التدرج من الاتكال إلى الاستقلال، والمقدرة على التعبير اللغوي عن المعارف والمواقف والمفاهيم المجرَّدة، والابتعاد عن ردود الفعل العفوية والغريزية، واكتساب القدرة على الدفاع عن الآراء، والنظر إلى الذات والعالم من خلال صورة يتمّ تعديلها في ضوء التجربة، والتغلب، ما أمكن، على المحدوديات في العالم وفي الذات، والانتماء النقدي الى المؤسسات المفروضة على الفرد أو المختارة منه.
نتيجة العملية التربوية، في التحليل الأخير، هي الشخصية البشرية. والشخصية ليست كياناً ناجزاً يتشكل مرة واحدة أخيرة، بل هي كيان مفتوح على التعديل الدائم في ضوء تجارب تتوالى ما دام الإنسان حياً. من هنا كانت التربية عملية لا تنتهي على مقاعد الدراسة، بل تستمر مدى الحياة. وعلى عكس التربية التقليدية التي تنظر إلى التعلُّم كإعداد للحياة، باتت التربية الحديثة تجد في التعلُّم عملية مستمرة. لكن يبقى للمدرسة دَورها المميَّز في هذه العملية. فهي مجتمع منظَّم، يجمع الخبرات وينسّقها من أجل تحقيق الأهداف في فترة زمنية محددة اختصاراً للوقت. ولا تقتصر خبرة التلميذ في المدرسة على الكتب، بل تتعداها إلى التفاعل مع أشخاص آخرين، من زملاء دراسة ومعلمين ونماذج بشرية من التاريخ والعلم والأدب، يتخذ من بعضها مثُلاً عليا يقلّدها في تصرفاته. في مقالات أخرى ضمن الموضوع ذاته سنتطرق لقضايا دوافع تعليم الطفل وسبل تحقيقه لذاته.