05 ديسمبر . 7 دقائق قراءة . 1112
ظلت الفلسفة قروناً عديدة تشكل الوسيلة المعرفيّة التي تناولت كل العلوم التي اشتغل عليها الإنسان عبر تاريخه الطويل... أي منذ أن بدأ هذا الإنسان يفكر تفكيراً مستقلاً, ويأخذ الفكر عنده نسقاً قائماً بذاته, معزولاً بشكل نسبي عن واقعه الذي كونه أو أنتجه تاريخياً, وأصبح له دوره ومكانته وتأثيره في التعامل مع هذا الواقع الطبيعيّ والاجتماعيّ والمعرفيّ تحليلاً وتركيباً.
أما بالنسبة لسؤال ما هي الفلسفة فحتى نهاية العصر العبوديّ كانت أم العلوم هي الفلسفة, ولكن مع تطور المعرفة الإنسانيّة وتفرعها, ظهرت العلوم الخاصة كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والميكانيك.. وغيرها. فمع توسع المعرفة فقدت الفلسفة تدريجيّاً مكانتها كأم العلوم, ليقتصر دورها ومكانتها على دراسة الوجود والمعرفة.
ومع ذلك يمكننا القول في هذا الاتجاه: مهما تغيرت اهتمامات الفلاسفة مع مرور العصور, تظل قضايا أو مسائل الوجود والمعرفة والحياة الإنسانيّة, الشاغل الرئيس لجميع المذاهب الفلسفيّة. وفي مقدمة المسائل التي تهتم بها الفلسفة في شقيها المثاليّ والماديّ وهي:
وهي المسألة المتعلقة بأسئلة الوجود الموضوعيّ للعالم.. هل الطبيعة أو العالم قائما بذاته ماديّاً؟. أم أن وجوده رهن لقوى غيبيّة مفارقة؟ وهل العالم خالد, أزلي, أم محدث من قبل الإله؟ وهل هذا العالم في حركة وتطور وتجدد باستمرار وفقاً لقوانين موضوعيّة مستقلة عن الوعي والآلهة؟ أم لا وجود لمثل هذه القوانين. ثم هل ما نلاحظه من حركة وتبدل في العالم جاء من الخارج... من الروح أو الإله, أو من وعي الناس وفكرهم وإرادتهم؟
وتتجلى هذه العلاقة في نشاط الإنسان العمليّ والنظريّ, الذي يرتدي بوجه عام طابعاً اجتماعيّاً, ويتحدد في نهاية المطاف بأسلوب الإنتاج المسيطر في المجتمع.
أي المتعلقة بقضايا المعرفة, وخاصة قضية العلاقة بين الفكر والواقع / الوجود... بين تصوراتنا عن العالم والعالم ذاته, أي بين الذات والموضوع. بل هي تتعلق بكافة أشكال المعرفة ووسائلها وطرقها ودرجاتها, وبمشكلة الحقيقة ومعاييرها.(1).
إن الفكر الفلسفيّ في سياقه العام الماديّ والمثاليّ, هو فكر منطقيّ, يتعامل مع صيغ منطقيّة معينة, قوانين ومقولات ومفاهيم, كالاستقراء والاستدلال والاستنتاج والحدس والتجربة, وكقوانين ومقولات الجدل في المنهج الماديّ التاريخيّ, كالحركة والتطور والتبدل ونفي النفيّ وعلاقة الشكل بالمضمون والجزء بالكل والداخل بالخارج والتناقضات الطبقيّة وصراعاتها.. وغير ذلك.
بالرغم من أن اقتصار الفلسفة على الوجود والمعرفة, إلا انها ظلت في الحقيقة تاريخيّة ومترابطة في تكوينها وتعدد سياقاتها المعرفيّة, ولا يوجد قطع معرفيّ محض بين شقيها المثاليّ والماديّ. وهذا ما جعل بعض الفلاسفة الماديين يقولون عن هذا الترابط بين تكوينات الفلسفة الماديّة والمثاليّة, وسياقاتها المعرفيّة: من الضرورة والعلميّة معاً, عدم طرح الفلسفة المثاليّة جانباً, وأن لا نتجاهل دورها في التطور الفلسفيّ, بل علينا أن نكشف عن جذر الفلسفة المثاليّة وحقيقتها, ونبين تناقضاتها, ونظهر العناصر الايجابيّة والقيمّة في بعض مذاهبها أو تياراتها. لذلك فقد اعتبر بعضهم الفلسفة المثاليّة ومنها الدين, كزهرة عقيمة حقاً, لكنها زهرة عقيمة أو ذابلة على شجرة المعرفة الإنسانيّة الحيّة.
إن الفلسفة المثاليّة هي وليدة المعرفة ذاتها, ولكنها المعرفة المنحرفة عن النهج الصحيح للمعرفة, أي النهج الذي يربط الفكر بالواقع. بيد أن انحرافاتها لم تستمر طويلاً لولا التحزب الفلسفيّ لها, الذي تقوده قوى اجتماعيّة مستبدة على المستويين السياسيّ والاقتصاديّ, لا يهمها مصالح الإنسان بعمومه, بقدر ما يهمها مصالحها الذاتيّة الأنانيّة الضيقة. هذا ويأتي الدين هنا على رأس الفلسفة المثاليّة التي تُسْتَغَلْ وَتُحًوًّلْ إلى أفيون. وهذه الفلسفة بعمومها معادية للعلم والإنسان معا. إن الفلسفة المثاليّة بكل عُجْرِها وَبُجْرِها, هي حاملة لنواة عقليّة تسعى للوصول إلى حقيقة لم تكتمل معرفتها. لذلك لا يمكننا ان نقصي من تاريخ الفلسفة, سقراط وأرسطو وافلاطون وبيكون وسبينونزا وفيورباخ وفورباخ وهيجل وكانت وديكارت وهيوم وليبنز وأوغست كونت, وحتى فلاسفة ما بعد الحداثة كجاك ديدرا ومشيل فوكو ونتشيه وغيرهم من فلاسفة تشبعت آراءهم بالمثاليّة الموضوعيّة أوالمثاليّة الذاتيّة أوالإسميّة أواللاأدريّة والحدسيّة والتجريبيّة والوضعيّة والوضعيّة الحديثة والبنيويّة والظاهراتيّة والتفكيكيّة .. الخ.
إن قراءتنا هذه للفلسفة المثاليّة, تدفعنا لقراءة الفلسفة الماديّة أيضاً, وهي الفلسفة التي تأخذ بعين الاعتبار ما قامت عليه فلسفات الماضي (المثاليّة), وتستلهم منها كل ما هو جوهري يربط الواقع بالفكر, ويتخذ من المنهج الماديّ الجدليّ والتاريخيّ طريقاً للمعرفة.
تنطلق هذا الفلسفة في قراءتها للواقع, وتحليله وتركيبه, من المنهج الماديّ الجدليّ التاريخيّ.
إن الفلسفة الماديّة في سياقها العام تقوم على منطلقين أساسيين هما:
يعني بمعرفة العالم, تفسيراً وتحويلاً, وهذا ما جعل ماركس يقول:
كل الفلسفات السابقة للفلسفة الماركسيّة كانت تعمل على تفسير العالم, إلا الفلسفة الماركسيّة أخذت تعمل على تحويله).
وله مقولة أخرى على درجة عالية من الأهمية في هذا الاتجاه تقول:
( آن للفيلسوف الآن أن يبني هندسة المجتمع, كما يبني المعماريّ هندسة البناء.).
فالفلسفة وفقاً لذلك هي جزء من البناء الفوقي (الأيديولوجي). لذلك على تاريخ الفلسفة أن يكشف عن ارتباط التيارات والمذاهب الفلسفيّة بالعلاقات الاجتماعيّة السائدة وبأسلوب الإنتاج المسيطر, وكذلك في وضعيّة الصراع الطبقيّ الدائر فيه, وبتقدم العلوم وغيرها من أشكال الوعيّ الاجتماعيّ في مرحلة تاريخيّة معينة يراد تسليط الضوء عليها في نهاية المطاف.
إن المنهج الماديّ التاريخيّ, ينظر إلى تاريخ الفلسفة نظرة تاريخيّة بوصفها درجات معنيّة في تطور المعرفة الإنسانيّة, كما يعمل على كشف الجذور الاجتماعيّة للمعرفة, وللتيارات والمذاهب الفلسفيّة السابقة والمعاصرة, كما ينظر نظرة علميّة وواقعيّة ومتعددة الجوانب لما قدمته وطورته الفلسفة من رؤى وأفكار وآراء.
لقد اهتم المنهج الماديّ التاريخيّ, بدور الإنسان في المجتمع, وبالكشف عن معنى التاريخ وقواه المحركة, وآفاق تطور المجتمع الإنسانيّ. هذا وقد أدخل هذا المنهج مؤخراً علم الاجتماع مع الفلسفة, وهو العلم الذي يدرس جوهر الحياة الاجتماعيّة وقوانينها وبنيانها, والعلاقات المتبادلة بين جوانبها الماديّة والروحيّة, والعلاقات المتبادلة بين الفرد والمجتمع وغير ذلك. كما أدخل على الفلسفة علم الأخلاق وعلم الجمال وعلاقة الفن بالواقع.
إن المنهج الماديّ الجدليّ التاريخيّ يقول في المحصلة:
إذا كانت أشكال حركة المادة وقوانين تطورها مادة للعلوم الطبيعية, (فيزياء كيمياء بيولوجيا.. الخ.). وإذا كانت أشكال مختلف الحياة الاجتماعيّة وقوانين تطورها, تعتبر مادة للعلوم الاجتماعيّة, (اقتصاد, سياسة, إخلاق, علم جمال. وغيرها). فإن الفلسفة تأتي لتقدم إجابات عن كل هذه المسائل الأكثر شمولاً للوجود والمعرفة معا.
وهذا هو موضوع الفلسفة في المنهج الماديّ الجدليّ التاريخيّ.
إن تاريخ الفلسفة يدرس الحوافز والدوافع والبواعث الكامنة وراء طرح الفلاسفة لمختلف الآراء والأفكار, وتبيان الأسباب العميقة التي جعلت الأفكار الفلسفيّة العميقة المعبرة عن أيديولوجيا طبقة ما أو فئة ما, تتخذ وجهة نظر معيّنة تجاه مصالح الناس بشكل عام أو مصالح قوى اجتماعيّة ضيقة بشكل خاص.
د عدنان عويد
كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333dgmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- موجز تاريخ الفلسفة – اصدار دار الفكر. ط3- 1979- ص12و13.