13 يناير . 1 دقيقة قراءة . 832
الفنان عبود السلمان .. الحاضر والذاكرة والاغتراب
طلال معلا
تتناول تجربة الفنان عبود السلمان في عمقها إمكانات التواصل مع جمهور الفن، وفق أسس مضى في تطويرها معتمداً على الفعل الأساسي للتواصل مع المتلقي، وذلك عبر مفردات بالغة التأثير والوضوح، وهو بذلك لايتجاوز إمكانات العقل التشكيلي في رؤية الواقع، وإنما يعتمد في صياغة هذا الواقع على مفاهيم جوانية، وعرفانية اجتماعية، يتم من خلالها صياغة الواقع العاطفي بإسلوب يصل حدود التعبيرية، التي ترى مفردات الحياة درجة أساسية للتصور الخطابي البصري، الذي يُخضع مفردات اللوحة لمنظومات نوستالجية، تصدر على هيئة صور تعين قدرات التأمل في موضوعاته، الملتصقة بكل مايثبت ارتباطه العميق بجذوره المكانية، وما ينتج عنها من ممارسات وأشكال دلالية تبدو وكأنها رموز أو إشارات لفضاء يستطرد الفنان في تحويله من واقعه الفراتي إلى واقع الاستنباط التشكيلي، وهو مايبحث عنه الفنان، وخاصة فيما نراه من مزجه الذاكرة بالحياة الشعبية، وبالفهم الحديث لما تحيل إليه خرافات وأساطير المكان. إذ يمكن أن نميز بين عالمين، عالم الحاضر والاغتراب وعالم الذاكرة، مما يخلق جدالاً ونزعة تخرج برسومه من محليتها إلى ماهو أوسع من ذلك بكثير على المستوى النفسي، من خلال علاقة الفنان بالترحال ومفهوم الاغتراب، وصلتهما بالفعل البصري الذي ينظر غالباً إلى محلية الأشكال من خلال العالم الموضوعي، الذي يكون الفنان أساسه لخلق المعاني التشكيلية والبصرية والاجتماعية، باعتبار صلتهما ببعضهما البعض تتجاوز الظواهر والمرئيات للحديث أو التعبير عن المحتوى وتطوره المعاصر.
نزوع الفنان السلمان للتركيز على محلية المفردات البصرية ينطلق أساساً من الموقف تجاه تطور مفهوم الصورة، وهو نزوع قصدي ينبجس عن وعي بكل مايحيل إليه النسق المعني بفهم العالم الحديث. وإذ يعيش الفنان فعلاً كل تفاصيل التطورات التي تقتحم عالم الفنون، فإنه يلجأ إلى الأنموذج المدمر للاغتراب، وذلك بنزوع بنيوي يعوض عن فقدان المعنى، وفقدان الاختيار الجمالي والتأملي. فالفن بالنسبة إليه فعل اجتماعي وتواصلي، وهما صيغتان بمنزلة الدلالة التجريبية مقابل الدلالة السياقية، التي يمكن أن نستعرض من خلالها تجربته التي التصقت بإثبات الذات والمعنى كتمرين روحي يعتمد على الوعي الإيمائي للأشكال، التي يمكن اعتبارها رموزاً لحكايات تفاعلية تربط الفنان بعالمه الذاتي من جهة، ومن جهة أخرى بمفردات المكان والبشر، وكل مايمكن أن نطلق عليه الجذور المقدسة المتضمنة معايير الإيحاء بالبناء التفكري، والإفصاح عن علاقة الفنان مع ذاته وهويته عبر خيال تضامني يتم عبره إعادة إنتاج الحياة صورياً لا وظيفياً، بإبراز القيمة المعرفية والثقافية والاجتماعية، إلى جانب القيمة الجمالية باعتبارها إحدى أهم وسائط التحكم التي تعتمد على خصوصية المكان وثقافته، وخبرات أهله العابرة للحضارات التي تعاقبت على المنطقة منذ بدء التاريخ، والتي جعلت منه مستودعاً للثقافات المتميزة، بكل ماتحتويه من إرث وآثار وسرديات، وقوى ثقافية تربط بين محليتها وعالميتها بآن معاً ( ميزوبوتاميا ).
إنه مايجعل المكان منفذاً تشكيلياً وبصرياً ومولداً إبداعياً يمنحه الكثير من التمايز الثقافي، وليس غريباً أن ينتمي الفنان عبود السلمان إلى المكان الذي أبدع أقدم فنون التصوير وتقنياتها على مستوى العالم، والذي تعج متاحف العالم باللقى الأثرية والرسوم الجدارية التي أنجزت في موقع (دورا أوروبوس) وصالحية الفرات وسواها من مواقع المنطقة التي شكلت المحتوى المعرفي الإنساني، والتراث التاريخي البالغ الأهمية البصرية. ولعل تجربة الفنان السلمان تعتمد على استثمار تلك القيم المحسوسة والمعنوية، وكل مايشكل خلفية للحدوثات البصرية التي تؤكد فكرة الامتداد الإبداعي الفني لأجيال في المنطقة، بكل مايعكس هذا الامتداد من علامات اجتماعية تشكل لغة هي الوسيط لحفظ العمليات الثقافية والمعرفية، وإعادة تدوير المنتج الإبداعي على مر الزمن، ومن ذلك ماينتجه الفنان السلمان في محاولاته لاستكشاف الأحلام وفق الظروف التي عاشها ويعيشها اليوم، والتي تدفعه للتحديث كل مرة، ليس بالتكرار، وإنما بالتنظيم المتجدد للخيال والموضوعات والمعاني ورؤية الواقع، وكذلك عبر فهمه الخاص للتراث الثقافي وتقديره له باعتباره ذا طبيعة مواقفية بالغة الأهمية ، بالإضافة لكونه محتوى لابد من معرفته وتوثيقه واحترامه والتمتع به كجوهر جاذب للأبعاد الإنسانية وتنمية القدرات الجمالية.
لاشك أن أعمال الفنان تبرز للمشاهد البيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية، وكذلك مجال الفنان الإبداعي وتطوره، ومختلف المظاهر الثقافية التي أثرت على تجربته من خلال تنقله وترحاله في العديد من المناطق والدول شرقاً وغرباً، وكذلك عمق معرفته بتاريخ الفن ونقده، وكل ماتكشف عنه تجربته ومساهماته في الفعاليات الفنية التي كان يختبر فيها قضايا استشعار السبل الأدائية للعمل الفني، مع التأكيد على المضمون أو المعنى وصلته بالبعد الزمني، كونه على صلة باستقبال العمل الفني في سياقه الحالي المتميز دائماً بالأبعاد المحلية المعززة للمعاني، والتي تضبط مهارات الفنان وقدرته على التعامل مع الأحكام الجمالية للمتلقي، والمشاركة بالنتيجة في هوية العمل عبر البصر، بصر الفنان وبصر المتلقي، دون أن يكون التركيز كما هو عادة على مايمكن التعرف عليه في المظهر الخارجي للوحة، سواء عبر الأشكال أو المواد المستخدمة، إذ لايعدو جسد اللوحة أن يكون إلا حامل أسرارها، أو أن يكون المادة التي تخفي الروح الحقيقية للصورة، في سياق المعاني التي يطرحها الفنان، والتي تجمع بين الذاكرة والأصالة.
24 أغسطس . 3 دقائق قراءة