01 يناير . 8 دقائق قراءة . 525
انطلاقاً من مقال سابق صدر سابقاً ضمن سلسلة التربية وتحقيق الذات وقد كان بعنوان (من يحق له أن يعلم؟)، كنا قد تطرقنا إلى وضع التربية الراهن في لبنان، سنضيف بعض ملاحظات عامة عن هذا الوضع، على أمل التوسع بها في دراسات لاحقة.
1- منهاج الدراسة، الذي وضعته الدولة أساساً لإعداد التلاميذ لامتحانات رسمية ينالون على أساسها شهادة الدروس المتوسطة أو الثانوية، تتخلله مَواطن ضعف كثيرة. فالتعديلات التي أُدخلت عليه تتناول السعة دون العمق، إذ لا تتعدى عموماً الزيادة والحذف. وما يزال التعليم الرسمي، بما فيه الجامعي، يَعتبر الموضوع، لا الشخص، محور العملية التربوية، وهدف التربية لديه الحصول على شهادة، فيما الطريقة هي التلقين. وإذا استعرنا تشبيهاً للفيلسوف البريطاني فرنسيس بيكون يصنّف فيه طلاب المعرفة أو العلم إلى ثلاث فئات: واحدة تشبه النمل في تكديسها المعلومات الواسعة والضياع وسطها، وواحدة تشبه العناكب في نسجها قوقعة حول نفسها تعزلها عن العالم عبر اكتفائها بالمجرَّدات والتنظيرات بعيداً عن جمع العينات ومراقبتها واختبارها، وثالثة تشبه النحل في جَني رحيق الأزهار وتحويلها إلى مادة جديدة مفيدة، لقلنا إنّ منهاج الدراسة في لبنان لا يؤهل المتعلمين كي يكونوا مثل النحل، فيحوّلوا ما تعلموه إلى ثقافة، أي إلى جزء من كيانهم. فهم يبقون، عبر حشو المعلومات التفصيلية من ناحية والتنظير المجرَّد من ناحية أخرى، كالنمل والعناكب في تشبيه بيكون. لذلك يتخرج معظم طلابنا من المدارس، وحتى من الجامعات، بمجموعة هائلة من النظريات التي لا يعرفون كيف تنطلق من الواقع أو تنطبق عليه.
2- يضاف إلى علل البرامج علل الكتب المدرسية. فهي، في معظم الحقول، متضخمة من غير مبرر. وبعضها رديء اللغة وعسير الفهم، وإنْ كان في موضوعات أدبية وفكرية. وإذا اقتصرنا على مواضيع الانسانيات، كالتاريخ واللغة والأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية، لوقعنا على أخطاء لغوية ومنهجية فادحة في هذه الكتب. وفي أحيان غير قليلة، يكون الكتاب، في كلّيته أو معظمه أو أجزاء منه، منقولاً نقلاً حرفياً عن كتاب أجنبي في الموضوع، بلغة ركيكة وغامضة ومصطلحات غير دقيقة، مع عدم الإشارة إلى أن الكتاب مترجَم. ويقابل هذا التضخم ضآلة في عدد بعض الكتب المدرسية، ومنها، على سبيل المثال، كتاب المادة المسمّاة "فلسفة عامة"، التي تعطى بالفرنسية أو الإنكليزية في الصف الثانوي الأعلى. وهو كتاب شبه وحيد في اللغتين، ويعالج المسائل بروح سطحية، إنشائية، غامضة، بعيداً عن المفاهيم الكلاسيكية والعصرية الراسخة في الحقول التي يعالجها، وهي المنطق وعلم النفس والأخلاق. وكان أفضل كثيراً لو سُمِّيَت المادة مدخلاً إلى الفلسفة، واعتُمِدَ لتدريسها واحدٌ من الكتب الكثيرة الموضوعة أصلاً في الإنكليزية أو الفرنسية. ويُضاف إلى علل الكتب المدرسية أن مقتضيات التوازن الطائفي تقتحم هذا النطاق أيضاً، فيشترك في تأليف الكتاب أساتذة من طوائف مختلفة، مع الحرص على أن يَظهر انتماؤهم الطائفي من أسمائهم.
3- هناك مشكلة اللغة العربية التي باتت تعاني ضعفاً هائلاً في مدارس لبنان. وتفعل هذه المدارس حسناً إذ تُقْدم على تعليم تلاميذها، منذ مرحلة الدراسة الأساسية، اللغات الأجنبية الحية، وفي طليعتها اللغة الإنكليزية التي باتت اللغة العالمية الأولى. إلا أن هذا يحصل عادةً على حساب اللغة العربية التي لا يتقنها حتى المعلمون، وبينهم عدد غير قليل من معلمي اللغة العربية بالذات. وتجدر الإشارة إلى أنّ العديد من طلاب الجامعات اللبنانية اليوم يعانون ضعفاً أكيداً لا في اللغة العربية وحدها، بل في كل اللغات. ولعل العامل الأقوى في هذا الضعف تَوجُّههم نحو الاختصاصات العلمية، لا الأدبية والفكرية، علماً أن عدداً لا يستهان به من طلاب الآداب يعانون ضعفاً لغوياً. وقد يكون الضعف في لغة واحدة دليلاً على ضعف لغوي عامّ لدى بعض الطلاب. وهذا موضوع جدير بالدراسة.
4- تعاني مدارسنا نقصاً تربوياً كبيراً في اتجاه تعزيز الثقافة العامة واحتضان ذوي المواهب وتنمية الشخصية. وهذا عائد لا إلى المناهج فحسب، بل إلى مستوى المعلمين أيضاً. فمعظم معلمي المدارس لا يَعلَمون شيئاً عن المبادئ النفسية – التربوية وقواعد نمو الشخصية وتنمية المواهب. وما يزال الكثير منهم يطلبون إلى الأحداث في المدارس الابتدائية كتابة مواضيع إنشائية حول أسئلة ذهنية تجريدية مثل الآتي: "صفْ شعورك في مناسبة عيد الاستقلال". وهذا ينتمي إلى موضوعات تسفر عن تزييف العاطفة وقتل الخيال. فالولد في مرحلة الدراسة الابتدائية يكون في سنّ ينعشها المحسوس ويرهقها المجرَّد. والوطن كيان محسوس في إدراك الأطفال قبل أن يكون فكرة مجردة. لذلك كان الأجدى، في هذه المناسبة، وصف ما يعرفونه ويحبونه من بلادهم. لكن بما أنّ معظم المعلمين في مدارسنا ملقِّنون أكثر من كونهم مربّين، فهم لا يعملون على تعزيز معلوماتهم وتحسين طرائقهم ورفع مستواهم، ولا يجدون وقتاً أو نشاطاً لتصحيح الفروض وتحضير الدروس على نحو لائق، أو لمعرفة التلاميذ عن كثب من أجل مرافقتهم في حاجاتهم وملاحقة نجاحهم وإخفاقهم، أي لكي يعاملوهم كأشخاص.
5- هناك تفاوت ضخم بين المناطق اللبنانية المختلفة من ناحية التربية كما من كل النواحي الانمائية. فالمناطق "النائية"، من الشمال إلى الجنوب مروراً بالشرق، تعاني حرماناً في عدد المدارس وفي عدد المعلمين ومستواهم، كما في الأبنية المدرسية وتجهيزها. وفي وضع مثاليّ منشود، لا يجوز أن يكون هذا التباين قائماً، بل يجب أن تكون مقاييس التربية، من مختلف جوانبها، موحَّدة، بحيث تكون المساواة عادلة، وتكون الوحدة التربوية وحدة في الغنى لا في الفقر.
التربية عملية دقيقة جداً لأنّ نطاق عملها ليس أقل من الإنسان. لذلك على منظّري التربية وواضعي سياساتها وبرامجها ومناهجها ووسائلها ومنفّذي هذه كلها أن يحرصوا أشدّ الحرص على توجيه عملهم نحو غاية نبيلة هي الشخص البشري في حاضره ومستقبله، وعدم تحويل الوسيلة، أي المادّة التعليمية، إلى غاية تحل محل الإنسان. ولأنّ العمل يمكن أن ينجح أو أن يخفق، أن يبني أو أن يهدم، أن يحيي النفس أو أن يميتها، كان العمل على حاضر الإنسان ومستقبله عبر التربية أخطر الأعمال وأدقّها وأجلّها، ولا يجوز وضعه في أيدٍ غير جديرة.
وَجدنا في هذه الدراسة أنّ المثال التقليدي، القائل بأنّ هدف التربية هو سكب الشخصية في قالب جاهز، يوقِع التربية في مآزق عدّة، منها اعتبار المادّة، لا المتعلّم، محوَر العملية التربوية، واعتماد التلقين والحفظ طريقةً لنقل هذه المادة، وتعليم كل مادة كما لو كانت وحدة مستقلة مكتفية ذاتياً. وباستعراضنا ماهيّة التربية عبر خمسة أسئلة أساسية تناولت الهدف والمحتوى والطريقة والمعلِّم والتلميذ، قلنا إنّ هدف التربية هو تنمية الشخصية بواسطة مواد تتّصف بالسعة والعمق، وتحثّ التلميذ على السعي إلى المعارف وإلى تكوين القيم والمواقف والدفاع عنها، وربط المواد معاً برباط معنوي – غائي وثيق، وتحويل العلم إلى ثقافة تدوم وتتجدد مدى العمر. وأعظم ما يستمدّه المتعلم من معلميه ليس المواد الناجزة النهائية، بل هو المنهج والتفكير النقدي. بهذا يصير هو معلِّم نفسه، فيكون فاعلاً لا منفعلاً فحسب، وفاعلاً وسط انفعاله أيضاً، ويكتشف نفسه وما حوله كل يوم عبر نظرة إلى العالم منفتحة على التعديل في ضوء التجارب المستجدّة.
07 سبتمبر . 3 دقائق قراءة