01 مايو .
18 دقيقة قراءة .
1095
في (المرئي واللامرئي)، يشرح ميرلو-بونتي العلاقة المعقدة بين مفهومي الحضور والغياب، والمرئي واللامرئي. يصف ميرلو-بونتي هذه العلاقة بأنها "النقطة الأصعب، أي الرابطة بين اللحم والفكرة، بين المرئي والبنية الداخلية التي يبديها ويحجبها". "النسيج الجسدي" للمحسوس (سواء كان موسيقى أو كلمات أو أضواء) "يقدم لنا ما هو غائب من كل لحم؛ إنه خط يرتسم سحريًا تحت ناظرينا دون راسم، أنه تجويف ما، أو داخل ما، أو غياب ما، وسالبية ليست "لاشيئا"،[...] ونحن لا نرى الأفكار ولا نسمعها، ومع ذلك هي هناك خلف الأصوات أو بينها، خلف الأضواء أو بينها، ويمكن التعرف عليها بواسطة طريقتها الخاصة دائما، والفريدة دوما في الاحتماء خلف الأصوات والأضواء". هذا يذكرنا بالفجوة الموجودة في مركز الإنسان بين الجسد كذات وككائن، والتي هي أيضًا "ليست فراغًا وجوديًا" ولكنها تمتلئ بكثافة اللحم. وبالطريقة نفسها، فإن الغياب في قلب المحسوس يتسم بالشعور بالامتلاء. إن خبرة الفكرة التي تقع في قلب الخبرة المادية هي خبرة ذات أهمية بالغة. ففي "الآن التي أقول فيها " ضوء" وفي الآن التي يصل فيها الموسيقيون إلى "الجملة المقتضبة" ليس ثمة ثغرة في داخلي،" وما أحياه متين وواضح قدر ما سيمكن أن تكون عليه فكرة ايجابية من متانة ووضوح". الأفكار الموسيقية أو الحسية "تمتلكنا" من خلال الخبرة، وليس العكس، "على وجه التحديد لأنها سالبية أو غياب محدد"، لأنها مساحة للصيرورة النشطة، والإمكانية.
يمكن فهم هذه المسألة المركزية المتعلقة بالعلاقة بين المرئي واللامرئي بشكل أفضل في مناقشة ميرلو-بونتي للتعبير الإبداعي والتمثيل، التي تنبثق من مناقشته للبينذاتية. فنحن، بالطبع، لا نتفاعل مع العالم من خلال الأشياء المادية فقط. إن قوة الإدراك تتجاوز حدود الجسد، وقابلية الذات تجاه قوة الخارج تلعب أيضًا دورًا في مفهوم ميرلو-بونتي للعلاقات بين الذات والآخرين. يُقال إن الطريقة التي نرى بها العالم قد يكون لها تأثير على رؤية الآخر. إذ من خلال الانخراط في التواصل مع شخص آخر، و"من خلال عملية مطابقة جسده وجسدي، فإن ما أراه يمر إليه، هذا الأخضر الفردي للمرج المنبسط تحت عيني يغزو رؤيته دون أن يفارق رؤيتي، وأتعرف على أخضري في أخضره ". إن فكرة اقتحام رؤية شخص ما لرؤية آخر هي فكرة غير عادية، فكرة شريرة عن استحواذ عفاريتي. ينعكس هذا المعنى في كتابه (العين والفكر) حيث يصف ميرلو-بونتي البينذاتية بمصطلحات المطاردة. يتحدث عن "الآخرين"، "ليس فقط كمتجانسات تتشارك الجنس نفسه، كما يقول عالم الحيوان، ولكن الآخرين الذين يطاردونني والذين أطاردهم؛ "الآخرين" الذين أطارد معهم كينونة واحدة وحاضرة وفعلية. حيث لم يطارد حيوان قط تلك الكائنات من نوعه، أو مكانه، أو موطنه". ومع ذلك، من الضروري أن نتذكر أنه بالتزامن مع هذا الوجود الشبحي للناس لبعضهم البعض، هناك تفاعل جسدي ومادي. في الواقع، إن وجود أجساد أخرى هو الذي يعيدني إلى وجودي كجسد موجود في العالم. في علاقتي التبادلية مع العالم الذي يقطنه بالبشر وغيرهم، تنعكس رؤيتي لي كما في المرآة. وبمجرد أن تعاد نظرتي إلي من قبل شخص آخر، فإن هذه الصورة "الشبحية" تتبدد، وتُستبدل بإحساس بالعمق الذي يردد صدى ما أختبره في نفسي. وجود الآخر "يفضح الوهم الأنانوي المتمثل في اعتقاد أن كل تخط هو تخط تم تحقيقه من قبل الذات". من خلال هذه القابلية الكاملة للانعكاس، تنبثق هذه التجاسدية البينية، فكرة العمومية، أو الكينونة بشكل كامل. "تائهًا خارج العالم والأهداف، مفتونا بانشغاله الوحيد الذي هو تموجه في الكينونة بحياة أخرى، وبأن يكوّن لنفسه خارج داخله وداخل خارجه. ومذّاك، فإن الحركة واللمس والرؤية وهي تنطبق على الآخر وعلى أنفسها، إنما تعود إلى منابعها، وفي العمل الصبور والصامت للرغبة، تبدأ مفارقة التعبير".
العلاقة بين الذات والآخر، إذن، علاقة حسية بين الأجساد، يتم فيها تبادل الوظائف الإدراكية ومضاعفتها. "الجسد [...] يحتضن جسدًا آخر، وينطبق عليه جديًا في كامل مداه". حتى عندما يكون للذات حضور يمتد إلى ما وراء حدود الجسد في أنشطة الإدراك، إلا أنه مرتبط بكثافة الجسد. إن الجسد ليس مجرد "جسدية كثيفة"؛ يعمل الجسد أيضًا على مستوى يتجاوز مجرد الرؤية واللمس. يظهر الاندماج بين اللحم المادي وجوانبه المرئية واللامرئية بشكل أوضح في التواصل الإيمائي والصوتي بين الأجساد، في"انبثاق اللحم كتعبير" الذي يصل إلى ذروته في الإبداع الفني.
التجربة الجمالية قادرة على الكشف عن شيء خاص في العلاقة بين الجسد والأفكار. في كتابه (العين والعقل)، يربط ميرلو-بونتي بين الأسلوب الفني والفلسفة: "أي نظرية للرسم هي ميتافيزيقيا". ويقارن بين الأنطولوجيا الديكارتية وما يسميه الفلسفة "الحداثية"، ويربط الأولى بالنمط الكلاسيكي للرسم القائم على منظور هندسي والأخيرة بالرسم الحداثي الذي يكسر تلك القواعد الخطية لصالح التركيز على اللون. يبدو أن الأسلوب أو الشكل والأفكار أو الفكر لا ينفصلان. ومن المفارقات إذن، أننا أقرب إلى المعنى والحقيقة، إلى شيء أصيل، عندما نكون في عالم المُبْتَدَع، المُشَيّد فنياً. يكتب ميرلو-بونتي " ذلك أن الفن والفلسفة معًا هما حقا ليسا منتجيين اعتباطيين في عالم ما هو"روحي" عالم الثقافة، وإنما هما صلة بالكينونة حقا من حيث هما إبداعان، فالكينونة هي ما يتطلب منا إبداعا حتى تتسنى لنا تجربتها". يبدو، إذًا، أن الوجود متلازم مع التخيل الإبداعي.
لا ينطبق هذا على الفن المرئي فحسب، بل ينطبق أيضًا على مجالات التعبير الإبداعي الأخرى، بما في ذلك الأدب."فاللغة يمكنها أن تسند بترتيبها الخاص معنى ما، وأن تحوزه داخل حلقاتها الخاصة، وأن تقوم بذلك دون استثناء كلما كانت لغة آسرة وفاعلة وخلاقة". لا أحد كما بروست، يقول ميرلو-بونتي، ذهب إلى أبعد ما يكون "في تثبيت علاقات المرئي واللامرئي وفي وصف فكرة ليست هي نقيض الحسي بل هي بطانته وعمقه". إذ من خلال الأدب، والموسيقى والمشاعر، وتجربة العالم المرئي، كما يقول، ننخرط في "استكشاف لامرئي ما، تعرية لعالم من الأفكار" بقدر ما نقوم بذلك من خلال نظريات العلم. ولكن، وعلى النقيض من الأفكار العلمية، فإن هذه الأفكار لا تنفصل عن مظاهرها الحسية و"لا يتيسر انتصابها في إيجابية ثانية"؛ محتواها مرادف لشكلها. هذه الأفكار المحسوسة لا يمكن وصفها أو حصرها، لا يمكن إلا اختبارها في تجربة حسية مباشرة ومميزة.
وبالتالي، فإن هناك لغزًا معينًا مرتبطًا بتماسك الفكرة؛ إذ كلما حاولنا فهمها، و"كلما أردنا الوصول إليها مباشرة أو الإمساك بها أو تطويقها أو رؤيتها دون حجاب، نشعر فعلا أن المحاولة هي معنى معاكس وأنها تبتعد بقدر ما نقترب منها". من العبث محاولة تخطي التمثيل الفني إلى الفكرة المحفزة، من العبث التفكير من منظور هذا "التخطي". الفكرة ليست بشيء ينتظر رؤيته "شريطة ازاحة الستار الذي يحجبه، هنا على العكس من ذلك، ليس ثمة رؤيا دون ستار". هذه الأفكار، إذن، غير قابلة للتمثيل إلا أنه، في الوقت نفسه، لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال شكل من أشكال التمثيل.
يقترح ميرلو-بونتي أن الرسام حساس بشكل خاص لهذا النمط من الفهم الحسي. إنه يتعرف على الروابط والمعاني في العالم المرئي ويحررها من "الاختناق في سبات الأشياء"، ويخلق لها "جسدًا أكثر رشاقة" من خلال تلاعبه بالطلاء على القماش. يتكون إبداع الفنان، إذن، في تقديم "الحد الأدنى من المادة اللازمة للمعنى كي يظهر نفسه". في عملية مماثلة، "يُذيب الشاعر اللغة العادية" في شكل جديد. في العمل الفني العظيم، المرئي أو اللفظي، تُمنح إعادة ترتيب العالم هذه معنى جديدًا أو إضافيًا، "الاضطراب هو دائمًا نظام آخر. إنه نظام جديد من التكافؤات الذي يتطلب هذا الاضطراب وليس أي اضطراب، وباسم علاقة أكثر صدقًا بين الأشياء، يتم قطع روابطها العادية ". لا تقدم لنا الرؤية الفنية والإبداعية نسخة رديئة من واقع موضوعي، ولكن مع واقع أكمل، واقع أُضيف له جسد الإنسان. "العين هي أداة تحرك نفسها، وسيلة تخترع غاياتها الخاصة؛ إنها تلك التي تحركها بعض تأثيرات العالم، والتي تعيدها بعد ذلك إلى المرئي من خلال دوائر يد رشيقة". إن العين واليد المعنية هنا، كمكونات للوعي المتجسد، هما أكثر من مجرد مستقبل لأشعة الضوء أو مناور للفرشاة؛ تتضمن عملية ترجمة الفنان للعالم إلى رسم جانبًا نفسيًا أيضًا. اللوحة "تقدم لأبصارنا، حتى تنضم إليها، الآثار الداخلية للرؤية [...]، إنها تقدم رؤية نسيجها الداخلي، النسيج الخيالي للواقع". إن إدراك الأشياء المرئية لا يتم التوسط فيه فقط من خلال الجسم البيولوجي، ولكن من خلال الجسد النفسي. إنه ليس مرتبطًا بالوعي فقط بل باللاوعي: في الواقع، في مرحلة ما، ذهب ميرلو-بونتي بعيدًا إلى حد اعتبار أن "الإدراك هو اللاوعي". ومثلما لا يمكن العثور على الفكرة المحسوسة خارج التجربة الحسية أو خلفها، كذلك يجب أيضًا البحث عن "اللاوعي ليس في أعماقنا، ووراء ظهر " وعينا"، بل أمامنا بصفته تمفصلا لمجالنا. إنه "لا وعي" لأنه ليس موضوعا، وإنما هو ما به تكون موضوعات معينة ممكنة، إنه الجمهرة التي نقرأ بها طالعنا. إنه بين الموضوعات شأن ما تكون بين الأشجار المسافة الفاصلة التي بينها، أو كأنه مستواها المشترك، إنه الشركة الأصلية لحياتنا القصدية وهو تداخل الآخرين وأيانا وتداخلنا واياهم".
بول سيزان هو الرسام الأكثر حضورا في نصوص ميرلو-بونتي. في مقالته (شك سيزان) التي نشرت عام 1945 يشرح ميرلوبونتي الأهمية الفلسفية الكبيرة لرسومات سيزان الناضجة (بعد مرحلته الانطباعية)، مؤمنا أنه هو وسيزان متورطان في المشروع ذاته. لقد تمكن سيزان من التعبير مباشرة من خلال ضربات الفرشاة الملونة عما تحاول الفينومينولوجيا الوصول إليه بشكل غير مباشر من خلال اللغة الفلسفية فقط: الإدراك ما قبل الإنعكاسب، ما قبل النظري، ما قبل العلمي. في مقدمة( فينومينولوجيا الإدراك)، يوضح ميرلو-بونتي استحالة تحقيق (ايبوخية) فينومينولوجية كاملة، أو وضع الموقف الطبيعي بين قوسين. ومع ذلك، يعتقد أنه من خلال وسيط الرسم (بدلاً من اللغة الفلسفية) نجح سيزان في تقديم تصور ما قبل علمي لما هو مرئي. وعلى عكس الفيلسوف، الذي ربما يعرض تعبيرُه اللفظي الخبرةَ لخطر تشويهها لأنه يستخدم نفس التمثيلات الموضوعية المستخدمة في الوصف العلمي، يمكن للرسام أن يجلب سمات تلك الخبرة إلى وضوح أكبر. وبدلا من " البدائل الجاهزة التي تقترح عليه؛ المشاعر ضد العقل، الفنان الذي يرى ضد الفنان الذي يفكر، الطبيعة ضد النظام والتناسب، الفطرة ضد الحرفة"، رسم سيزان بطريقة أصلية: "كان يبحث عن الواقع من دون التخلي عن السطح الحسي، وبدون مرشد له سوى الانطباع الفوري عما يراه في الطبيعة، من دون خطوط خارجية تحتوي الألوان، من دون تنظيم منظور أو تصور مسبق، مشيرًا إلى أنه سعى "إلى تطوير علم بصري، يستطيع من خلاله أن يعبر عن رؤية منطقية، رؤية لا يدخلها العبث". وبالانتباه إلى الشيء الحقيقي بالإضافة إلى مظهره لحواسنا المتغيرة، صور سيزان كيف أن العالم، بالنسبة للمشاهد، قد ظهر إلى الوجود بالفعل ولا يزال كمساحة مكونة من معالم فردية. اشتهر سيزان برسم تشوهات منزلقة للمنظور، ما أسماه الفيلسوف "منظور معيش" (بدلاً من النوع الخطي الموضوعي. على نفس المنوال، كان سيزان في بعض الأعمال يشير مرارًا وتكرارًا إلى تعدد الخطوط حول شخصية (رفض صورة ظلية واحدة نظيفة)، وبالتالي تخريب أي انطباع قد يكون لدينا بأن الخطوط الخارجية للأشياء موجودة قبل تصورنا الإبداعي لها. يكتب ميرلو-بونتي، عندما تُرى صور سيزان بشكل كامل، لا تعود تشوهات منظورهم مرئية في حد ذاتها، بل تساهم، كما هو الحال في الرؤية الطبيعية، في الانطباع عن نظام ناشئ، عن كائن في فعل الظهور، يُنظم نفسه أمام أعيننا."يضعنا سيزان في عالم طبيعي فريد في مشاهده وبألوانه. عالم قلما يفطن البشر إلى ممكناته، عالم سابق أولي يضاف إليه البشر، ولا يتميز فيه الإنسان عن غيره إلا بملكة النظر، أي لكونه قادرًا على الرؤية. وبمجرد الرؤية سيتخلى المشهد الطبيعي عن صمته بل سيتحول إلى مشهد ناطق وتحديدا إلى "مشهد يفكر وأنا وعيه". سيفضي بنا هذا الأمر إلى وضع جمالي تعبيري، وضع يكون فيه الفن عامة، والرسم خاصة، ذا وظيفة تواصلية وتعبيرية "فالعين تتعلم من ملامستها للطبيعة وتصبح أكثر تركيزًا لو ثابرت على الرؤية والعمل". لم يقصر سيزان نفسه على تعديل الطرق الفنية التقليدية لتمثيل المنظور، ولكنه لفت الانتباه أيضًا إلى عملية بناء المعنى الذاتي بحيث" يبدو أشخاص سيزان غريبوا الأطوار، وكأنهم مخلوقات من عالم آخر. بل إن الطبيعة نفسها قد عزلها عن الظواهر التي اعتدنا رؤيتها فيها: فلا رياح في المناظر الخلوية، ولا حركة في لاك دي أنيس، وتتردد الأجسام الساكنة كأنها على أعتاب بداية العالم. إنه عالم غير مألوف يشعر فيه المرء بعدم الارتياح، ويمتنع فيه أي تدفق عاطفي إنساني." في هذا، اعتقد ميرلو-بونتي أن الفنان كان يحاول تقديم العملية التي يبني بها الإدراك معاني الأشياء أو الأشخاص الآخرين من خلال الخبرة، حيث يقول "توقف لوحات سيزان تلك العادات في التفكير وتكشف أساس الطبيعة البكر التي أقحم الإنسان نفسه فيها". تمسّك سيزان بعناد طوال حياته بهدفه المتمثل في تصوير تعبير فني جديد. ومع ذلك، كما يتضح من عنوان المقال(شك سيزان)، فقد كان يعاني من الشك فيما إذا كان ما عبّر عنه سيصبح ذا مغزى للآخرين، يشرح ميرلو-بونتي بوضوح هذه الحالة العصبية من عدم المعرفة: "ولأن الفنان يعود إلى مصدر السكون والتجربة المتفردة التي بنيت عليها الحضارة وتبادل الأفكار من أجل أن يفهم هذا العالم، فهو يبدأ عمله تمامًا بالطريقة التي نطق بها الإنسان أول كلمة، وهو لا يعرف إن كانت مجرد صرخة، أو كلمة ستنفصل بنفسها عن تيار الحياة الفردية التي تعود أصولها إليها، ويكون لها وجود حر بمعنى محدد سواء بالنسبة لمستقبل هذه الحياة الفردية أو بالنسبة لجوهر الأفراد أو بالنسبة لمجتمع مستقبلي مفتوح. فلا يكمن معنى ما سيقوله الفنان في أي مكان- لا في الأشياء، التي لم تكتسب معناها بعد، ولا في الفنان نفسه، بتجربته التي لم تكتمل بعد. إنه يستدعيه بعيدًا عن العقل المتشكل بالفعل، الذي انغلق على نفسه، وقنع به "المتحضرون"، يستدعيه إلى عقل آخر يحتوي على عناصر تكوينه".
ما يعبر عنه سيزان، وبشكل عام، الفنان، لن يكون فكرة واضحة المعالم، "لأن مثل هذه الأفكار الواضحة هي تلك التي قيلت بالفعل داخل أنفسنا أو من قبل الآخرين". وبالتالي، فإن موقفًا مثل موقف سيزان، المميز بأصالة نادرة، لا يمكن أن يفهمه المشاهد من خلال مساواة أعماله بأنماط التمثيل الفنية السابقة الأخرى - بل إن معناها غير مفهوم في المقام الأول. يكتسب عمل الفنان معنى وصدى من عالم الذوات المتعددة وتفاعلها البيني الذي يقع فيه الفنان وليس فقط من خلال تعبيره عن شيء ما: "فالفنان لا يفعل شيئًا سوى أن يكون الصورة، وعليه الانتظار حتى تحيا هذه الصورة في نفوس الآخرين. عندها سيوحد العمل الفني بين حياة مختلف الأفراد؛ لن يتواجد فقط داخل فرد واحد مثل حلم مٌلحِ أو هذيان متكرر، ولن يتواجد فقط في فضاء الواقع كقطعة “كنفا” ملونة، بل سيتجول ككل لا يتجزأ بين عقول عدة، وسيغدو مؤثرًا على كل عقل فردي يتلقاه، كما المدركات التي تترك انطباعات دائمة لدينا".
إن لوحة سيزان ليست تقليدًا لأي شيء، ولا منتجًا للذوق الرفيع (كما اعتُبر الفن من قبل أفلاطون في الحالة الأولى ومن قبل كانط وهيوم في الحالة الثانية)، ولكن "عملية تعبير" لما هو موجود في الإدراك: "يحول الفنان ما كان سيظل بدونه محبوسًا في عالم معزول إلى موضوعات مرئية، والشعور الرئيس الذي ينتاب الرسام آنذاك هو شعور بالغرابة تجاه العالم، شعور تصاحبه أنشودة واحدة لعملية إعادة ميلاد متواصلة تواصل الوجود من حولنا". الفنان هو "من يحول الأمر كله إلى مشهد منظور، أن يجسد بصورة مرئية كيف يتماس العالم معنا. ولا يكفي رسامًا مثل سيزان، أو فنانًا أو فيلسوفًا، أن يبدع ويعبر عن فكرة ما؛ عليه أيضًا إحياء التجارب التي تجعل لأفكاره جذورًا في وعي الآخرين".
· الاقتباسات في النص من ترجمة الدكتور عبد العزيز العيادي لكتاب (المرئي واللامرئ)، وترجمة بدر الدين مصطفى لمقالة (شك سيزان).
24 أبريل . 17 دقيقة قراءة