16 مارس . 8 دقائق قراءة . 744
لطالما كان يوم الثلاثاء ليس كباقي أيام الأسبوع، بالطبع بالنسبة للموظف الذي يصحو في كل يوم وهو يجرّ جسده ويقنع عقله بضرورة النهوض لامحالة، ويخبر أفكاره أننا قطعنا نصف الأسبوع وبقي يومين ليأتي يوما العطلة، وهو يعلم أنه مازال هناك ثلاثة أيام مع الثلاثاء. غريبة هي آليات الاقناع التي يمارسها الإنسان المقهور على نفسه ومعها، وكل هذا في سبيل أن يمرر الأيام الرتيبة، مع همومها المتكاثرة، وما يدور يومياً من أحاديث حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما يتناهى إلى المسامع من قصص عن أشخاص وأفعال وممارسات بسبب تردي الواقع.
فكل ما يشغل البال منذ لحظة إغلاق باب المنزل خروجاً، هو لحظة سماع صوت إغلاق الباب عند العودة، وإعلان انتهاء الهروب من هذا اليوم، للحصول على وجبة ساخنة والتخلص من الملابس الرسمية واستبدالها بتفريعة البيت.
أما عند سامح لا تنتهي القصة هنا، بل تبدأ، فبعد أن يحظى بساعة من الراحة بعد عودته، يذهب إلى طاولته القديمة مع كومبيوتره، ويشعل هذه الآلة ومعها يستنهض أحداث وحوارات ومواقف يومه ويستلهم من تلك المشاهدات قصة جديدة.
بماذا يفيده؟ أخبرني أنه يستعمل الكتابة كأداة للتفريغ والتخلص من هذه القباحات التي يتعرّض لها، والتي بدورها لا تتناسب مطلقاً مع شخصيته وأفكاره وتربيته، ومع مرور الوقت اكتشف أنه موهوب بكتابة القصص القصيرة، والتي تحمل عبرة أو دعوة أخلاقية أو قيمية، كردّة فعل برأيه على ما وصل إليه المجتمع.
كيف عرفت هذا؟ غير أننا أصدقاء طبعاً، اتصلت به ظهر الثلاثاء وسألته إن كان يودّ استقبالي مساء على فنجان قهوة مصحوب بأحاديث خفيفة. في البداية شعرت بتردده، ثم أردف خَجِلاً، أهلاً بكَ سنكون بانتظارك في السابعة.
وكحاله دوماً، يفتح الباب ويستقبل زائريه وكأن نبيّاً يدخل إليه، لطيفاً، مبتسماً، مرحباً بكل ما يعرفه من عبارات الاستضافة، متناسياً حمل يومه الطويل.
أصرّ أن أجلس في صدر الغرفة، وهو ما يحب أن يفعله مع الجميع ضيوفاً ومقربين على حد سواء، وأخذ هو موقعه، على كرسيّه في زاويته المفضلة، والتي لا يجرأ أحد من معارفه على الدنو منها أو الجلوس عليها، ويسبقونه دوماً ممازحين، وزّع الأماكن علينا، كي تحتفظ بمقعدك، فأنت ببيتك، وينتهي الموقف بضحكات من الجميع.
لكنه اليوم بدا أقل نشاطاً عن المعتاد، قلت له مازحاً ما بكَ يا سامح هل عليك حرارة؟ هل أنت مريض؟
كيف لا أمرض يا طارق، كم من عام لنا أصدقاء؟ سأجيبك، أكثر من خمسة عشر عاماً، كم مرة التقينا؟ آلاف المرات، صحيح؟ ألم نتفق أننا سنجهد ما استطعنا ألا نسيء لأحد عامةً، وفي غيابه خاصةً؟
نعم، قد تعاهدنا على هذا منذ أمد بعيد، لكن ماذا هناك؟ ما الذي قد حصل اليوم؟
كالعادة، وصلت إلى مكتبي قبل عشر دقائق عن موعد بدء الدوام الرسمي، كي أعدّ قهوتي وأباشر العمل. بدأ الموظفون بالتوافد، وها هم يمرّون لإلقاء التحية، وتبادل أخبار بعضهم البعض. ما بالك كان عنوان هذا اليوم باختصار؟
ما عساه أن يكون؟ غلاء المعيشة، الحرب الروسية الأوكرانية وتحليلات سياسية، ضربة إسرائيلية جديدة، ارتفاع الذهب والدولار وفقدان سلع من السوق المحلية، لا لا بالتأكيد التذمر من انقطاع الكهرباء، وتصريحات المسؤولين.
اهدأ يا طارق، لماذا فجأة اشتغل الراديو في فمك. كلا، ولا احتمال من كل ذاك. ببساطة لما كان أزعجني لهذا الحد، فقد تعوّدنا. "التشويه" هو العنوان، أجل يا صديقي، كل الأخبار هي ذم وإساءة من شخص إلى آخر غير موجود. وما أن يصل ليصيرا حبيبين، ما هذا يا رجل!!! ما رأيك، بشرفك يا طارق؟ ما حال الناس، أوف.
قاطعت المشهد زوجته اللطيفة والمثقفة، حاملة القهوة مع الحلوى، رحّبت بي، ووضعت ضيافتها إلى جانبي، تنهدت وقالت، هل لك يا طارق أن تمتص غضبه كما تفعل عادة؟ هل سوف تساعدكما رائحة القهوة؟
طارق: بالتأكيد، لهذا السبب أصريّت على المجيء اليوم، كي أخفف عنه ثقل منتصف الأسبوع، فما قولك يا سامح أن نقارب الموضوع كما نفعل، ونتكلم عنه كظاهرة بعيداً عن الأشخاص، كي لا نتهور إلى حالتهم؟
فبحسب رأيي: التشويه الذي تكلمت عنه، له مصدرين، خارجي وداخلي. وهما متداخلان في كثير من الأحيان.
سامح مقاطعاً، لكن المبدأ في الأصل هو داخلي، كما أظن. وأيضاً قد يكون مقصوداً أو غير مقصود.
طارق: صحيح كلاهما سيء، ولكن كما قلت الأسوأ هو ذاك المتعمّد، والذي يظهر غالباً من الشخص الذي يشعر ويظن أنه ضحية، ويبدأ يكتسي ملابس نفسية وأفعال تتماهى مع عقلية الضحية والتي توحي بالكثير من البراءة والغبن، هذا يساعده لاستمالة عطف الآخرين وتثبيت الثقة.
سامح: ولكن قد يبدو أيضاً من أشخاص عن طريق القصد بهدف الإيذاء والتضليل لمآرب ذاتية. ودوماً تكون النتيجة على المستويين الضيق والواسع ذاتها، هي اتساع انتشار ظاهرة التشويه، مما ينتج عنه مخرجات يمكن تلمّس الكثير من منعكساتها في العلاقات الاجتماعية. وحكماً على أداء الفرد مع ما تحمله هذه الأفكار من تعديلات على منظومته الفكرية والعقلية وقدرته على إصدار الأحكام على المواقف والأشخاص.
طارق: أوافقك جداً، لا يخفى عن أحد أننا اليوم محاطين ومغلّفين بعصر (الصورة)، فبتنا كثيراً نعلّق حكمنا المسبق على الصورة أو الشكل الأولي، وهذا ما تكرّسه أدوات التواصل ومدارسه وأشكال التسويق.
سامح: مما جعلنا أكثر هشاشة عقلياً وأكثر انفعالاً عاطفياً، ونتحول تباعاً إلى شركاء في تشويه الصور القريبة الصغيرة أو الطبيعية أو الكونية والوجودية، وبالتالي نستصعب رؤية الجمال في أي شيء، بسبب القلق المتفشي بداخلنا والخوف الذي يغشى على أفكارنا وأفعالنا، وبدوره ينقلب على ردود أفعالنا وتصرفاتنا، ونسأل ونتساءل دوماً بأحاديثنا لماذا الأجواء آلت هكذا؟ الحري بنا أن نفكر إلى أي حد نحن شركاء بهذا التلوث بالطقس الاجتماعي والنفسي!
طارق: السؤال الآن، كيف نحدُّ من انتشار ظاهرة التصحر الاجتماعي (التشويه)؟
سامح: أعتقد بأنه لمن يريد ويسعى، نحن أمام أمرين
طارق: اسمح لي، قبل أي شيء لابد من الإقرار بوجود هذه الظاهرة والتصريح ببشاعتها.
سامح: بالضبط، ثم يأتي الأمر الأول، وهو القرار على المستوى الشخصي بألا أكون شريكاً. أي على الأقل أن ألاحظ كلامي وأفعالي. وما الذي أبثّه عبر أثيري الشخصي. ومع من ولمن أتلكم.
وأما الثاني، هو حائط الدفاع الذي عليّ تشييده في مواجهة التصدي لما أسمع وأرى وأعرف. عبر تصميم قبّة داخلية قادرة على التكيّف مع المعطيات الخارجية وطريقة معالجتها أثناء التلقي ومرحلة ما بعد التلقي. ووضع سد لما أريد أخذه منها وما أطرحه خارجاً.
طارق: وأخيراً دعني أضيف أنا أيضا أمرين، أولهما مبدأ السريّة، احتفظ بأسرارك، واحرص على ألا تشارك ما تسمعه من الناس إن كان سراً أم لا.
والثاني ربما يتعهده أحد مراكز الأبحاث والدراسات الاجتماعية والإعلانية، بإنشاء حملة مجتمعية تنشر الإيجابية.
سامح: وعلى هذا النحو يتحقق البعدين أو الجناحين، الوقائي والعلاجي، ومن الممكن مع وقت لا بأس به أن تتراجع سلطة التشويه وسطوته علينا بشكل مباشر وغير مباشر.
ويكون بهذا الشكل قد حان موعد العشاء، يا طارق.
كلا، شكراً يكفي لليوم، عليَّ العودة للمنزل، والنوم كفاية، لمواجهة باب المنزل صباحاً. دمت بخير
شكراً لزيارتك، وعلى الرحب والسعة.