08 يونيو . 2 دقيقة قراءة . 882
ببساطة لست من قراء الأدب العربي، منذ المراهقة تعلقت بقراءة الأدب الروسي ومحبة الفلسفة وعلم الاجتماع والأدب الروحي الذي يحمل في طياته خبرات معاشة
حتى أنني لم أكن أعرف الكثير عن الأدباء ولا اسماء الروايات، وهذا ما كان يخجلني أمام وسط المثقفين حين نلتقي!
أيضاً لطالما نصحني أستاذي ومرشدي للاطلاع أكثر على الأدباء العرب في مرحلة محددة وأسماء لامعة، وذلك لصقل لغة كتاباتي من حيث البعد الإملائي والقواعدي والتعابير الجمالية والصور. وطالما وعدته بالإيجاب ولم تأخذني الحماسة اللازمة رغم طاعتي الكبير ة.
كما أن زوجتي مرة اقترحت عليّ أثناء ترتيب أغراضنا في بيتنا الاول وحين كان كل منا يصفّ كتبه، بأن أقرأ رواية مرداد وأخبرتني باختصار أنني سأحبها كثيرا لأنها تتناسب مع نمط تفكيري. أيضاً لم أعر للأمر اهتماما.
لي صديق جادت به الأيام عليّ، نموذج متكامل للإنسانية وللزمن الجميل الراقي بكل ما يحمله في شخصه، يتابع خواطري على صفحة (الفيس بوك) خاصتي ويحب ما اكتب -وهذا يشرفني جدا- في أحد لقاءاتنا أخبرني أن هناك مجموعة من الشباب لديهم شغف بالثقافة والمعرفة والفكر ويعملون على مشروع معرفي، يسمونه “مرداد”.
وأخبرني هذا الصديق أنه سيصلني بأحد هؤلاء الشبان وهو من معارفه القدامى ومستفيضاً بخصاله الحميدة
أثارني الموضوع جداً، وتناهت إلى ذاكرتي نصيحة زوجتي بتلك الرواية التي تحمل ذات الاسم!
وبالفعل يوم عطلتي صباحاً، خرجت باكراً إلى حديقتي، المكان الجميل الذي اعتني به كما بنفسي، هذا المكان المطلية جدرانه باللون الأبيض الكلسي والسياج الحديدي بالأزرق الداكن، وأحواض الزرع بنية اللون يطغى عليها اللون الأحمر بمعظمها، لتأتي عينك وترى الياسمينة الصغيرة ولكنها تحمل الكثير من البراعم المسرعة نحو التفتّح بأزهار بيضاء ورائحة خجولة. وكرسي أبيض قديم مع طاولة تفتح يدوياً فوقها غطاء بنقش عربي بدوي، يعلوه فتجان قهوة متوسط الحجم مع ركوة من القهوة الساخنة تفوح منها رائحة الهال.
وإلى جانب هذه الطبيعة المصنوعة بعناية، رجل بنهي أواخر ثلاثينياته، طويل القامة، نحيل الجسد، ذو لحية وشعر طويل جداً، مع القليل من الشيب بين المكانين، كرشّة ملح فوق حبة بندورة حورانية. يمسك كتابا أبيض الغلاف مكتوب عليه بخط أسود مرداد – ميخائيل نعيمة. وباليد اليسرى قلم رصاص قديم يبدو أنه من أيام التسعينات لم يستعمل إلا نصفه، مبريّ بإتقان، ليكتب أو يسطّر ملاحظات جانبية.
مشهد بسيط هادئ لا يوحي لك إلا بحديقة منزل يوناني بقرية نائية على بحر إيجة، بعيداً عن كل تعقيد الزمن وأصوات النشاز الرائجة ورؤيتنا الأكثر تشاؤماً للمستقبل القادم. هذا قبل أن تبدأ مرحلة الإبحار بين صفحات الكتاب.
مع أول رشفة قهوة، بدأت الصفحات الأولى تجتذب التركيز، وتبعد الانتباه عن المشهد الموصوف السابق، حتى أن القهوة بردت على غير العادة!!
ولم أعد أذكر أين كنت، إلى أن جاءت شمس الظهيرة لتلفح جبهتي وترغم قطرات العرق على إيقاظي. منذ أمد بعيد لم أقع على نص كهذا، لا أشعر أنني بصدد تقديم موجز عن الكتاب أو تقييم أدبي له. إنما وصف شعوري لحالة كدت أن انساها من ثقل الحياة.
مرداد هو ما يحتاجه الفرد ليكون إنساناً، مُقاداً من الروح الحاضر وغير المنظور، يمكن ببراءة القول إنه تبسيط للكتب المقدسة بلغة الروح المؤنسنة. خِفّته أنك لست ملزماً بشعور داخلي على طاعته أو لا يتملكك إحساس بضرورة عبادته كونك تعلم مسبقاً أنه مجرد رواية.
مرداد، يخبرك من أنت، ويجيبك عن شوق نفسك الذي يقلقك، ويريحك لمعرفة ماذا تريد، وماهي النهاية. تعاين فيه مكامن القوة فيك ومواطن الضعف. تسمو إلى لغة جزلة، سهلة ممتنعة، عبارات كثيرة تجبرك أن تذهب إلى القاموس لمعرفة معناها ومقصد الكاتب من اختيارها.
يمكن لمرداد أن يكون فلسفة بسيطة-عميقة، لمن يوّد مصادقة الحكمة، مسيرة تصاعدية في الأحداث، في تطور الشخصيات وفي علاقتها مع الشخصية المركزية، التي تقتاد كل من حولها نحو العمق، كمركب في بحيرة ساكنة، يغمرها ضباب السحر الندي.
وأنا في مراحلي الأخيرة، تواصلنا الشاب الذي أخبرتكم عنه منذ قليل وأنا، تعارفنا وتحاببنا بسرعة، كان اللقاء هاتفيا بسبب البعد الجغرافي الذي لم يَحل بيننا، فكان مفعماً بفكر الروح، كان لقاء مردادياً باختصار. أخبر أحدنا الآخر عن تطلعاته وهواجسه فجاءت مشتركة، وكأننا نعرف بعضنا منذ الحداثة.
تجاذبنا أطراف الحديث حول المنصة التي ننشر عليها الآن كلماتنا هذه، وكانت لم ترَ النور بعد. لكننا كنّنا موقنين أنها ستصبح منارة. وكانت الفكرة أن أشارك بخواطري وماهي أيام وأصبحت من العائلة. لا أدري كيف أكتب عن ذلك الوهج الذي سار بين أصابعي، آتياً إما من القلب أو من ذهني الذي اشتقت أن أراه متّقداً ويسحبني وأنا راضي.
أن تكون مردادياً..... هو أن تكون إنساناً
نصيحة: اقرأ مرداد وانظر أي الأعضاء أنت واكمل المشوار والحياة ستقودك إلى مرداديين مثلك!