13 نوفمبر . 5 دقائق قراءة . 760
بدأ متحدثاً إلى نفسه، بعد أن ينهكك يوم يختصر شكل الحياة برمّتها، بحلوها ومرّها. تخرج باتجاه عرضٍ مسرحي وبين عتمة القاعة وأضواء الخشبة تشعر بأمرين، الأول حضور شعوري وجودي آني (اللحظة). والثاني حالة فقدان ذاكرة مؤقتة عن كل ما يدور على ما تبقى من البسيطة اللابسيطة (خارج الزمن).
أما بعد فتخرج مبتهجاً من الحالة ولا شرط عمق العرض. فتشعر أنك تشتهي كل شيء، ولست متعلقاً بشيء. فالشهوة هنا ليست بداعي اللذة وإنما الفرح. وجولة في أزقة دمشق مع مطر خجول يتهاوى مما يجعل الناس في عجالة للاختباء. وحينها فجأة وكأن هذه القطرات غسلت عيوني فأصبحت أرى الشام كم هي في قمة البهاء وكل أوصاف حسنها تبدو حين تكون فــــارغة.
لا أحد، الكل منشغل بالكل وبالعموميات والخصوصيات وهنا وهناك بالحراك، بالدخول والخروج، بالحب والكره، بالقيم والانحلال، بالتبرير والاتهام.
ونحن على ناصيةٍ في فراغ دمشق نأكل الفول النابت والذرة المسلوقة، لا يوجد في المكان إلا صوت ضحكتها الطفولي وعبارات تذكرني بوعودي لها "حين تأتين الى الشام سنذهب معاً الى المسرح والسينما وخان اسعد باشا وقصر العظم"، "سوف نتسكع وأأكل في الشارع معكِ وأقوم بما لا أتوقعه من نفسي".
في البيت، وصلنا مبللين وإذا بضوء خافت وكستناء وكأس نبيذ واحد/ موسيقى فرنسية بالأبيض والأسود، وغفوة.
وبعد الصحوة، بدأ النقاش في العتمة ليحيلها نوراً ساطع
قال لها، باختصار: الحياة المليئة كلها فراغ غير محسوس. والحياة الفارغة تحوي كل الملء.
فأجابت: لا شيء أجمل من الوحدة معك والاتحاد بك .... والباقي عبور سراب.
وأردفت وهي معتدّة بما ستقول، في الطريق اليوم ومع وصفك هذا للحضور واللحظي وخارج اللحظات، أثار في ذهني جملة أمور حول تراكم وتشكل ومعاني الخبرات في حياتنا وإليك ما تناهى إلى فكري:
"إنَّ روعة الأشياء لا تأتي من كونها اختبار للمرة الأولى، وهو ما نظنه عادة ونُعَبّر عنه، وهو الأمر الأكثر شيوعاً. لكن روعة حقيقتها حين تلمس وتمس أعمق ما فينا! فالعمق، هو زاوية مظلمة، وحين تصل تلك الخبرة إليه يشتعل النور ليضيء الأعماق فيصير كلّكَ المشرذم واحداً، وهذا معيار تحكم فيه على مصداقية هذه الخبرة. حيث تغيب المسافات والأزمان، وتتدوّر الزوايا. غالباً ما يكون تجمّع خبراتنا مهماً في حين أننا اعتقدنا أنها صحيحة أو حقيقية، لتؤول خلاصتها لعتمة أكثر ظلمة في العمق الذي يترجى ضوءً، وذلك لأنها آتية من رغبتنا باختبار الأشياء، فغوصنا بها هو الرغبة باكتشاف حدث وأن نكون جزءً منه، وبعد؛ ترحل الخبرة والأحداث والأشخاص وتترك في العمق عمقاً أعتم، وينتج عنها إدراك بعدمية جدواها، وأن شوق الداخل وبحثه وأنينه يزداد، وهذا الشعور يؤكد أن المرّة الأولى والاختبار الأول ليس هو الحقيقة، ويخمد معه سعينا إلى حين".
وبعد أن تأكد من أن صمتها يعني أنها انهت كلامها وبانتظار تعقيبه، حكَّ شفتيه ببعضهما وببلهما بريق، ومع سعال خفيف، متقمصا شخصية المفكّر، وقال:
"في محطة غير متوقعة وإن شئنا تسميتها بالـ (الصدفة)، يأتي اختبار ليس بدافع من إرادتك باختباره، بل من لطف ومحبة، ليس هدفه محو ذاكرتك وخبرتك، يجيء بنبلٍ ليدير عجلة النور ويعطي للأشياء والأحداث معنى، ويضيف عليها مغذى. هذا الزائر يُشركك مع الفرح ويَتَّحِد بشراكتك، هالة الضوء التي فيه تُغيِّب الظلمة، فتنسى، وتصبح المرة الأولى والخبرة الأسمى. من سمات النور أنه يُحرق دون أن يقصد ربما! فغايته هي أن يضيء، ولكنَّ النور ببهاء صفوه ينشر غمامة تقتحم الغربة. فتتعلّق العين به وعليه، وتجعله المركز والركيزة، لتصير كل الممارسات طريقاً، والأحداث سبيلاً، والمعطيات والرغبات والانجذاب أدواتاً، معناها ورسالتها أن تَصِلنا بكمالِنا. حينها فقط لا مقارنة تجدي، ولا مقاربة تُرضي، والأهم؛ أن الطقوس ليست تكراراً، بل مساحات لقاء مع ذاتنا التائهة، في يقين "أنني وجدتها"، في بريق الحضور الذي يجعلني عدماً دونها. في أنَّ تلك المرآة ليست استرجاعاً واستقلاباً لخبرة أو حدث أو ذكرى. بل باختصار تؤول لتكون المرة الأولى، والمستمرة في وقوفنا أمام وجودنا، هذه المرآة هي كَونُنا وتكويننا، هي أنّ هذا العمق صار السطح الذي أينما وكيفما تحركّنا يُغلّفنا في مساحةٍ واحدةٍ، كلُّ الأمور فيها لها نفس الهوى دونَ أن يبلى".
وبعد هذه الكلمات شعر كلانا أنه ممتلئ من ذاته من الآخر، وانهيا زيارتهما لكوكب الأبد، ليعودا إلى المخدة التي تجمعهما، ليناما بسلام، استعداداً لاستقبال يوم جديد، يعيد تكرار م قبله وما بعده، لتكون كل الأيام تشبه بعضها، إلى تأتي تلك الخبرة لتزورنا وترشّ ملحاً على حياتنا.
وفي الصباح استيقظا قبل المنبّه، وبنشاط شربا القهوة، وانطلاقا نحو ما اعتادا أن يكسراه معاً.
11 سبتمبر . 4 دقائق قراءة