من متون مناهج النقد الفني

Mohamed Khassif

17 يونيو  .   7 دقائق قراءة  .    890

الفن والظاهراتية (الفينومينولوجيا)

جان لوك شاليمو -  ترجمة محمد خصيف

 

يكرس الرسام نفسه لنشاط فضولي للغاية. إنه يسعى جاهداً لاستخراج من العالم، من خلال ضجيج أحداث التاريخ، تلك الأشياء المحددة التي تسمى اللوحات التي لا تضيف الكثير إلى آمال الإنسان والتي قد يشك المرء حتى في أنها عديمة الفائدة على الإطلاق. كتب جان بول سارتر: "العمل الفني غير واقعي". لكنها لاواقعية ساحرة، وتساؤل ميرلو بونتي ينطبق على تاريخ الفن بأكمله: ما الشيء الذي يبحث عنه الرسام، ويبدو في غاية الأهمية، ويبر، كما يبدو أحيانًا، عدم اهتمامه بأناس الآخرين؟ لا أحد يحمل على سيزان لاختبائه في الإستاك L'Estaque خلال حرب 1870 والكومونة[1]la Commune. ما هو العلم الغامض الذي يبدو أن سيزان يتقلد به، "هذا البعد الذي أراد فان خوخ أن يذهب" أبعد منه"؟ إنه بحق أساس التصوير، وربما أساس كل ثقافة؟" 

أشار هيجل إلى سبيل للوصول إلى هذا اللغز الذي قام بتمديده بطرق مختلفة، كل من سارتر وميرلو بونتي، ثم نقاد يستقون من الظاهراتية مثل بيير شنايدر Pierre Schneider (مؤرخ الفن وكاتب فرنسي من مواليد عام 1925 وتوفي عام 2013). في الواقع، يجب أن نبدأ البحث انطلاقا من هيجل: سنفهم معه أن الفن يسمح للعقل باختراق المادة والسماح للمعقول بالظهور خلف المحسوس. نحن أحرار أمام العمل الفني، والموضوع يتعلق فقط بـ "الجانب النظري للعقل". يلاحظ هيجل أنه، من بين الحواس الخمس، يتمتع اثنان فقط، السمع والبصر، بكرامة "الحواس النظرية" لأنهما يمسكان موضوعهما بعيدًا دون أن يستهلكاه. 

يحافظ الفن على موضوعه بعيدًا، ومع ذلك لا يمكن اختزال هذا الموقف النظري في معرفة. إذا كان العلم يعبر عن العقل الكوني للإنسان، فإنه يستبعد الخاص، أي المحسوس. لكن، الفن الذي يجب أن يترك الفكرة تتألق، يدركها فقط بطريقة حساسة. الفن هو ما يرتقي به الإنسان إلى مستوى الفكرة: هناك إضفاء روحانية على المعقول (أو تجسيد الفكرة) وهذه الحالة الوسيطة بين الطبيعة والعلم هي مفتاح التمتع الجمالي: اللذة التي يختبرها العقل عندما يرتفع من المحسوس إلى المعقول.

يطور هيجل تدرجا لأنواع الفن، منتقلًا من الأكثر حساسية (أكثر مادية) إلى الأكثر تجريدًا (أكثر مثالية). وهكذا ينتقل من العمارة إلى النحت ويصل أخيرًا إلى التصوير الذي لا يمكن لمسه والذي يخاطب البصر فقط.  معه، تنفصل الروح عن وجودها الجسدي لتنكمش على نفسها. عملية الانفصال هذه هي جوهر التصوير، والتي وسمها هيجل بالفن الرومانسي.

التصوير هو نفي للأبعاد الثلاثة للمادة التي يعيدها إلى أول عملين لتحرير العقل من بيانات الإحساس، العقل الذي يستعيد نفسه ويركز على ذاته.

إذا كانت اللوحة، إذن، مجرد تقليد للطبيعة (وفقًا للصيغة المستعارة عن أرسطو)، فإنها ستكون مخطئة في مواجهة التقليد، بسبب الافتقار إلى بعد معين. لكن هذا الافتقار إلى الطبيعة هو الذي يثير مكاسب الروحانية، ويسمح، بفضل اللون، بأن تصبح الأشياء "انعكاسًا للعقل، حيث يكشف الأخير عن روحانيته فقط من خلال تدمير الوجود الحقيقي، من خلال تحويله إلى" مظهر بسيط في مجال الروح، الموجّه للروح".

فاللوحة، التي هي مجرد مظهر للطبيعة، موجودة فقط لكي تُرى. إنها هنا من أجل المتفرج وليس من أجل نفسها. المتعة التي نستمدها من رؤيتك للوحة لا تأتي من الوجود الحقيقي الذي يتم تمثيله ولكن من غزو المظهر من خلال الرسم: سطح اللوحة هو غزو العقل الذي يجرد نفسه من المادة.

إذا كان الفن لا يقلد الطبيعة فما هو موضوع اللوحة؟ صحيح أننا نرى أشياء خارجية تحيط بالإنسان: الجبال والوديان والأشجار والسفن والسماء والسحب والمباني التي لطالما اختارها الرسامون بابتهاج...

ومع ذلك، فإن جوهر التمثيل لا يتكون من هذه الأشياء في حد ذاتها، "إنها حيوية ونشاط المفهوم والتنفيذ الشخصي، إنها روح الفنان التي تنعكس في التحفة الفنية الخاصة به والتي تقدم، ليس فقط استنساخ بسيط للأشياء الخارجية، ولكن ذات الفنان وفكره الحميم ".

التصوير فن "رومانسي" من حيث أنه لا يعبر عن الموضوعية بل عن الذاتية. "الشيء، في يد الفنان، لا يصبح، مع ذلك، شيئًا آخر غير ما هو عليه، وما يجب أن يكون في الواقع. نعتقد فقط أننا نرى شيئًا مختلفًا وجديدًا تمامًا. يمكن للتصوير أن يحيط بالتفاصيل الرائعة، يمكن أن ينتقل من أكثر الموضوعات الدينية تقشفًا إلى تصوير المشاهد التافهة. لأنه استيعاب داخلي: هناك دائمًا غزو للسطح وما هو أعمق يجب تقصيه على السطح. 

"يجب على التصوير أن ينطلق حتى الطرف المعاكس. أي تمثيل مجرد المظهر، كما هي حقيقته؛ أي إلى الحد الذي يصبح فيه الموضوع شيئًا غير مبالٍ، والإبداع الفني للمظهر هو الاهتمام الرئيسي".

النقطة الرئيسية في التفكير الهيغلي، والتي تجعل الفن غير التصويري ممكنًا: حداثة les Cours d’esthétique ، لأن تلك الدروس أسست على وجه الخصوص تصويرا  تجريديا من شأنه أن يكمل فن التصوير.

إن تصوير "اللمعان" و "الوضاء" الذي أبهر كل من فان إيك[2]   van Eyck أو ميملينج[3] *Memling ، المتقنان حتى الثمالة، رسم الأحجار والأقمشة والذهب ، يحجب الشيء نفسه: إنه الآن من الكماليات ليس إلا،  لأن الرسام مهتم فقط  بـنشوة استخدام وسائل التمثيل الخاصة به. توقع هيجل الصيغة الأكثر حداثة للتصوير، والتي ترتبط بتاريخه: "ما يرسمه الرسام هو التصوير نفسه". سيتعين على كل جيل إعادة هذا الاكتشاف، وسيزان في النهاية لم يقل أي شيء آخر، مغاير.

في الجزء الأول من كتابه l’Imaginaire (Structure intentionnelle de l’image "البنية المقصودة للصورة") ، يقدم جان بول سارتر بدوره تحليلًا ظاهريًا للصورة. وهذا يعني أنه مهتم بمحتويات (ظواهر) الوعي: ويقصد هنا حالة وعي الرسومات التخطيطية.

ليكن الرسم المبسط  لرويجل يركض، تم التلميح إليه ببعض الخطوط فقط. فالجميع، منذ رجل Lascaux، يرى بفضل هذا التمثال أكثر بكثير مما يظهر أو يُدرَك بالفعل. (الرجل الذي تم تصويره على جدار بئر لاسكو، بين ثور البيسون ووحيد القرن، معروف ليس فقط لعصور ما قبل التاريخ، ولكن تم استنساخه في العديد من الكتب واسعة الانتشار، وأصبح الشخصية الأكثر شهرة في فن العصر الحجري القديم.)

كتب سارتر: "من خلال هذه الخطوط السوداء، لا نستهدف فقط صورة ظلية، بل رجلاً كاملاً. عبر الخطوط السوداء، نركز كل صفاته دون تمايز: حرفياً، لا تمثل الخطوط السوداء شيئًا، فقط عدد قليل من علائق البنية والنزوع. لكن كل ما يتطلبه الأمر هو بدائية التمثيل، بحيث يتم سحق كل المعرفة هناك، مما يعطي نوعًا من العمق لهذا الشكل المسطح".  باختصار، ما يشكل الصورة ويعوض كل إخفاقات الإدراك هو النية. لذلك لا يكون الوعي فارغًا عندما يكون "حدسًا"، فهو مليء بكل المعرفة التي "تُسحق" على الرسم، أو مرة أخرى، من القصدية التي تظل ضمنية وتنتظر الارتباط المحسوس. وبالتالي، حتى التمثيل الضعيف للغاية قادر تمامًا على تشغيل سلسلة كاملة من الصور.

يتكون فن الرسم التخطيطي بأكمله (الرسوم الكاريكاتورية على سبيل المثال) من اختيار الخطوط وترتيبها وفقًا لحركات العيون التي من المحتمل أن تحفزها والتي تتجاوز الشكل. من خلال تلك الحركات، سوف تسود الصورة الذهنية على الإدراك البسيط للشخص المتتبع. في النهاية، المشاهد هو الذي يخلق الصورة، والفنان يقدم له فقط عناصر هذا الخلق.

 أضاف سارتر: "أعلم أنني أصنع الصورة في كل لحظة. لذلك، كما نرى الآن، فإن العناصر التمثيلية في وعي الرسم التخطيطي ليست الخطوط المناسبة، بل الحركات المسْقَطة على هذه الخطوط. وهذا يفسر سبب قراءة الكثير من الأشياء على الصورة التي تكون مادتها سيئة للغاية. في الواقع، لا تتحقق معرفتنا مباشرة على هذه الأسطر التي لا تتحدث عن نفسها: إنها تتحقق من خلال الحركات. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تكون هذه الحركات بسطر واحد متعددة، بحيث يمكن أن يكون لخط واحد معاني متعددة ويمكن أن يكون صالحًا كممثل مادي لمجموعة من الصفات الحساسة للشيء في الصورة. من ناحية أخرى، يمكن للحركة نفسها أن تحقق معرفة مختلفة. الخط نفسه ليس سوى دعامة وركيزة. "

تسلط هذه الأمثلة الضوء على فكرة صورة الدعم أو صورة الترحيل. دعم أو نقل صورة ذهنية وخيالية غير واقعية تغمرها وتكون أكثر ثراءً بلا حدود من الإدراك المادي نفسه. يطلق على وسيط ترحيل المواد لصورة غير مادية من قبل سارتر التناظرية analogon. ( حسب سارتر: الصور المادية هي فقط نظائر analogon. عندما يستهدف الوعي التصويري كائنًا خياليًا، فإنه يستهدفه أحيانًا بمساعدة وسيط حقيقي، وهو "صورة مادية". هذا لا يُفهم في حد ذاته، ولكن كنظير للشيء المتخيل). إذا لم أتمكن من إظهار صورة بداخلي (على سبيل المثال: صورة صديقي بيير) ، سأستخدم صورة أو رسمًا كمكافئ للإدراك، وسأقول إن هذه الصورة (المادية) تعمل كنظير للإدراك . هذا الأخير له طبيعة مزدوجة لوعيي: يمكن للصورة أو الرسم أن يشير إلى مادته ذاتها (ألاحظ الحبوب على سطحها، وأرى أنها مطوية، وما إلى ذلك) ولا أعتقد أن لها وظيفة لتمثيل صديقي بيير. يمكنني أيضًا أن أراه هو فقط، ثم أنسى أهمية الدعامة (الصورة المادية).

هناك نوعان من الوعي: أحدهما يعالج الأشياء لذواتها، وهو الوعي الإدراكي. والآخر يعاملها على أنها أشباه أشياء quasi-objets ، وهذا هو الوعي الخيالي غير المدرك.

 يتابع جان بول سارتر بقوله: "في متحف روان، بعد أن خرجت فجأة من غرفة مجهولة، أخطأ ظني حينما حسِبْت شخصيات لوحة هائلة رجالا حقيقيين. اعتراني وهمٌ  قصير المدى (ربما ربع ثانية)، ومع ذلك لم يكن لدي، خلال هذا الوقت الضئيل، وعي تصويري، بل على العكس من ذلك، امتلكني وعي إدراكي."

من تم نفهم أن أي شيء يمكن أن يحضركحقيقة عينية أو كصورة. لذلك لا يمكننا عزل الصورة الذهنية ودراستها بشكل منفصل، وعلى وجه الخصوص، الأعمال الفنية التي تعد من الأشياء الخيالية. ليس الموضوع، بل نوع الوعي المطبق عليه هو الذي يشكله كحاضر أو ​​تخيلي: "حقيقي" أو جمالي ". فحالة الوعي هي التي تحدد ما إذا كنا أمام عالم خيالي أو عالم حقيقي.  حينما رسم تينتوريتو[4] Tintoretto لوحة (Saint Georges terrassant le dragon القديس جورج وهو يذبح التنين) لم يفصل بدقة ما يتوقع المرء أن يراه، وما ادعاه كارباتشيو[5] Carpaccio: "إنه ينظم مجموعة من الاقتراحات والأدلة التي، دون أن تظهر شيئا معينا، تتيح لنا أن نقرر ما إذا كان الفعل قد حدث أم لم يحدث".

في التردد العالِم  لبناء لوحته،  يُجبر تينتوريتو المشاهدَ على الاختيار. ووفقًا لسارتر، ينعكس كلٌّ منهما بالكامل في الخيار الذي يتعين عليه اتخاذه. "إنه باختصار، اختبار إسقاطي. لم يعد تينتوريتو مسؤولاً عما ننسجه من خيال حول  قماشته أكثر من مسؤولية رورشاخ[6] Rorschach عما نتصوره عن رسوماته."  كل شيء يعتمد على موقف المشاهد، سواء كان جالسًا أمام تينتوريتو أو أمام عمل لفنان"البوب​​" الذي، مثل مارتيال رايس Martial Raysse ، كان مقتنعًا بتقديم عرض كامل للبريسونيك "LE RAYON PRISUNIC”.  بالتالي، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل،  الفعل التاريخي لمارسيل دوشامب وهو يوقع على حامل زجاجة أو مبولة من عام 1913. في كل هذه الحالات، كان كافياً نقل الأشياء من أماكنها المعتادة إلى فضاء نسميه في هذه الحالة، المعرض أو المتحف لجعل المتفرجين يحولون وعيهم الإدراكي إلى وعي تصويري.

بالطبع، تم وضع عرض دوشامب وفناني البوب ​​"عند الحد الأقصى"، لكن المشكلة هي نفسها أمام صورة تشارلز الثامن.

كتب جان بول سارتر في مجلة l’ARC عدد 30، 1960: "لقد فهمنا أولاً أن تشارلز الثامن هذا كان شيئًا. لكن يقينا، أن شيئيته تختلف عن اللوحة والقماش وحقيقة طبقات الطلاء. طالما أننا نفكر في اللوحة القماشية والإطار لذاتهما، فلن يظهر شارل الثامن ككائن جمالي مستقل. ليس لأن اللوحة تخفيه، ولكنه لا يستطيع أن يسلم نفسه لوعي مُدرِك. سيظهر في اللحظة التي سيشكل فيها الوعي نفسه على أنه تصوير، يؤدي إلى تحول جذري، يفترض إبادة العالم. "

حقيقة اللوحة ليست جميلة. يعرّف سارتر الجميل على أنه كائن لا يستطيع أن يهب نفسه للإدراك، وهو، بطبيعته، منعزل عن الكون: هذا الوجه الذي يتجاوز الطبيعة المادية للقماش. لذلك فإن هدف الفنان هو تكوين مجموعة من النغمات الحقيقية التي تسمح لهذا الغير حقيقي بالتظاهر. في كل مرة يتخذ فيها المشاهد موقفا تصويرا، يجب تصور اللوحة على أنها شيء مادي تمت زيارته، من طرف شيء غير حقيقي هو بالضبط الشيء المرسوم. 

لذلك يمكن تعريف التأمل الجمالي على أنه حلم محرض. إنه يحتاج إلى قدر من اللامبالاة بمعنى أن المشاهد يجب أن يكون محصنا من أي "خطر" تسببه ممارسة وعيه الإدراكي. مشاهدة مصارعة الثيران "جميلة" من مسافة بعيدة؛ ولكن المشاهد سيجد صعوبة كبيرة في تبني موقف جمالي وهو بالقرب من الرعب المادي للدم وخطر الاندفاع. كان كانط هو الذي قال إن أفضل وضع لمشاهدة العاصفة لم يكن القارب المهدد، بل الملجأ المريح على اليابسة (نقد الحكم). يلعب بعض الرسامين على غموض نقاط الاتصال بين المفهومين: يرسم جاسبر جونز Jasper Johns أعلامًا ليست أعلامًا "حقيقية" أو ديغا Degas، "واتو الخشن Watteau grinçant "  كما أسماه الناقد إيلي فور، الذي لم يكن يرغب مراقبة راقصيه إلا أثناء حصص التمرين المضنية أو من وراء الكواليس، حيث تختفي النعمة وراء العرق والجهد والإرهاق: وهكذا فإن الهاوي الذي اعتاد على المثالية التصويرية لأداء الباليه قد انزعج  في وعيه التصوري الجيد من "ريبورتاج" فن ديغا. 

يمكننا أيضًا استحضار تقنيات الكولاج التكعيبية وفقًا لبراك وبيكاسو. عندما أقحم الأول قطعة من الورق المقطوع مباشرة في لوحاته، وألصق الثاني جديلة تنجيد على رسوماته، فلا يوجد بحث عن "روحانية" الصحيفة أو القماش. يسعى الرسام إلى خلق نوع من التردد، اضطراب لذيذ في الوعي لا يعرف ما إذا كان ينبغي أن يستوعب الواقع أم المتخيل.

ربما توجد بعض نقاط الضعف في تحليل سارتر، بغض النظر عن مثمرته الشديدة. لذلك ربما يكون من العجالة تواؤم غير الواقعي مع التخيل. لاحظ ميكيل دوفرين[7] Mikel Dufrenne أنه من التفاهة القول بأن المعنى غير واقعي، إذا كنا نعني بذلك أن موضوع العمل الفني ليس موجودًا في العالم الحقيقي، "أن هاملت الذي جسده لورانس أوليفييه أو بارولت ليست هاملت الحقيقي، ولا داعي لفتح مظلته عند سماع عاصفة " Sixième". يمكن أن نجزم بأن هذا الغير واقعي هو أيضًا غير واقعي من خلال تجاوزه للواقع، وغير واقعي لأنه لا ينضب ويتعذر الوصول إليه"….

في "هاملت" أو في "السيمفونية"، هناك شيء لست متأكدًا من أنني أستطيع فهمه لأن العمل غني مقارنة مع بؤس شعوري وشظفه. على أي حال، فما هو غير الواقعي لا يتحقق عن طريق وعي تصويري (مشتت)، إذ في المُتصوَّر المدرَك نضيع.

بالطبع، لا يتم تحقيق الموضوع الجمالي إلا في وعي المتفرج، لكن هذا الوعي لا يشكل ذلك المعنى، بل  يكتشفه فيما يدركه.

كتب دوفرين: "إن علاقة الرسم بالشيء المرسوم ليست علاقة" زيارة " visitation، هذه العلاقة التعسفية التي نسج الوعي خيوطها فجأة، ليقرر التخيل؛ إذا كان فعل الوعي ضروريًا، فمن أجل إتمام التصوير واكتشاف الشيء المرسوم، وليس بقصدية إنكاره (أي التصوير) عن طريق استبدال الشيء به." 

يدرك ميكيل دوفرين، مع ذلك، أن الدفاع عن الأحدية الجمالية (monisme esthétique) واستبدال التصور بالخيال لا يزال يحرمنا من فهم كيف يمكن أن يكون الشيء الجمالي هو الشيء والمعنى في نفس الوقت. "الشيء والمعنى كلاهما، في آن واحد مني ومن خلالي"، كما قال. لذلك يجب أن نبحث في اتجاهات أخرى، وهو ما حاول موريس ميرلو بونتي فعله حينما تحدث عن القاعدة، أي نشاط الجسد وحيويته. هذا الجسد الذي يكون "هنا" عندما يحدث نوع من إعادة العبور، وتشتعل شرارة الشعور الواعي، بين الرائي والمرئي، بين العين والآخر.  يتم استحضار كل مشاكل التصوير بمجرد تقديم هذا النظام الغريب من التبادلات.

 إذا كانت أشياء العالم وجسدي مصنوعة من نفس النسيج، فيجب أن تتحدد رؤيتي فيها: " إن الطبيعة في داخلنا" كما قال سيزان. ما أسميه الجودة والضوء واللون والعمق، وأنا أتأمل منظرا طبيعيا، هي عناصر موجودة فقط لأنها توقظ أصداء في جسدي ترحب بها. تجد الأشياء بالفعل فينا معادلاً داخليًا: فلماذا إذن لا يؤدي هذا الأخير بدوره إلى ظهور خط مرئي، ربما قد تواجهه نظرات أخرى؟

" إذن، يظهر مرئيًا من القوة الثانية، جوهر جسدي أو أيقونة الأول. هذا ليس ثنائيا واهنا أو خداع بصر أوشيئا آخر. الحيوانات المرسومة على جدار لاسكو لا توجد هناك كما يوجد صدع أو تقرحات من الحجر الجيري. إنها ليست كذلك في مكان غير هذا.

عندما أنظر إلى لوحة، أرى وفقًا لها أو معها بدلاً من تركيز الرؤية عليها هي بالذات. يجب أن نفهم أن عيوننا هي أكثر بكثير من مجرد أجهزة استقبال للأضواء والألوان والخطوط: فهي تتمتع بهبة المرئي. بالطبع، تُكتسب هذه الهبة من خلال التمرين والتمرس، وصحيح أن الرسام لا يكتسب رؤيته في وقت وجيز ولا يحوزها بمفرده. ومع ذلك، فإن رؤية الرسام تتعلم من نفسها فقط، من خلال الإبصار، وترى ما يفتقر إليه العالم ليكون لوحة، ثم ما تفتاق إليه اللوحة لتكُون نفسها.

أسس ميرلوبونتي تأويلا "هوسرليًا" عن فن سيزان، "رسام الإدراك بدلاً من المُدْرَك"، ويقترح استخدام فن سيزان لتوضيح لأطروحاته الخاصة حول الإدراك. يصف روبرت كلاين، تلميذ هوسرل[8]Husserl، كيف أن الرؤية عند ميرلوبونتي كما لدى سيزان، "هي تعايش جسدي مع العالم، وهي حلقة يتدخل فيها فعل الرسم - مثل الانعكاس الظاهراتي - كعنصر ثالث يوضح العلاقة المتبادلة بين الآخَرَيْن". يبدو أن ميرلوبونتي، حينما أدرج التصوير ضمن الإدراك، غاب عن ذهنه واقع العمل الفني المستقل ودوره التواصلي. لكن فلسفته كلها تؤكد أن الإدراك والتعبير والتاريخ لهم إشكالية مشتركة، تحدد دراساته حول اللغة. وفقًا لميرلو بونتي، يرسم سيزان التجربة التي نمتلكها عن الأشياء بدلاً من مظهرها المفترض الذي يعتقد الآخرون أنه "يُحَوِّل" من العين إلى القماشة.

ليكن رسام أمام جبل. هذا يتباهى بالآخر، والآخر يُسائله. يطلب منه أن يكشف له عن الوسيلة المرئية التي بها أصبح جبلا. هذه الوسائل تسمى ضوءً، وإضاءةٌ، وظلالاً، وانعكاسات، وألواناً ... ومع ذلك، فهي ليست كائنات حقيقية: "هي، مثل الأشباح، لها وجودا بصريا فقط". عند الاقتراب من الجبل، لن يجد هذا الرسام "فعلا" لا الظلال ولا الألوان ولا الانعكاسات التي كانت مرئية من مسافة بعيدة. لذلك هو مطالب بأن يكتشف كيف تصبح الأشياء مرئية لنا.

دعونا نلقي نظرة على اللوحة الأكثر شهرة لرامبرانت،  la Ronde de nuit. هذه اليد التي تشير إلينا موجودة، أكيد، فقط لأن ظلها على صدر القبطان يظهرها لنا من وجهة جانبية de profil. عبر لعبة الظل هذه نستنتج اليد الممدودة في اتجاهنا: بدونها تبدو مرتبطة مباشرة بجسدها. لذلك فهي لعبة تجعلنا نرى الشيء والفضاء معاً. لكن هذه اللعبة تحتجب لتُظهِر اليد. لرؤيتها، لم يكن عليك رؤيته هو(...). إن مُساءلة التصوير على أي حال تقصد هذا المنشأ السري المحموم للأشياء في أجسادنا."

في بعض الحالات، كانت اللوحة في الواقع فلسفة رؤية. وهكذا، فإن الرسم الهولندي غني بهذه التصميمات الداخلية المهجورة التي يتم هضمها بطريقة ما بواسطة "العين المستديرة للمرآة"، كما قال بول كلوديل. مظهر المرآة هذا هو شعار الرسام المفتون بالحيل التي تسمح بتحويل الرائي إلى المرئي (المنظور هو مجرد "خدعة" مثل المرآة). نحن نفهم لماذا يحب الرسام تمثيل نفسه على لوحته (يقتبس ميرلوبونتي من ماتيس، لكن يمكننا أيضًا أن نقول بيكاسو أو فرومنجير في الجيل الحالي). في الواقع، يضيف إلى ما يراه وما تراه الأشياء منه. وبالتالي يشهد على إيمانه بوجود رؤية كاملة ستشهد عليها اللوحة.

 يصف ميرلوبونتي تاريخ التجارب التي حاول الرسامون من خلالها إيجاد حل لمشكلتهم، فكل اكتشافاتهم صحيحة بشرط ألا يُنظر إليها على أنها أساس لا ينفصم لرسمة دقيقة ومعصومة. وهكذا، إذا كان رجال عصر النهضة محقين في البحث عن طرق جديدة لتمثيل العمق، فقد أظهروا بعض النوايا السيئة في اعتبارها ممكنة فقط. أشار بانوفسكي[9]Panofsky إلى كيفية "نسيان" المجال البصري الكروي للقدماء وكيف يمكنهم فقط إعطاء مصداقية لأسطورة منظورهم الاصطناعي من خلال تنقيح إقليدس من نظريته الثامنة، والتي تعتبر محرجة. لم يكن منظور عصر النهضة حيلة مضمونة، ولكن فقط تاريخًا، حيث لا توجد وسيلة تعبير يمكنها حل مسائل الرسم عن طريق اختزالها إلى تقنية. 

لا تتمثل مهمة الرسام في الحديث عن الفضاء والضوء: إنها تتمثل في جعلهم يتحدثون، ومن تم يتم من جديد، طرح جميع الأسئلة التي قد يعتقد المرء أنها مغلقة. ما هو العمق؟ ما هو الضوء؟ هذه الفلسفة لم يتم تنفيذها بعد، فهي تحيي الرسام في اللحظة التي تصبح فيها رؤيته إيماء، وعندما "يفكر بالرسم" كما قال سيزان. سيزان، الذي وفقًا لجياكوميتي، سعى إلى العمق طوال حياته، استخدم الألوان كـ "المكان الذي يجتمع فيه دماغنا والكون معًا". إنها ليست بأي حال من الأحوال "محاكاة ألوان الطبيعة" (روبرت ديلوناي). يتعلق الأمر ببعد اللون، "ما يخلق هويات من وإلى ذاته، اختلافات، نسيجاً، ماديةً، شيئا ما ... يعود الفضل في العودة إلى اللون إلى تقريبنا قليلاً من "قلب الأشياء" كما صرح بذلك بول كلي، الذي مع ذلك، تجاوز الظرف الملون وكذلك الفضاء الغلاف. لنأخذ صورة سيزان Portrait de Vallier. تحافظ هذه اللوحة على اللون الأبيض بين الألوان التي يجب أن تقطع كائنًا أكثر عمومية من اللون الأصفر أو الأزرق. تحافظ هذه اللوحة على بعض الأبيض بين الألوان التي يجب أن تقطع كائنًا أكثر عمومية من الوجود -الأصفر أو الوجود-الأزرق.  

في هذه الصورة، كما في الألوان المائية للسنوات الأخيرة، يشع الفضاء (الذي اعتقدنا أنه "واضح" منذ عصر النهضة) حول المستويات التي لا يمكن تخصيصها لأي مكان محدد. فيما يلي تراكبات من الأسطح الشفافة التي تتقدم أمامنا أو تتخلف؛ تتداخل مستويات الألوان وفقًا لتقديرنا: لم يعد الأمر يتعلق بإضافة بُعد إلى بعدي اللوحة القماشية. العمق التصويري ليس وهمًا للعمق، إنه يأتي من حيث لا ندريه "ينبت" على الخلفية، كما هو الحال لاحقًا مع بول كلي الذي قارن هنري ميشو ألوانه بزخرفة العفن. وبالمثل، فإن الخط بمجرد تحريره من عبودية التمثيل الوهمي لم يعد يقلد المرئي، بل يجعله مرئيًا. أثارت نساء ماتيس السخرية لأن سطورها كانت فاقدة أنوثتها. لكنها استعادتها: "ماتيس هو الذي علمنا أن نرى معالمه، ليس بالطريقة" الفيزيائية البصرية "، ولكن كأضلاع، مثل محاور نظام النشاط والكسل الجسديين."

 

هوامش:

 1   بعد حصار باريس، سقطت العاصمة في 28 يناير 1871 ثم قامت انتفاضة ثورية تسمى كومونة باريس واستولت على السلطة في العاصمة لشهرين، حتى قام الجيش الفرنسي بقمعها دموياً في نهاية مايو 1871.

 2 يانْ فانْ آيْكْ، بالفلامنكية: Van Eyck Jan كان رسامًا فلمنكي نشطًا في بروج. هو واحد من أوائل المبدعين لِما أصبح يُعرف باسم الرسم الهولندي المبكر، وأحد أهم ممثلي فن عصر النهضة الشمالي المبكر.

 3 هانز ميملينج رسام ألماني على الطراز الفلمنكي ، ولد حوالي 1435-1440 ، وتوفي عام 1494 ، وهو أحد أعظم ممثلي لوحات بروج في القرن الخامس عشر ، جنبًا إلى جنب مع جان فان إيك ، وبيتروس كريستوس وجيرارد ديفيد ، والمدرسة الرسامين الفلمنكيين البدائيين.

  4 جاكوبو روبوستي ، المعروف باسم تينتوريتو ، (ولد على الأرجح في 1518 أو 1519 في البندقية ، عاصمة جمهورية البندقية آنذاك ، حيث توفي في 31 مايو 1594) ، هو رسام البندقية من عصر النهضة ، الذي ارتبط بالحركة الفنية سلوكيات مدرسة البندقية.

 5 ولد فيتوري كارباتشيو حوالي عام 1465 في البندقية (إيطاليا) وتوفي عام 1525 أو 1526 في كابو ديستريا ، الاسم الحقيقي Scarpazza أو Scarpaccia ، هو رسام روائي إيطالي لمدرسة البندقية ، محاكاه جنتيلي بيليني ولازارو باستياني ، وتأثر به. اللوحة الفلمنكية.

 6  يعد اختبار Rorschach أو Rorschach Psychodiagnetic6  أداة تقييم نفسية من النوع الإسقاطي تم تطويرها بواسطة المحلل النفسي هيرمان رورشاخ في عام 1921. وهي تتكون من سلسلة من اللوحات الرسومية المكونة من بقع متناظرة، لاتصويرية والتي يتم تقديمها للتأويل الحر من طرف الشخص موضوع التقييم. 

ميكيل لويس دوفرين (1910-1995) فيلسوف فرنسي. متخصص في علم الجمال ، أعطى توجهاً ظاهريًا لهذا التخصص. أخرج (بالتعاون مع أوليفييه ريفو دالونيس) Revue d'esthétique.

 8 إدموند هوسرل (1859-1938) هو فيلسوف ومنطق ، نمساوي بالولادة ، ثم بروسي ، مؤسس الفينومينولوجيا ، التي كان لها تأثير كبير على فلسفة القرن العشرين بأكملها.

إروين بانوفسكي (189-1968) ، مؤرخ وكاتب مقالات ألماني هاجر إلى الولايات المتحدة.

 

مراجع

  • Maurice Merleau-Ponty, L’œil et l’Esprit, Gallimard 1964
  • Hegel, Cours d’esthétique, coll. « Les grands textes », P.U.F
  • Jean-Paul Sartre, L’Imaginaire, coll. « Idées », Gallimard.
  • Mikel Dufrenne, Phénoménologie de l’expérience esthétique, P.U.F
  • Robert Klein, La Forme et l’intelligible, Gallimard 1970.

     
هنري ماتيس - رقصة
إدغار ديغا - مدرسة الباليه
تينتوريتو سانت جورج والتنين.
هنري ماتيس - عراة زرقاء
سيزان - بول فاليي
هنري ماتيس
  
  4
  2
 0
مواضيع مشابهة

15 فبراير  .  2 دقيقة قراءة

  0
  6
 2
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال