17 يناير . 4 دقائق قراءة . 742
الحياة التشكيلية مليئة بالأوصياء الذين يحاربون الجمال
الفنان التشكيلي السوري عبود سلمان.
من دمشق ـ ابراهيم حاج عبدي(جريدة المدى /دمشق )
خرج من طمي الفرات، من رائحة الغبار والتيه والتعب، من منطقة مليئة بسعف النخيل، والوحول والمياه الطاهرة، من حكايا العجائز، وشموخ الخيام ، ونقوش البسط . . . فراح يصوغ هذه المفردات قصيدة ملونة حنونة مرصعة بلغة الفرات وبساطة أهله، يجد لها متنفسا في لوحة حزينة، هشة تسعى إلى تكريس خصوصية، هي خصوصية التفرد والأرض البكر المفعمة بتفاصيل تكاد تتلاشى في متاهة هذه الحياة.
عبود سلمان فنان وناقد تشكيلي سوري، ولد في مدينة الميادين على ضفاف الفرات ( دير الزور)، حائز على دبلوم التربية الفنية، درّس مادة الرسم في مدارس مدينته، ثم انتقل إلى السعودية ليتابع التدريس هناك ويكتب كذلك النقد التشكيلي في صحافتها.
أصدر ثلاثة كتب في النقد التشكيلي هي ( شخوص مدينة العجاج ) 1999، و (البذور والجذور) 2003، و ( ألفة الأمكنة ) 2004 ،فاز بجائزة النقد التشكيلي على مستوى الوطن العربي التي نظمتها مجلة (الصدى) الإماراتية 2003
أقام عدة معارض فردية في مختلف المدن السورية، وكذلك في بيروت، وباريس، وروما، كما شارك في عدة معارض جماعية في السعودية ومصر وسوريا حيث شارك مع مجموعة الفنانين التشكيليين العرب في معرض أقيم مؤخرا في دمشق تحت مسمى (عيون الأحبة)، خلال وجوده في دمشق أثناء هذا المعرض الجماعي كان لنا معه هذا
الحوار:
*كيف بدأ تعلقك باللون، ولم اخترت اللوحة وسيلة لمخاطبة المتلقي ؟
- بدأ شغفي باللون من البيئة البدوية التي وجدت نفسي فيها، من طمي نهر الفرات، وزرقة مياهه، عانقت التربة وأنا طفل صغير، طفولتي شهدت ولادتها وحل النهر وأغنام القرية التي كنت أرعاها، وعندما كبرت بقي الحنين إلى تفاصيل الطفولة تلك إلى الزهور و العناصر المتعلقة بالطبيعة في بلدة ميادين بلدتي التي هي عشقي الدائم، هي مفردة لوحتي سواء رسمتها كامرأة أو كنخلة أو كبيت طيني قديم أو كلون اخضر مغسول بماء الفرات .
أخذت دروسي الأولى من تلك التفاصيل الحنونة والقاسية قسوة الطبيعة المحيطة مليئة بالتفاصيل وهذه القسوة المرتبطة بطبيعة المجتمع الشرقي المتمثلة في الغبار و ألوان الزوابع و العجاج و التربة الصفراء واللوحة لدي عاشت زركشة هذه الألوان وزخرفتها وضجيجها والسبب يعود إلى عدة أشياء منها السدو أو البساط التقليدي، فأمي بدوية كانت تنسج البسط في بيت الشعر وكنت أرى ذلك على الجدار أو المكحلة أو الابر في تفاصيل الحياة، هذه التفاصيل البسيطة هي التي اصطدمت بالعين عيني أنا كفنان أو كانسان قبل أن أحولها إلى اللوحة بأي تقنية كانت فاللون جاء بشكل طبيعي لأنه اصطبغ بشكل طبيعي مع الذات العاشقة لهذا الجمال
*هل اللوحة بصمتها وهشاشتها قادرة على مجابهة هذا المجتمع الاستهلاكي الذي تصفه، وعلى تكريس قيم الخير والجمال؟
- هذا سؤال معقد وله أكثر من جواب مع ذلك أقول بان اللوحة بإمكانها أن تقاوم ولكن لن تتحول إلى بندقية، كما إننا يجب ألا ننسى بان هناك من يقف ضد الجمال ضد رؤى الكادحين والبسطاء والفنانين الحقيقيين الذين قد يجدون في حركة نملة أو تحليق عصفور جمالا و حالة وجدانية جديرة بان تصبح جزءاً من فن جميل. اللوحة تقاوم عندما تمتلك لغة المقاومة وهي لدى الفنان الموهبة والإبداع، لكن للأسف عدد هائل من الفنانيين على كل الصعد، ليس فقط الفن التشكيلي، جاءوا بولادة قيصرية: كان لديهم استعداد للتطفل، فامتلأت الحياة التشكيلية بالأوصياء عبر المؤسسات الرسمية والمحافل الدولية والمعارض و غيرها من المناسبات التشكيلية الذين جيروا العمل لصالح شيء تافه غير جميل خالٍ من الروح .
هذا الواقع جعل الفنان المكرس رسميا عاجزاً عن لغة المقاومة، بيد أن الفنان الحقيقي يمتلك لغة المقاومة فهي لغة بسيطة جدا لغة الصدق في اللوحة، والذي يكتب قصيدة لا يحتاج إلى أسلحة دمار شامل بل يحتاج إلى روح جميلة تقدر الجمال والمشاعر لكن المشكلة أن أصوات هؤلاء خافتة تطغى عليها لغة الأوصياء الذين لا يمتلكون تلك الروح وتلك البساطة التي تمنح اللوحة روعتها، انهم أعداء الجمال وبالتالي هم أعداء الفن الحقيقي الصادق.
*إزاء ذلك ما رأيك بالنقد التشكيلي الذي يكتب في الصحف والدوريات، لماذا لا يؤدي دورا في محاربة هذا الواقع المجحف بحق الفن الحقيقي؟
- مع انني اكتب النقد، لكنني لست ناقدا، أنا رسام، وهذا الإحساس بدأ حين كنت معزولا في حضن الطبيعة وجمالها بعيدا عن تلوث المعرفة لان المعرفة لها ملوثاتها، لدي إحساس بأن الفلاح والعامل البسيط مبدع، ولكن قيم المجتمع التي تفرض الحالة هي التي تقيد هذه التفاصيل مما يجعل الإنسان المبدع في حالة من الفراغ أشبه بالمسخ والجمال ضد المسخ، والنقد التشكيلي في الصحافة لم يخدم الفن التشكيلي الحقيقي، وإن خدم ففي مساحة ضيقة، لان هذا النقد مكرس لبعض المدعومين والرسميين والأوصياء، لذلك لا تجد حيزاً نقدياً تشكيلياً ايجابياً، فالنقاد التشكيليون لا يمتلكون أقلاماً نزيهة بل يرتزقون من هذه الأقلام، العملية فيها ارتزاق والتكسب على جهد المبدع وهذه الرداءة شائعة في مختلف المجالات، في التشكيل، والمسرح، والسينما، والأدب، والرقص. أنا احترم بعض التجارب النقدية الصادقة وهي قليلة أما النقد السائد فهو الذي يبالغ في مدح هذا و في ذم ذاك ودائما يأتي المعيار النقدي للتقييم في السلم الأخير من الأولويات، ثمة طريقة عجيبة في التقييم فقد يهمل اسمك لأنك بدوي، ملفع بالغبار، غير معتق بالعلاقات الاجتماعية و(البرستيج)، وجاهل بمفردات عالم المال.
*كيف يوفق عبود سلمان بين مخزونه البصري المليء بالألوان القاتمة، وعناصر البيئة القاسية وبين ما تتطلبه أذواق المجتمع المخملي واللعبة التجارية؟
- بسبب هذه القضية وهذا الوجع أنا موجود في الربع الخالي. وجودي في السعودية اسميه وجودا في الربع الخالي بالمعنى المجازة، صحراء مترامية الأطراف بلا حياة، فتتخيل أصحاب الصالات الخاصة ومن في يدهم اللعبة التجارية ومساومات السوق، وكيف يخضعون مشاعرك الإنسانية لهذه المقاييس.بسبب هذه القضية أنا مبعد عن لغة القرار أو لغة العرض في مناسبات ذات طقس احتفالي مبارك من قبل تجار اللوحة لأنك في لوحتك خارج عن أي سلطة، سلطة الأسماء المكرسة ولا تخضع سوى لسلطة الجمال، وهذه تولد نوعا من القلق، وهي حالة صحية تغني التجربة ،وتتمخض عن خصوصية، برز اسم فان كوخ في تاريخ التشكيل، كأحد أهم الملونين العالميين، لأنه لم يكن ربيب الصالات والمدارس وخرج عن إطار التقليد والتكرار.
السلطة أحيانا تبعدك عن لغة القرار وتقيدك في زنزانة، في صحراء، في عمل وظيفي رتيب يسقطك في الركض وراء لقمة العيش، أنا اعرف الكثير من المبدعين السوريين يعانون من ذلك ويحافظون على روحهم الجميلة.
*نستطيع أن نصفك، إذاً، بانك بدوي تقول (لا) في هذا الزمن الصعب ؟
- أنا قلت (لا) كثيرا ولكن لا أستطيع أن اصف نفسي، وأتذكر أن فاتح المدرس وصفني بـ (الذئب الآسيوي) فكان يلامس أوجاعاً كثيرة فتضاريس وجهي توحي باني هندي أو باكستاني الآن هذه التفاصيل مشذبة، ولكن في داخلي ما زالت مسالة الرفض قائمة، مااستنتجته أنت لا يبتعد كثيرا عن شخصيتي ويعجبني ما قاله ألبير كامو (أنت في وحدتك بلد مزدحم)، عندما يغيب المتلقي والمستمع الآخر الذي يحترم وجودك بغض النظر عن لونك و بشرتك ومنطقتك وجنسك ولغتك وملامح وجهك فانت بخير و لكن يتم التهميش نتيجة ظرف ما نتيجة قرار موظف رسمي غارق في الروتين والبيروقراطية وحماية مكاسب شخصية عندها لا يتم تصنيفك تحت أي مسمى، ولا يمكن عندئذ أن تصف العالم بأنه جميل فالألم كبير جدا لكن في داخلي بعض الفرح الملون الذي انقله الى لوحة صامتة لعلها تشكل بعض العزاء.
نقلا من الانترنت عن منشورات دار المدى بدمشق
20 أكتوبر . 0 دقيقة قراءة