أثر الثقافة والقيم الاجتماعية على العنف الأسري

01 يناير  .   12 دقيقة قراءة  .    1119

Photo by Charl Folscher on Unsplash

الثقافة والقيم الاجتماعية

1- تحديد الثقافة وخصائصها

إذا أردنا الغوص في مفهوم العنف الأُسري المتأرجح بين القيم الاجتماعية الثابتة والمتبدلة، فلا بد لنا من تعريف الثقافة لأنها هي التي تحدد القيم وتحفز الأفراد على ترجمتها إلى أنماط سلوكية معينة.

الثقافة نتاج إنساني جماعي تراكم لعدّة عهود، وهو يتضمن عمليات التدخل والتفاعل والتعديل. إنها الإطار الاجتماعي العام الذي يعيش ضمنه الأفراد، ممارسين أنماطاً سلوكية منسجمة معه.

من أبرز التعريفات التي أوردها علماء الأنثروبولوجيا للثقافة تعريف وليم كلباتريك الذي يذهب إلى أنّ الثقافة هي ما صنعه الإنسان بعقله ويده من أشياء ومظاهر في البيئة الاجتماعية، أي كل ما اخترعه الإنسان أو اكتشفه وكان له دور في العملية الاجتماعية.

ويعرّف كلايد كلكهون (kluckhohn) الثقافة بأنها "وسائل الحياة المختلفة، الظاهر منها والضمني كما العقلي واللاعقلي، التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ، والتي توجد في وقت معيّن، وتكوّن وسائل إرشاد توجِّه سلوك الأفراد في المجتمع".

ويقول إدوارد تايلور إنّ "الثقافة هي ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات والمواقف والقيم وكل القدرات التي يكتسبها الإنسان كعضو في جماعة".

ويصف غي روشيه الثقافة بأنها "كيان مركّب من أساليب التفكير والشعور والعمل. وهي أساليب منظّمة، إلى حد أو آخر، يعتنقها ويعمل بموجبها عدد من الأفراد، فتحوّلهم، موضوعياً ورمزياً، الى جماعة موحّدة ذات خصائص مشتركة".

هذا غيض من فيض التعاريف الاجتماعية للثقافة. ومؤدّاها أنّ الثقافة هي مجموع الأفكار والقيم والمعتقدات والتقاليد والأخلاق والنظم والمهارات وطرائق التفكير والعيش والفنون والآداب والعلوم، وكل ما أبدعه عقل الإنسان وصنعته يده من نتاج مادي ومعنوي إضافة إلى تراث الأجيال السالفة نتيجة خبرته في مجتمع معين.

أما بالنسبة إلى خصائص الثقافة، فلكل مجتمع إنساني ثقافته التي تمنحه خصوصيته وتميزه عن باقي المجتمعات، علماً أنّ هناك أيضاً ثقافة إنسانية عامة تشارك فيها المجتمعات المختلفة. ويمكن تحديد خصائص الثقافة على النحو الآتي:

أ- الثقافة عملية إنسانية، أي إنّها تخص الإنسان دون سواه.

ب- الثقافة عملية اجتماعية مكتسبة، تنشأ عن طريق التفاعل بين الأفراد. فالإنسان يكتسب ثقافته من مجتمعه. ولا يوجد مجتمع بلا ثقافة ولا ثقافة خارج المجتمع. والتراث الثقافي الذي أبدعه الإنسان ينتقل من جيل إلى جيل عن طريق التعليم المصمَّم وغير المصمّم.

ج- الثقافة أفكار وأعمال. وهذا يعني أنّ الإنسان يكوّن علاقات مع العالم المادي والفكري والرمزي والاجتماعي. وقد استطاع التحكم بالبيئة المادّية من أجل التطور والرقي.

د- الثقافة عملية متغيرة. وهي تتحرك معظم الأحيان نحو الأفضل. إلا أنّ درجة التغير تختلف من مجتمع إلى آخر، فتكون بطيئة تبعاً لصغر المجتمع أو انغلاقه، أو سريعة تبعاً لاتّساع المجتمع وانفتاحه وتوافر الحوافز فيه.

ه- الثقافة متنوعة المضمون. تختلف الثقافات في مضمونها إلى أن تبلغ أحياناً حدّ التناقض: فما هو إيجابي في مجتمع قد يبدو سلبياً في مجتمع آخر.

و- الثقافة عملية تحدد أسلوب الحياة. فهي تحتّم على المشاركين فيها نمطاً معيناً من الممارسات الحياتية عبر رسمها خطاً ينتهجونه على نحو يتلاءم مع الجماعة أو المجتمع.

2- القيم الاجتماعية وتصنيفها

إذا كانت الثقافة هي ذلك الكل المركّب الذي يحدد طرائق التفكير والشعور والسلوك، فلا بد من أن تكون القيم جزءاً لا يتجزأ من الثقافة. ويمكن تعريف القيم بأنها "الصفات الشخصية التي يفضلها أو يرغب فيها الناس في ثقافة معينة". ويحدد غي روشيه القيمة بأنها نموذج أو مثل أعلى في نظر فرد أو جماعة، يستمد منه كل شخص توجهه نحو سلوك منحى معين. ويرى هنري مندراس أنّ القيمة الاجتماعية تتحدد بصلابتها وشدّة سيطرتها. ومن الصفات المرغوبة في معظم الثقافات الشجاعة والرجولة وضبط النفس.

غير أنّ القيم ليست صفات مجردة، بل هي مظاهر مجسّدة في أنماط سلوكية تعبّر عنها. وقد نظرت الفلسفة المثالية إلى القيم على أنها موجودة موضوعياً قبل وجود الإنسان الذي لا دخل له فيها. وحددتها بقيم ثلاث ثابتة أو مطلقة، هي: الحق المطلق، الخير المطلق، الجمال المطلق. ومن هذه القيم الأصلية تنبثق كل القيم البشرية.

من ناحية أخرى، نظرت الفلسفة الواقعية إلى القيم كما لو كانت من نتاج الإنسان وخبراته، وهو الذي يحددها ويمنحها معانيها ورموزها وفق حاجاته. لكن الفلسفة البراغماتية لا تؤمن بوجود قيم مطلقة، بل تذهب إلى أنّ صلاحية القيم تحددها أبعادُها النفعية. هذا يعني أنّ الإنسان هو الغاية والقيم وسيلة. فالقيمة وُجدت لخدمة الإنسان، ولم يوجد الإنسان لخدمتها.

وفي الواقع، نرى أنّ لكل مجتمع نظرة خاصة إلى القيم. اليونانيون الأقدمون، مثلاً، حددوا الصفات الضرورية للإنسان الفاضل. وفي المجتمعات البدائية كان هناك اتفاق عام حول الصفات التي يجب أن تتوافر في القادة والزعماء، والخصائص التي تجعل من الفرد بالغ الأهمية أو ضئيل الأهمية. لذلك نرى إجماعاً لدى علماء الاجتماع على أنّ "القيم هي التي تضفي معنى محدداً وتعطي مؤشرات إرشادية لتوجيه تفاعل البشر مع العالم الاجتماعي".

وتختلف القيم اختلافاً بيّناً من ثقافة إلى أخرى. فبعض الثقافات تغدق قيمة عالية على النزعة الفردية، في حين تشدد ثقافات أخرى على الاحتياجات المشتركة بين أفراد المجتمع. كما أنّ القيم قد تتناقض داخل المجتمع الواحد، إذ ينزع بعض الأفراد أو الجماعات إلى التركيز على قيمة المعتقدات الدينية التقليدية، فيما ينزع آخرون إلى تفضيل التقدم والعلوم. وفي حين يفضل بعضهم الراحة المادية، نجد آخرين يفضلون الهدوء وبساطة العيش. وفي هذا العصر الحافل بالتغيرات في إطار العولمة، ليس مستغرباً أن يواجه مجتمعٌ ما صراعاً بين القيم الثقافية التي يعتنقها مختلف الأفراد والجماعات.

هكذا نرى أنّ القيم تدور على أحكام من نوع "جيد" و"رديء"، أو"سليم" و"غير سليم"، أو "ملائم" و"غير ملائم". والقيم، كالمواقف، على أنواع. فهناك قيم علمية ونفسية واجتماعية وخُلقية ودينية وجمالية. "والمواقف تعتمد على القيم. فالموقف الذي يتخذه الفرد من نشاط علمي أو اجتماعي أو فني يُبنى على القيمة التي يعطيها لهذا النوع من النشاط. في رأس القيم جميعاً يجب أن تأتي قيمة الإنسان كغاية. وهذه تستتبع موقفاً هو احترام كرامة الإنسان. إنّ أثر العائلة كبير في تنمية القيم والمواقف لدى الأفراد. وللمواقف والقيم أثر كبير في فهم الذات والآخرين والبيئة وفي تكوين المعارف. ورُبَّ موقف سلبي سابق، اكتسبه الفرد من مصدر أو آخر، كان عائقاً له عن فهم الأشياء على حقيقتها أو دراسة الحقائق كما هي". ولعل هذا يفسر الخلط بين الرجولة والتسلط من ناحية وبين الأُنوثة والضعف من ناحية أخرى. وهذا الخلط القائم على سوء فهم للقيم هو المسؤول عن النزاع والعنف الأسري، وهو محور بحثنا.

وإذا كانت القيم، في تعددها وتنوعها، هي الصفات المثلى التي يتبناها الأفراد والمجتمع في مواقفهم ويجسدونها في سلوكهم، فلا بد من أن تكون هناك عدة أسس لتصنيفها، سواء من حيث المحتوى أو من حيث المقاصد أو الأهداف أو من حيث قوة القيم وضعفها. وقد صنّفها إدوارد سبرانغر، في كتابه "أنماط الرجال"، على النحو الآتي:

- من حيث المحتوى، هناك القيم النظرية والاقتصادية والجمالية والاجتماعية والسياسية والدينية. فالقيم النظرية يعبِّر عنها اهتمام الفرد باكتشاف الحقيقة. والقيم الاقتصادية يعبِّر عنها اهتمامه بما هو نافع. والقيم الاجتماعية يعبّر عنها نزوعه إلى التفاعل مع الآخرين. والقيم السياسية تتجلى في اهتمامه بالنشاط السياسي وحل مشاكل الآخرين. والقيم الدينية تظهر في رغبة الفرد بمعرفة الماورائيات، مثل أصل الإنسان ومصيره ومعنى حياته.

- من حيث المقاصد، تتفرّع القيم الى وسائل لبلوغ أهداف معينة وغايات مثل حب البقاء.

- من حيث شدّتها، هناك قيم جازمة وملزمة لكل الناس، وقيم لفئات معينة أو أفراد.

- من حيث العمومية او الانتشار، هناك قيم عامة مثل العفة والإخلاص والقيم الدينية عموماً، وقيم خاصة تتعلق بطبقة اجتماعية أو دَور معين.

- من حيث الوضوح، هناك القيم العلنية المتعلقة بالمصلحة العامة.

- من حيث الدوام، هناك قيم مطلقة لكل زمان ومكان، وقيم نسبية خاضعة للتبدل.

القيم التي صنفت على هذه الأسس تتميز بخصائص تساعد في قوتها واستمراريتها. ومن هذه الخصائص أنها حصيلة تجربة جماعية وليست من نتاج فرد معين، وإنْ كانت تتجسد في أنماط السلوك الفردي. وهي معايير أو ضوابط للسلوك البشري، تنتقل من جيل إلى جيل عبر التربية والتنشئة الاجتماعية. ولهذه القيم صفة العمومية بمعنى أنها لجميع أفراد المجتمع، وإن اختلفت أحياناً من فئة إلى أخرى، على الرغم من اشتراكها في نواحٍ معينة.

من كلامنا هذا عن القيم، يمكن أن نستخلص أنّ هناك قيماً ثابتة وقيماً متحولة. القيم الثابتة هي قيم مطلقة أو عامة، تشترك فيها كل المجتمعات البشرية، كالحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق، والحرية والعدالة والمساواة والسلام واحترام الآخر كغاية. والقيم المتحولة هي قيم نسبية متبدلة في الزمان والمكان، مع تطور المجتمع الاقتصادي والثقافي والتكنولوجي ومع انفتاحه على المجتمعات الأخرى، وبالتالي مع النظرة النقدية العميقة إلى الأمور. ومن هذه القيم توحيد أُنوثة المرأة بالضعف والخنوع والطاعة العمياء للرجل. ولنا في المثل الشعبي القائل في مدح الفتاة بأنّ لها "فماً يأكل، لا فماً يتكلم" دليل على هذه النظرة التقليدية إلى الأنوثة. فهي المرأة الخاضعة المستسلمة، وإلا فقدت أُنوثتها أو خصوصيتها. من هذه القيم أيضاً ما هو متعلق بعمل المرأة. فحتّى عهد غير بعيد، كان الزوج في مجتمعنا يشعر بالإهانة والذل وضعف الرجولة أمام عمل زوجته خارج البيت. أما اليوم فبات هذا العمل، خصوصاً مع علوّ المنصب، مصدر فخر له.

إلا أنّ هيمنة الرجل تبقى من القيم التقليدية السائدة في كل الثقافات أو في غالبيتها العظمى. ومن مظاهر هذه الهيمنة العنف العائلي، وهو العامل الأساسي في كل تفكك عائلي. فأين موقعه؟ أهو ضمن منظومة القيم النسبية المتبدلة مع تطور المجتمع والثقافة والنظرة النقدية؟ إذا كان للقيم صفة القوة والعمومية والانتشار كما مرّ معنا، فهل يعقل أن يكون العنف العائلي من القيم العامة المشتركة في مختلف المجتمعات والطبقات، مهما بلغت درجة تطورها الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي؟ وإذا صحّ هذا، أتكون القيم والمعايير اختلطت الى الحد الذي بات معه العنف العائلي من القيم المطلقة والثابتة والمشتركة في كل المجتمعات، ينطبق عليه ما ينطبق على قيم الحق والخير والجمال؟ وما هي الطريقة لجعل العنف العائلي خبراً من الماضي، وقيمة بالية تخطاها الزمن؟

لقد رأينا أنّ بعض القيم تخضع لنمو المجتمع وتطوره واكتساب أفراده نظرة نقدية عميقة. فلماذا لا يكون العنف العائلي واحداً من هذه القيم؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقالات أخرى ضمن سلسلة العنف الأسري.

 #العنف_الأسري  #العائلة  #الثقافة_والقيم_الاجتماعية   #الثقافة

  4
  2
 0
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال