28 ديسمبر . 9 دقائق قراءة . 1475
في كل حقبة ومرحلة زمنية تطغى بشكل واسع على مسامع الإنسان عبارات جديدة مثل " الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان "، ما هي إلّا تمثيل لمذهب فكري إما جديد، أو قديم عاد للظهور بلمسات معاصرة. وتبدأ معه بالتّشكل الآراء المختلفة بين تأييد ومعارضة، وتبرير وممانعة. وضحية هذه التيارات عموماً هم ما يمكننا تسميتهم بـ "المتلقيّن السلبيين"، الذين يتأثرون بسطحيات هذه الفلسفات والأفكار، ويتبنّون هذه المعتقدات دون الولوج إلى عمق تفاصيلها.
ومن هذه العبارات التي يكثر مؤخراً تداولها " الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان " وهي تجمع بين "المادية أو الفلسفة المادية" بتفريعاتها المتعددة. وأيضا مصطلح "تفكيك الإنسان".
ما سنقوم به في مرداد بهذا المقال هو إلقاء الضوء على هاتين العبارتين ومحاولة تفسير وتوضيح لهذه المدرسة الفكرية أو التيار الفلسفي من جهة حيادية وبالتزام الموضوعية من خلال طرح الأفكار كما يقدمها أصحابها. محافظين على مبادئنا في تقديم المعلومة بشفافية ودقة. فنبدأ إذا في تفسير عبارة " الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان "
تقريباً كل إنسان أثناء حياته لا بد أن تستوقفه ولو مرة أسئلة كبرى حول الوجود عموماً ووجوده الفردي خاصة. ومع التنوّع الحاصل والاتساع في رقعة المعرفة وسهولة الوصول إلى المعلومة بات الإنسان أكثر اضطراباً منه توازناً.
هذا يضعنا أمام سؤال: هل إنساننا اليوم مفكك؟ وإن نعم! فما هو مفهوم التفكيكية؟ وما هي أسبابها؟ وأيضاً هل تلعب المادية دوراً في هذا التفكك؟ وإن كان نعم أيضاً، فما هو المقصود بالمادية؟
هي شكل من أشكال الوحدانية الفلسفية التي تجعل من المادة الجوهر الأساسي في الطبيعة، وكل الأشياء، بما في ذلك الحالات العقلية والوعي، والتي ترى أنها نتائج تفاعلات مادية. وفقًا للمادية الفلسفية، يعتبر العقل والوعي نواتج ثانوية أو ظاهرة ثانوية لعمليات مادية (مثل الكيمياء الحيوية للدماغ البشري والجهاز العصبي)، والتي بدونها لا يمكن أن توجد.
يتناقض هذا المفهوم بشكل مباشر مع المثالية، حيث يكون العقل والوعي حقائق من الدرجة الأولى، وتكون المادة موضوعًا لها وتكون التفاعلات المادية ثانوية.
ترتبط المادية ارتباطًا وثيقًا بـ "الفيزيائية - physicalism" - الرأي القائل بأن كل ما هو موجود هو في نهاية المطاف مادي. تطورت المادية الفلسفية من المادية مع نظريات العلوم الفيزيائية لدمج مفاهيم أكثر تعقيدًا عن المادية من مجرد مادة عادية مثل: (الزمكان والطاقات والقوى الفيزيائية والمادة المظلمة). وهكذا، يفضل البعض مصطلح "الفيزيائية - physicalism" على المادية من قبل البعض، بينما يستخدم البعض الآخر المصطلحات كما لو كانت مترادفة.
وهكذا تنتمي المادية إلى طبقة الأنطولوجيا الأحادية، وبالتالي فهي تختلف عن النظريات الأنطولوجية القائمة على الثنائية أو التعددية بالنسبة للتفسيرات الفردية للواقع والظواهر، ويمكن ربط مادتها المادية، من بعض النواحي، بمفهوم الحتمية، كما اعتنقها مفكرو التنوير.
ربما يكون أفضل فهم لوجهة النظر المادية هو معارضتها لمذاهب الجوهر غير المادي المطبقة على العقل تاريخيًا من قبل رينيه ديكارت. ومع ذلك، فإن المادية في حد ذاتها لا تقول شيئًا عن كيفية توصيف المادة المادية. في الممارسة العملية، غالبًا ما يتم استيعابها في مجموعة متنوعة من المادية الفيزيائية أو غيرها.
ننتقل الآن إلى العنصر الثاني في عبارة " الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان "؛
تنطلق الفلسفة الماديَّة في تفسير ظاهرة الإنسان من حقيقةٍ أساسيَّة، ماهيتُها أسبقيَّة الطَّبيعة على الإنسان؛ ولذلك تُحاول التركيز على جانبِه المادِّي فحسب، فالإنسان موجودٌ مادِّي متجِّسد، يُشارك غيرَه مِن المخلوقات في بعض الصِّفات، يَخْضع للقوانين الطبيعيَّة وضرورات الحياة العضويَّة، باعتباره داخلاً في منظومةٍ من الآلِيَّات والحتميَّات تَسْري على كلِّ مادِّي. منها الحاجة إلى الطَّعام والشراب، والنَّوم والتناسل، وغيرها، ولذلك -حتَّى يَسْهل رَصْدُه- لا بدَّ من الاعتماد على النَّماذج المستمَدَّة من العلوم الطبيعيَّة.
وعلى هذا الأساس تَطْرَح الفلسفة المادية مفهومَ الإنسانية الواحدةِ الكامنة في الطبيعة. حيث ترى أنَّ الإنسان جزءٌ لا يتجزَّأ من الطبيعة، خاضعٌ لقوانينها، كامنٌ فيها، ليست عنده القدرةُ على تجاوُزِها، وهذا يقتضي بالضَّرورة أنَّ كل مشكلة تواجِه الإنسان يمكن تجاوزها بالاستِناد على الواقع المادِّي، دون الرُّجوع إلى نماذج مُتجاوِزة لهذا الواقع. مِمَّا يَعني أنَّ الإنسان يُنظَر إليه في هذا الإطار على أنَّه مُساوٍ لغيره من المخلوقات مِمَّن يُشاركه وجودَه المادِّي، وهذا يثير بدوره إشكاليَّة التَّسوية، وهي من المفاهيم المتولّدة من المرجعيَّة المادية، وتَعني التَّساوِي بين كلِّ المخلوقات؛ البشَر وغيرهم، مِمَّا يَعني الاقترابَ من حالة الطبيعة، والهجوم الشَّرس على الحالة الإنسانيَّة، ويصبح عندئذٍ مقصده وهدفه التطوُّر المادي، حتَّى يصبح مادَّة مَحْضة تَخْضع لقوانين الطَّبيعة لا يَستطيع تجاوُزَها.
وفي هذا السِّياق يَبْرز مَفْهوم التَّفكيك الذي توصل له الفلسفة الماديَّة، ذلك المفهوم المُتجاوز للحقيقة البشريَّة الجامعة بين الرُّوح والمادَّة، بِما يَجعله كائنًا متميِّزًا؛ لكونه يُمارس نشاطاتٍ تَتجاوز الإطارَ الماديَّ، بل عليه كما هو الحال بالنِّسبة للقِيَم الدينيَّة والخُلقيَّة وغيرها.
الفلسفة الماديَّة، رفضَتْ فكرة الإله كشرطٍ مِن شروط الحياة، ورفضَت الإنسان نَفْسه إذا كان يعتقد المُجاوزة للنِّظام المادي، فجعلَتْ كلَّ شيء في العالَم يُرَدُّ إلى مبدأ واحد فقط، هو القوَّة الدافعة لكلِّ المخلوقات. لكونِها دائرةً في إطار التَّسوية الخلقيَّة، فيَسْتوي الإنسان بِغَيره من الكائنات، وتكون المادة هي الحاكمة للإنسان وطبيعته.
وهنا تَبْرز إشكاليَّة القيمة في هذا الإطار الفلسفيِّ الذي تَدُور معه هذه الفلسفة، ففي المنظور المادي لا وجود للإله؛ لأنَّه يتَجاوز المادَّة، وليس مَحْسوسًا، فالمَحْسوس هو الموجود، وما سواه لا وُجودَ له، المادَّة تسبق كلَّ شيء، فهِيَ تَسْبق العقل والأخلاق والتَّاريخ، وحتَّى لو التمَسْنا أخلاقًا في ظلِّ هذا النظام المادِّي، فإنَّما نقف على أخلاق تُفسَّر تفسيرًا ماديًّا، ووفقًا للقانون الطبيعي.
تبرر الفلسفة الماديَّة سعيها إلى تعميم أفكارها على اعتبار أنَّ التاريخ الإنساني يُمثِّل وحدة متجانسةً متجاوزة الخصوصيَّة الحضارية التي تتَّسِم بها كلُّ أمَّة من الأمم، وعلى هذا الأساس برزَت الدَّعوة إلى مفهوم التقدُّم بإطاره (الغربي كنموذج)، باعتباره انعكاسًا للقانون الطبيعي؛ مِمَّا يؤدِّي إلى التسليم المطلق لكلِّ ما تنتجه هذه الفلسفة مادة ومعنًى.
أما الآن وقد امتلكنا فهماً مبسطاً وأولياً لمفهوم "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان " فلننتقل إلى نقدها.
أهم ما قامت به المادية هو محاولة تعميم قوانين العلوم الطبيعيَّة على العلوم الإنسانيَّة، والتي باءت بالفشل الذَّريع برأي المعارضين لها؛ وذلك بسبب الاختلافات الجذريَّة بين الظاهرة الطبيعيَّة والظاهرة الإنسانيَّة، "إنَّ الظاهرة الطبيعيَّة عَرِيَّة عن الإرادة الحُرَّة، والوعيِ والذَّاكرة - في الظَّاهر - فلا ضمير لَها، ولا شعور، بِخلاف الظَّاهرة الإنسانيَّة، الإنسان فيها يتَّسِم بِحُريَّة الإرادة التي تتدخَّل في سَيْر الظَّواهر الإنسانيَّة، كما أنَّ الإنسان له وعيٌ يُسقِطه على ما حوله وعلى ذاته، فيُؤثِّر هذا في سُلوكِه، كما أنَّ له ذاكرةً تَجْعله يُسقِط تجاربَ الماضي على الحاضر والمستقبل، كما أنَّ نُموَّ هذه الذَّاكرة يُغيِّر من وعيه بواقعه".
وهو بِهذا يثبت عجز الفلسفة الماديَّة في قياس الظاهرة الإنسانيَّة على الظاهرة الطبيعيَّة بِمَسلك التجريب قاصدةً التَّعميم، ومِمَّا زاد الفلسفة الماديَّة فشلاً -على حد تعبير مناقضيها- في تحقيق أهدافها ومَقاصدها أنَّ القوانين التي استندَتْ عليها في العلوم الطبيعيَّة لَم تَعُد ذات قيمة مُطلَقة، فبعد أنْ كان المادِّي والطبيعي هو الذي يُدرَك بالحواسِّ، وأنَّ ما لا يُدرَك بالحواسِّ ليس بماديٍّ وليس بِمَوجود أصلاً، أضحى بعض ما في الطَّبيعة - كما يَصِفونها - لا يُمكن إدراكه بالحواسِّ كما أثبتَتْه الاكتشافات العلميَّة الجديدة، الأمر الذي أفضى إلى اضطراب الإطار المفاهيميِّ الذي تستند عليه الفلسفةُ الماديَّة، فحاولت تغييرَ مفهوم (المادِّي) بحسب المتغيِّرات الجديدة.
ويذهب أ.د عبد الوهاب المسيري في كتابه ( الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) وفي إطار نقده لها ولمفاعيلها في الحضارة الغربية الحديثة إلى حد القول:
"... ما تم إنجازه في الحضارة الغربية الحديثة هو القضاء على الشخصية التقليدية ذات الولاء لمطلَقٍ خُلُقي ثابت يتجاوز عالم المادة والتاريخ، ومن ثم فهي شخصية تعيش في ثنائيات وتعددية، وحلّت محلّها الشخصية الحركية المتغيرة والمتقلبة مع حركة المادة التي لا ولاء عندها لأية ثوابت أو مطلقات، والتي تحررت من أية قيم غائية....فتصبح شخصية نمطية تعاقدية برجماتية ذات بعد واحد، تستبطن تماماً النماذج السائدة في المجتمع، والتي تروجها الأجهزة الأمنية للمجتمع وضمن ذلك الإعلام، وهي شخصية نسبية هزيلة مهتزة لا تثق في ذاتها ولا رؤيتها ولا هويتها ولا منظوماتها...".
بقلم شادي رزق مدير تحرير قسم الإنسانيات في منصة مرداد