15 يناير . 10 دقائق قراءة . 952
كتب ميخائيل نعيمه واصفاً مشاعره وانطباعاته يوم وصوله إلى مرفأ بيروت ومنه إلى بسكنتا عائداً من الولايات المتحدة الأمريكية بعد 21 عاماً أمضاها في المهجر، كما وردت في كتابه سبعون - الجزء الثالث.
فجر التاسع من أيار سنة 1932 - ما كان أروعه فجراً في حياتي.
نحن في ميناء بيروت. الميناء يستفيق شيئاً فشيئاً على نهار جديد حافل بالحركة التي ألفها في كلّ يوم: استقبال مسافرين وتوديع مسافرين. وتفريغ بضائع وشحن بضائع. من الأرصفة تطرق مسامعي قعقعة الدواليب، ووقع سنابك الخيل، وقصف سياط الحوذيّة، ولغط السماسرة والعتالين: يا أحمد! يا مصطفى!
يا أبو زكّور! وزعقات منكرة ما سمعَت مثلها بيروت التي أبحَرْتُ منها قبل عقدين من السنين. إنّها زمّارات السيّارات.
أمامي غابة من الصواري وقد التفّت عليها الأشرعة. ومن خلفها بنايات بعضها طاعن في السنّ وبعضها في نضرة الشباب. ومن خلف البنايات ساحل أخضر، فسيح. ولكنّ عيني تقفز من فوق الصّواري، والأرصفة، والبنايات، والساحل الأخضر إلى التلال التي وراء ذلك الساحل.
لله ما أروع هذه الغلالة الشفّافة التي لفّ بها الفجر تلك التلال! فهي هنا بلون اللؤلؤ، وهناك بلون البنفسج، وهنالك بلون اللُّجَين وقد ذررت عليه شيئاً من التبر. وأروع منها هي التلال الملتفّة بها وقد تداخل بعضها في بعض، ثم راحت تتقاعس وتتمطّى أبعد فأبعد، وأعلى فأعلى، حتى بلغت نقطة بدت عندها كما لو أنّ السماء قد اتكأت عليها. تلك النقطة هي قمّة صنّين.
صنّين متّكأ السماء! إنّه أمامي!
عيناي تكادان تقفزان من وجهي. وقلبي يكاد يطير من بين ضلوعي. إنّي أودّ لو أُدرك تلك القمّة الحبيبة قبل أن تُدركها الشمس. فأتبرّك بلمس خمارها الأبيض. وأفتح صدري لأنفاسها المثلوجة، المنعشة، وأُطلّ من فوقها على الشخروب ومن فيه وما فيه، وعلى البحر عندما تتسربل أمواجه بالنُّور؛ وعلى هذه التلال المكسوّة بالصنوبر والبلّوط والسنديان، والمزارع والقرى المنثورة على أكتافها وفي أحضانها، والأخاديد العميقة المتلويّة بين جنباتها وقد أخذ اللّيل يقوّض منها خيامه.
إنّي أودّ أن أنطلق مع العصافير من وكناتها، ومع النحل من خلاياه، ومع البهائم من مرابطها وزرائبها، ومع الزحّافات من جحورها. وأَوَدّ أن أرافق هذه المخلوقات في المسالك العجيبة التي تسلكها إلى رزقها. فمسالكها، مهما تشعّبت ومهما اكتنف بعضَها من مظاهر النزاع والقسوة، تبقى بريئة، وشريفة، وطاهرة، بالنسبة إلى مسالك الآدميّين في ممالكهم ومدنهم. فما أبعدها عن قرصنة البورصة، وجشع المصانع والمتاجر والمصارف، ومكايد السياسة، وأحابيل الاستعمار، وأحقاد المذاهب، ونفاق السلطة، ورياء الظلم وقد تجلبب بجبّة العدالة، وخداع العهر وقد لبس المسوح. ثمّ ما أبعدها عن الجلبة الصاخبة التي خلَّفتُها ورائي في بابل القرن العشرين، والتي سئمَتْها نفسي وضاقت بها أُذناي.
وينتشر النُّور أبعد فأبعد، وأبهَى فأبهَى بُعيد إطلالة الشمس من فوق صنّين. فينقلب الفجر صبحًا، والصبح نهارًا. وتزداد الحركة على الباخرة، وعلى الرصيف بجانبها. حقائب، وجوازات سفر، ورجال من الأمن العام يمحّصون تلك الجوازات. وعلى السلالم مسلّمون يصعدون، ومسافرون ينزلون.
ويقترب مني بغتة رجلان وامرأة. إنّهم أخي نجيب، وخالي سليمان، وسوزان زوجة أخي نسيب الفرنسيّة.
- أنت أخي؟
- أنا أخوك.
ويضمّني نجيب ويشمّني. وأضمّه وأشمّه. فلا هو يرتوي ولا أنا أرتوي. إنّه شابّ عامر البنية، وسيم الوجه، تتدفّق العافية والرجولة من عينيه وصوته وحركاته. وهو اليوم أب لثلاثة أطفال- مي ويوسف ونديم. ولكنّني أستشعر شيئًا من الكبت في لهفته.
أمّا خالي سليمان فهو غير الخال الذي ودّعته في بيروت عام 1911. لقد هرم قبل ألأوان وبدت على وجهه وقيافته ملامح الهمّ والقلّة. وكنت أعرف أنّه قد أقفل دكّانه بعد الحرب، وأنّه قد رهن بيته في بسكنتا لابن عمّ له في مصر بمبلغ يوازي أقلّ من ربع قيمته، وأنّ البيت لم يكن بيته وحده، بل كان لوالدتي وشقيقتيها فيه نصيب أكبر من نصيبه. ولكنّهن تمنّعنن عن المطالبة به شفقة على أخيهما الذي لم يكن يشفق على نفسه فبذّر ثروته بالقمار.
وأمّا سوزان ففتاة لطيفة الملامح، رزينة الصوت والحركة؛ على عينيها نظارتان، وعلى وجهها شيء من الخجل والوجل. إنّها تبدو مرتبكة أمام هذا الرجل الغريب القادم من أميركا. فلا تعرف كيف يليق بها أن تخاطبه وأن تتصرّف معه.
وأسألها من بعد أن سلّمتُ عليها أحرّ السلام:
- وأين نسيب؟ فتجيبني بصوت خافت
- في البيت.
- أيّ بيت؟ في عاليه أم في بسكنتا
- في بسكنتا.
- ألم يتسلّم برقيّتي؟
- بلى. تسلّمها.
- ولماذا لم يأتِ معكم؟
- لأنّه منحرف الصحّة... وأسمع غصّة في صوت سوزان.
- وماذا يشكو؟
فتختنق سوزان ولا تجيب. وأذكر في الحال علّة داء الجنب التي ذاق منها نسيب ما ذاق في آخر سنيّ دراسته في جامعة نانسي. وأذكر أنّه تعافى منها تمامًا قبل أن أقدم على الزواج. ولكنّني أذكر كذلك ما قرأته وسمعته عن تلك العلّة. وفي جملته أنّ الذين يصابون بها ويتعافون منها، عليهم أن يتجنّبوا لبضع سنوات بعد ذلك جميع أنواع التفريط والإرهاق. وإلاّ تعرّضت الرّئتان لداء الصدر. وفهمت في الحال أن ذلك ما يشكوه أخي. ولعلّه لا يزال في بدايته. ولعلّه يكون من الممكن التغلب عليه. فهو داء ما عرفه من قبلُ أيٌّ من آبائنا وأجدادنا.
إنّها لصدمة عنيفة يا ميخائيل. ولكنّه لا يليق بك أن تترنّح تحتها. أفلا ذكرت حديثك مع البحر وعنه؟ إن النظام الذي يسيّر البحر يسيّرك وكلّ ما في الكون. وهو في فكرك وقلبك، وفي لحمك ودمك. وهو لا يؤذي إلا الذين يجهلونه فيعاندونه ويحاربونه. فطاوِعْه وسالمه عن رضى وعن طيبة خاطر إذا شئت ألّا يسحقك.
لقد استعجلتَ النتائج عندما ظننت أن مسؤولياتك المادّيّة نحو أهلك قد انتهت. إنّها تتجدّد وتتكاثف. وأنت ما تعوّدت الهرب. فاثبت. وتصبّر، وحذار أن يفلت منك إيمانك بالموجّه الأعظم ونظامه العادل الكامل الشامل. وإذا الذين أمامك الآن والذين ينتظرونك في بسكنتا، خارت قواهم وانهار إيمانهم، فليكن لهم من إيمانك سند وقوّة وإيمان.
انطلقنا إلى المدينة من بعد أن ودّعت رفيقي وصديقي إسكندر وتعاهدنا على أن نعود فنلتقي في سفح صنّين، وفي جوار قلعة الحصن ولو مرّة في الصيف. وفي المدينة انضمّ إلينا صهري - زوج أختي غاليه - ونفر من الأنسباء المقيمين في بيروت.
لقد تغيّرت بيروت وتبدّل الكثير من معالمها. الزواريب الضيّقة، المسقوفة، المظلمة التي عرفتُها من قبل في جوار المرفأ، والتي كان يرهقني القفز من فوق حفرها المليئة بالأقذار، والتهرّب من كلابها المنبطحة باطمئنان على الأرض، أو المتهاوشة على كسرة خبز أو عظمة. واختفت، أو كادت، العربات التي تجرّها الخيل وحلّت محلّها السيارات. إلاّ الطنابر، فقد كانت لا تزال المعوَّل الأكبر في نقل البضائع والأثقال. والأهمّ والأعجب أنّ الحجاب أخذ يتقهقر في حربه الخاسرة مع السفور.
إي. لقد تغيّرت بيروت. غيّرتها الحرب. وغيّرها الانتداب. فهي تبدو لناظري أرحب وأكبر بكثير من بيروت التي عرفتها قبل عشرين سنة. إلا أنّها، على الإجمال، لا تزال بعيدة جدّاً عمّا كنت أرجوه لها من النظافة والترتيب والهدوء والنظام. إنّها ما برحت تستلذّ الصخب، والضجيج، والمهاترات، والكلام البذيء، والمناداة بأعلى صوتها عمّا عندها من سلع ممتازة وبأبخس الأثمان. فهناك الحوانيت النظاميّة؛ والحوانيت المحمولة على العجلات، وعلى الرؤوس، وعلى الأكتاف والظهور، والحوانيت التي تحتلّ أيّ قسم شاءت من أي رصيف.
لكأنّ آذان هذه المدينة من مادّة لا تضطرب ولا تلتهب. وكأنّ عيونها من زجاج فلا تبصر الأقذار في شوارعها؛ وكأنّ أنوفها أبداً مزكومة فلا تشمّ روائح النفايات المنسربة من مثاناتها عند قاعدة هذا العمود أو ذاك من أعمدة التلغراف والكهرباء. وكأنّها معرض لأصناف البشر وأزيائهم ولغاتهم ولهجاتهم ودياناتهم. ههنا تلتقي أناقة باريس وخشونة البادية؛ وتدبّ الرِّجل الحافية إلى جانب الحذاء اللمّاع؛ وتختلط سُمرة الشرق الأدنى بصُفرة الشرق الأقصى، وبياض شمال أوروبا وأميركا بسواد إفريقيا الاستوائيّة؛ وتم العمامة بالقلنسوة، والصدر المكشوف بالوجه المحجَّب؛ ويشهد الناقوس أن المسيح ابن اللّه، والمئذنة أنّ محمّداً رسول الله، والكنيس أن موسى كليم الَّه؛ ويشهد الكلّ أن الفلس هو مفتاح السعادة في الأرض وسُلّمها إلى السماء.
أمّا الانتداب فآثاره في كل مكان: في الجنود السنغاليّين وضبّاطهم الفرنسيّين تمرّ بهم هنا وهناك؛ وفي هذه اللافتات فوق أبواب الحوانيت وقد كُتب معظمها بالفرنسيّة؛ وفي الـ"بونجور" والـ"بونسوار" والـ"مرسي" تسمعها بغير انقطاع؛ وفي أسماء الشوارع ما بين "غورو" و"ويغان" و "كليمنصو" "مدام كوري" وغيرها وغيرها. حتى لتحسب أن لبنان لم يبدأ تاريخه إلاّ سنة 1919 بعد الميلاد. فلا رجال لهم شأنهم في حياته قبل ذلك التاريخ، ولا قمم وينابيع وأنهار لها من الروعة والجمال والمنفعة ما يجعلها حَريّة بأن يتشرّف باسمها شارع من شوارع المدينة.
ولكنّ بيروت تتفجّر حيويّة واندفاعاً في سبيل اقتناص الرزق واللّذة. فهي من ذلك فيما يشبه الحمّى لا تنفكّ في ارتفاع مستمرّ. وهذه الحيويّة تعوّض إلى حدّ بعيد عمّا يلازمها من صخب وهذيان وفوضى. وعمّا ينتابها بين الحين والحين من ضيق في النفس يعزوه الجاهلون إلى ضيق في صدر عيسى ضد محمد، أو في صدر محمّد ضدّ عيسى. وعيسى ومحمّد منه براء. فالذي أنطق الواحد أنطق الآخر. وهو الذي ما برح يُنطق حتى الصخرة والشجرة والحشرة وقطرة الماء وذرّة التراب بالخير والمحبّة والجمال. ولكن لقوم يعقلون.