06 يناير . 4 دقائق قراءة . 1103
كان بمثابة دعوى لعشاء آخر السنة (سنة كانت مؤلمة حدّ الموت)
( عروس ومأدبة ) عنوان المعرض الأحدث
للفنان طلال معلّا بصالة " الف نون" بدمشق
........................................................ * غازي عانا
في تقديمه لمعرضه الأحدث (عروس ومأدبة ) بصالة " ألف نون " بدمشق يقول الفنان طلال معلا : ( إن سعي الفنانين للتجريب والبحث في أعماق الأفكار، هو سعي لتطوير الوعي المعهود من الأنماط الإبداعية واكتشاف مدى أوسع للصياغات التي يمكن عبرها قراءة تجربة إبداعية على المستوى الرؤيوي، وكأن الحوار القائم بين الفنان وما يفترضه ويحوله إلى واقع بصري ليس إلاّ هندسة للحلم والقدرات التخيلية ).
..............................
ما بين مشاركته في معرض (الذاكرة التشكيلية – دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008) وما قدمه اليوم في "عروس ومأدبة " محاولة مجتهدة من الفنان أن يشاركنا تلك الاكتشافات من أحلامه كسوري عايش معظم فصول الحرب وما تلاها من أشكال مبتكرة لحروب ما زالت تُشنّ كل يوم على هذا "الإنسان" موضوع الفنان في كل مراحل اشتغاله، نلاحظ أنه ومن أقصى حدود التجريد السابقة لأشكال الحداثة وما بعدها كزمن، انتقل الفنان طلال معلاّ ومعه كل ما يملك من أدوات المعرفة التقنية والتشكيلية إلى حيث التعبير الحداثي الأكثر إيلاماً والذي من خلاله وعبر أكثر من عشرين لوحة بمقاسات مختلفة قدم مقولته هذه المرة في الفن والحياة بطريقة مغايرة لكن ضمن نفس السياق، وإن بشكل أكثر وضوحاً في التعبير مع التزامه بالحدّ الأدنى من الإفصاح واختزال للتفاصيل، ليبقى ضمن شكل الصياغات التي ميّزته في الفترة الأخيرة، معلناً : ( إن عدم اللجوء إلى التفاصيل في العمل الفنّيّ قضيَّة ذاتيَّة لديَّ، أرى أنَّ العمل الفنّيَّ لا يعتمد على التفاصيل الصغيرة في الوجه، فهناك اللون والتقنيَّة وحركة الجسد)، وفي هذا المعرض بالذات بدأ الجسد يعلن حضوره أكثر وبكافة الوضعيات وأحرجها ليبوح بما عجز عنه الوجه سابقاً من تعبير عن الحالة الداخلية للإنسان اليوم بعد كل تلك الأشكال من الموت التي جرّبها خلال العشر سنوات الأخيرة، ليحضر كشاهد على أي مأدبة أو عرس كـ " قانا الجليل " مثلاً, أو غيرها من تلك الدعوات أو المأدبات على اختلاف شكلها وزمنها والمناسبة.
...................................
وحتى لا نغوص في الأدبيات وفلسفة المشهد كما في كل مرة على حساب القيمة التشكيلية والتعبير الذي نلاحظه يفيض من حواف اللوحة معتمداً على إبراز قيمة الغرافيك إن كان ذلك من خلال اللون أو الخط الذي يحدّد فيه ومن خياله مقاربة بصرية لطيفة لأشكاله الإنسانية أو توصيفاً لها على ما هي عليه في الحقيقة، لتحضر على تلك الهيئة من القبح كقيمة تعبيرية أو جمالية ببعدها الروحي وليس المادي، لتقريب المعنى على حساب المغنى، والتطريب في الشكل الذي عوضه باللون، مخفـّفاً من وطأة التشويه الذي أظهر كل ما بداخلنا من قبح، قسوة, وحقيقة كما هي بعريّها ومن غير مجاملة ولا تجميل للوجوه التي اعتدنا على مشاهدتها من الخارج كموديل أو نموذج في موضوع (البورتريه) عموماً عبر تاريخ الفن .
........................................
من خلال مراجعة سريعة لما قدمه الفنان طلال معلا بعد عودته من الشارقة 2011, او قبل حوالي السنة من هذا التاريخ عندما قدم آخر معارضه من سلسلة "صمت" بصالة تجليات كان التعبير عن تلك الحالة الإنسانية التي أراد إظهارها من خلال الاشتغال على الوجه كموضوع، محاولاً إيصال صوته الذي بقي على شكل صمت يستدعي الكلام، لطالما ( خير الكلام في ما قلّ ودلّ )، وبعد خمس سنوات من ذلك ومن نفس المكان أعلن عن معرضه ( انتهى زمن الصمت) 2015.
فالوجه دائماً عند طلال معلّا وإن لم يكن موضوع المعرض لكن حضوره يبقى طاغياً لإمكانية عكسه ما بداخل الشخصية ومن غير اجتهاد ولا تمحيص بالتفاصيل، وهذا ما حقّقه الفنان خلال معارضه السابقة (صمت) والتي كانت قبل فترة الحرب على سوريا، وأعمال الفنان طلال معلاّ في تلك المرحلة كانت تخفي بعض التفاصيل التي تظهر على شكل تضاريس لإيهامنا بالتجريد أكثر خدمة للقصد من استخدام الوجه الذي لا يعني شخصاً بالذات وإنما الإنسان بما تعنيه التسمية بشكل عام, فالتقنية هنا للتعويض عن تلك التفاصيل والتي هي ليست تركيزاً على شكل وإنما كنتوءات تظهر أحياناً من تنقّل الفرشاة على السطح، أو على شكل تأثيرات لطيفة لتراكم طبقات من اللون بفواصل زمنية متباينة في بعض مناطق الوجه والتي تجتمع دائماً لكثير من حيوية ودهشة المشهد المحتفي أكثر بالإنسان كشخصية أساسية وبالوجه تحديداً، حتى إذا كانت عيناه مغمضتان وهي تفيض بالتعبير والمُغرمة بالكلام.
................................
لم يستثني طلال أي لون أو اشتقاق من المنظومة اللونية إلاّ واجتهد في توظيفه من خلال لوحة أو أكثر على كامل المساحة، أو في جزء منها مولِــّفاً بينه وبين اللون الرئيسي في اللوحة، ومناغماً بين تلك التنقلات بطريقة ندّية محاولاً أن يجد علاقة توافقية بين أكثر من نقيض ومخفـّفاً في الوقت نفسه من وطأة الانتقال من درجة لونية إلى أخرى مثل الأخضر والأحمر والأزرق على نفس الكادر، كما نلاحظ مغامرة الفنان ببعض الألوان الصعبة المراس أو اشتقاقاتها كالأخضر والبنفسجي والنيلي، مع حضور طاغي للأبيض كلون وضوء في آن .
يقول الفنان : (إن لكل فنان ذاكرته البصرية الخاصة التي شكّلتها مشاهداته وخبراته السابقة، وكيان من الأعمال الفنية التي نالت إعجابه على مدار سنوات علاقته بالفن، بداية من مراحل التكوين الأولى. ).
من تلك الذاكرة المتنوعة التي حصّلها الفنان بتنقلاته داخل وخارج سوريا وأغناها بأدوات معرفة وتجريب ومغامرات وتحدّيات عديدة استطاع وبمقدرة أن يحصّل تلك الثقافة المعرفية والبصرية التي ومن خلالهما اليوم بعد تلك السنوات أن يبني تلك العلاقة مع الفن في أكثر من مجال بالتوازي مع لوحته التي هي واحدة من تلك الوسائل للتعبير عن وجهة نظره وقناعاته بالحياة، وهي اليوم "اللوحة" أو أي عمل فني لا بدّ أن يتضمن مبررات حضوره كلغة بصرية مؤثّرة، تفتح أكثر من نافذة واحتمال رؤية وتأويل فلسفي وجمالي في آن، كونها تعكس كثيراً من خيال الفنان المبدع على اختلاف اشكال ومستويات التعبير التي يعمل عليها، وبعض من أحلامه بواقع افتراضي يصعب تصوره بعد الذي حصل خلال السنتين الأخيرتين في العالم بشكل عام ومازال مستمراً على اشدّه في سوريا إلى اليوم.
في تجربة طلال معلّا وبغضّ النظر عن الموضوع أو عنوان المعرض هناك العديد من الشخصيات والوجوه في اللوحات التي دائماً كانت حول فلسفة الوجود وحياة الإنسان على هذا الكوكب، فكان يعوّض الفنان في كل مرّة عن التزيين والجماليات المعروفة للمتلقي بغنى التقنية وتأثير الألوان وحركة أو إيقاع الأجساد التي ظهرت اكثر حيوية في معرضه الحالي (عروس ومأدبة)، وكما في الذي قبله (أرى الناس) تجليات بيروت 2017، أو ما لاحظناه في لوحاته التي عكست سنوات الحرب في معرضه بتجليات 2015، فما نلاحظه اليوم استمرار شخصياته بمحاولة إيهامنا بالصمت رغم الضجيج الذي تعكسه حيوية الأصباغ والألوان ورمزيتها التي تبوح بالقيمة المضافة المُتضمَنة في التعبير عن تلك الانفعالات، أو في الرسم كأداء، وفي الحالتين هناك ضجيج داخلي نلاحظه من خلال بعض أشكال العيون البيضاء المنفتحة على الداخل والمتماهية باتجاهنا إلى درجة يمكن سماع صوتها لقناعتها من عدم جدوى الصمت بعد اليوم.
..........................................
الفنان طلال معلّا الذي تميّزت لغته بقسوة تعبيرها في اللوحة وبلاغتها في الكتابة التشكيلية وموسوعيتها في الابحاث والموضوعات الجمالية التي قدّمها في أكثر من كتاب لتشكّل بمجملها حالة متفرّدة وقيمة مضافة إلى المشهد التشكيلي العربي عموماً والسوري بخاصة، ومعرضه الأحدث "عروس ومأدبة" المقام في صالة " ألف نون" بدمشق هو بمثابة دعوى لعشاء آخر السنة (سنة كانت مؤلمة حدّ الموت)، دعوى وأمنيات من الفنان والصالة أن تكون السنة القادمة أقل وطأة وإيلاماً وتحمل بعض الأمل بحياة ما.
كان المعرض بمثابة دعوة من الفنان الذي غاب بسبب ظروف خاصة عن الحضور أن نشارك شخوصه الذين نلاحظ اجتماعهم على أكثر من مائدة، وفي كل مرة أو لوحة نشاهد عناصر جديدة ومائدة مختلفة، هذا باستثناء الطاولة وعلامات الدهشة والحيرة التي لا تغادر تلك الوجوه بسحناتها المتشابهة، وأسئلتنا المتكرّرة بشأن وسبب اجتماعها على هذا النحو في هذا المشهد او غيره، أو حال العروس البائسة التي تتنقّل من كادر إلى آخر لتظهر بحال اشدّ قبحاً وبأساً، وهكذا إلى نهاية العرس، أو المعرض الذي ضم أكثر من مأدبة وعروس، لكل واحدة حكاية تحتفظ بما خفي من اسرار وأحوال ذلك المكان والزمان المفترضين.
عندما سالت الفنان طلال معلّا قبل أيام عن قصده من وراء عنوان المعرض ( عروس و مأدبة ) لم يفاجئني جوابه المختزل والمفيد بأن : ( العروس حالة انتقال من عالم الى آخر ولحظة يفترض ان تكون باتجاه السعادة والفرح إلّا ان الواقع يمضي بها باتجاه آخر .. كل ذلك ليس بالضبط هو المعنى المقصود، إنما ما هو فوق ذلك اذ يمثل الاستخدام اللغوي حالة لتحقيق القصد البصري، فاللغة وسيط لكنه لا يحمل كل المعنى البصري.. (
يبقى الإنسان في لوحات طلال معلّا عبر مراحل تجربته الأخيرة القصد والغاية وقيمة عليا في الحياة, من حيث الاهتمام بقضاياه وأحواله وحقّ العيش بكرامة بمساحة تتسع لأحلامه المشروعة بالانتماء لوطن .
................................................
منقول