26 يناير . 6 دقائق قراءة . 720
كي تعرف الله، يجب أن تتوجّه إليه مثل غريق في اليمّ لم يبق له غيره لينجو. هذا ما يقال عادة للمريدين السّالكين طريق معرفة خالقهم، وهذا أيضا هو منهج جمعيّة "المدمنين المجهولين" المشهورة Alcoholics Anonymous. فالمدمن، حسب الكتاب الكبير – كتاب المدمنين المجهولين – هو إنسان فقد السيطرة تماما على إرادته، ولا يستطيع التحكّم في كميّة الخمر الذي يحتسيه، ولم يبق له إلّا أن يموت ميتة مدمن في حالة من الانحطاط، أو أن يعيش حياته بطريقة روحيّة، لانّ المستشفيات ومنتجعات النقاهة ليست ناجعة على المدى المتوسّط أو الطويل، حسب تجربة المدمنين السابقين وشهادات بعض الأطباء المذكورة. الكتاب الكبير مكتوب بضمير الجمع المتكلّم، وهو شهادة مدمنين سابقين نجوا بفضل منهج "المدمنين المجهولين" وقرّروا أن يمرّروا تجربتهم إلى غيرهم.
ضرورة اعتماد المدمن الذي يبحث عن خلاصه على اللّه
يفسّر الكتاب الكبير ضرورة اعتماد المدمن الذي يبحث عن خلاصه على اللّه. فهذا المدمن الذي فقد تماما قدرته على التحكّم في شرابه، ليس له أيّ أمل في النجاة إذا ما توكّل على عزيمته.
إنّه شخص يظنّ عادة أنّه يستطيع التوقّف عن الشّراب إذا ما أراد، لكنّ الأيام تظلّ تثبت له عكس ذلك، ويبقى هو مهوسا بقدرته على التحكّم في كميّة ما يشرب، ويتوهّم أنّه على شاكلة عامّة الناس، في حين أنّ أقلّ كميّة يحتسيها من المشروبات الكحوليّة تجعله يعود مجدّدا إلى إدمانه. لكنّ أيّ مدمن حقيقيّ يقرأ مثل هذا الكلام، سيعارض انطباقه عليه ويخال نفسه استثناء، إلى أن يسوء حاله ويتدنّى إلى أرذل الدرجات.
عندئذ، قد يقبل بأنّه ليس بوسع إرادته الشخصيّة أو أيّ إرادة إنسانيّة أخرى أن توفّر له حلولا، وأنّ قوّة عليا فقط هي القادرة على تخليصه. فيتوجّه إلى اللّه، كما يطيب له أن يفهم هذه الكلمة، ويضع حياته وإرادته بين يدي اللّه.
ماذا يعني أن يضع المدمن حياته وإرادته بين يدي اللّه؟
ذلك يتطلّب حسب الكتاب الكبير أن يعترف المدمن أوّلا أنّ الحياة التي تُدارُ بالاعتماد على الإرادة الذاتيّة، لا يمكن أن تكون ناجحة، لأنّ الإنسان في هذا النوع من الحياة يرتطم دوما بشيء ما أو بشخص ما يعرقلانه، حتّى لو كانت نواياه طيّبة.
أغلب الناس يحاولون أن يعيشوا معتمدين على قوّة الدفع الذاتيّ. يتصرّف كلّ شخص في الحياة وكأنّه ممثّل يريد في نفس الوقت أن يدير العرض بأكمله: الأضواء، والديكور ولوحة الرقص والممثّلين الآخرين. وإذا لم تتمّ الأمور على حسب هواه، ازداد تشبّثا بما يريد، وربّما صار أكثر تهجّما أو أكثر لطفا كي يحصل على مبتغاه، وإن لم يقدر فسيتّهم الحياة بأنّها تعامله بقسوة. إنّه في النهاية شخص مهتمّ بمآربه الشخصيّة حتّى ولو أبدى لطفا كبيرا. لذلك، فإنّ الخلاص يكون بالتخلّي عن الأنانيّة والنرجسيّة، وليس من محرِّرٍ للمرء من نفسه سوى اللّه.
عندما يتخلّى الإنسان عن نفسه، فإنّه يكفّ عن التصرّف كإله ويتّخذ اللّه كمُخرِج لدراما الحياة. يقول الكتاب الكبير: "(الله) هو الممثّل البطل، ونحن لسنا سوى وُكلائه. هو الأب ونحن أبناؤه. (...) لقد اتّخذنا مديرا جديدا، يوفّر لنا ما نحتاجه، إذا ما بقينا قريبين منه وأتممنا عمله."
إنّ منهج المدمنين المجهولين يقتضي أن يسلّم المدمن إرادته الشخصيّة إلى اللّه وأن يصبح في خدمة الإرادة الإلهية كما تتجلّى من خلال شخصه. ليس ذلك مختلفا عن النّاي الذي يستهلّ به جلال الدين الرومي كتاب المثنوي، فتلك الآلة الموسيقيّة من القصب الذي أُفرغ وصُقل قبل أن يتمكّن العازف من أن ينفخ فيها فتصدر عنها أجمل الألحان، ترمز إلى الإنسان الكامل الذي أُفْرِغَ من النفس وصُقِل بامتحانات الحياة، قبل أن يتمكّن الله من أن يُمرّر منه مشيئته. ذلك هو أيضا منهج جميع الطرق الصوفيّة والهندوسيّة والروحانيّة لمعرفة اللّه: التخلّص من الأنا حتّى الوصول إلى لحظة الإشراق. فما هي خصوصيّة المنهج الروحانيّ الذي تعتمده جمعيّة "المدمنين المجهولين"؟
خصوصيّة روحانيّة منهج "المدمنين المجهولين"
إنّ ما يجعل المنهج الروحانيّ للمدمنين المجهولين خاصّا، هو أنّ تخلّي المريد المدمن عن أناه ليس أحد خيارات الحياة، بل هو ضرورة قصوى لشخص لم يبق له إلّا ذلك كطوقٍ للنّجاة. إنّها مسألة حياة أو موت، فالمدمن الذي يتوجّه إلى تلك الجمعيّة يكون في العادة قد جرّب كلّ السبل الأخرى التي لم تنجح، وترك علاج المدمنين المجهولين كملاذ أخير، لأنّه يتطلّب تحويرا جذريّا في طريقة العيش.
فطريقة علاج جمعيّة "المدمنين المجهولين" تقوم على طريقة في العيش مختلفة عن السّائد، وتدخل المحبّة وخدمة الغير ونبذ الأنانيّة على كلّ لحظة من لحظات الحياة، وهي ليست بعيدة في ذلك عن آداب الطرق الصوفيّة وتعاليمها. وتتلخّص في اثنتي عشر نقطة، تحوم الثلاثة الأولى منها حول ما ذكرنا سابقا من اعتراف المدمن بحدود إرادته الشخصيّة، وضرورة توكّله التّام على اللّه واستقاء أهدافه ومسيرته في الحياة ممّا ييسّره له اللّه.
أمّا النقاط التسع المتبقّية فتتمثّل في أن يقوم المدمن التّائب بجرد أخلاقي لنفسه، وأن يعترف بأخطائه، وأن يعوّل على اللّه كي يزيل له عيوبه، وأن يضع قائمة بجميع الأشخاص الذين ألحق بهم الأذى، ويصبح على استعداد لتعويضهم جميعًا، وأن يواصل الجرد الشخصي لأخطائه طول الوقت، وأن يسعى من خلال الصلاة والتأمل إلى تحسين تواصله الواعي مع الله كما يفهمه، ويصلّي فقط من أجل معرفة مشيئة اللّه من أجله والقدرة على تنفيذ ذلك، وأن يحاول نقل هذه الرسالة إلى مدمني الكحول من خلال اجتماعات دوريّة للجمعيّة، وأن يمارس هذه المبادئ في جميع شؤونه.
المدمنون المجهولون في العالم العربي
لقد أنقذت جمعيّة "المدمنين المجهولين" بهذا المنهج الآلاف من مدمني الكحول عبر العالم، متابعة تطوّرهم وتحسّنهم عبر اجتماعات تنتظم بطريقة دوريّة ويقدّم فيها المدمنون النصح والمساعدة لبعضهم البعض. ورغم أهميّة ما تقدّمه الجمعيّة المنتشرة في جميع ربوع العالم، فهي لا توجد في العالم العربي إلّا في ومصر ولبنان وعمان والإمارات العربية المتحدة، في حين أنّ انتشار الأمراض النفسية بعد الثورات العربية وارتفاع معدّل استعمال الكحول والمخدّرات في تونس مثلا يجعل من فتح فرع لمثل هذه الجمعيّة، أمرا ملحّا.