21 مارس . 3 دقائق قراءة . 985
عن حظر الثقافة الدواء في زمن الحرب الوباء :
١- أفهم جيدا أن يهاجَم بوتين وسياسته ويناصب العداء، من الصعب بالمقابل فهم الحملة الاعلامية الثقافية لشيطنة روسيا إلا على أنها من علامات الجنون الثقافي. تمنع هنا حفلة لتشايكوفسكي، وهناك مقرر عن دوستويفسكي، ولكن كيف يمكن أن تدرّس الرواية بدون دوستويفسكي أو القصة بدون تشيخوف، وكيف يمكن فصل موسيقا تشايكوفسكي ورحمانينوف وكورساكوف عن الموسيقا الغربية والعالمية، قد يجادل احدهم في انتماء روسيا السياسي والاقتصادي للفضاء الغربي الأوروبي، أما ثقافيا فسلخ الانتاج الثقافي الروسي عن الغربي، هو أشبه بمن ينتزع كبده من جسده .
٢- لا بل يمكنني أن أضيف من زاوية رؤية شخصية، أن للأدب الروسي نكهة مضافة لا نتذوقها بسهولة في مكان آخر، صحيح أن الرواية في أوروبا برعت في السرد والحبكة و نفاذ البصيرة ، ولكن الانحياز الايجابي للإنسان بشموله، الحساسية العالية للانسان المهمش والتعاطف معه ، الايمان بوجود بعد روحي عميق لدى الإنسان وفيه خلاصه لم اجده بسهولة في الأدب الغربي مفصولا عن الروسي الا عند فيكتور هوغو، قد اجد وصفا دقيقا إلا أنه بارد عند بلزاك، قد أتفاعل مع مأساة رومانسية متأججة عندما اقرأ آلام فرتر لغوته أو جين آير، قد أنجذب لرؤية روحية صوفية فردية عند هرمان هسه، ولكن لا أحد أدخلني إلى نفسي عندما دخلت روايته كما فعل دوستويفسكي، لا أحد جعلني أنظر للإنسان أي إنسان بشعلة حب كما فعل دوستويفسكي . أثر دوستويفسكي بالمفكرين الغربيين بعمق ، حتى الملحدين منهم كفرويد ونيتشه. ونصوصه درست من زاوية علم النفس والفلسفة لا فقط أدبيا، لذلك من المستحيل بتره عن سياق تطور الثقافة في أوروبا .
٣- مع ذلك عندما قرأت دوستويفسكي كان ينتابني قلق مبهم عندما يقترب من سيرة البولونيين والآباء اليسوعيين، كنت أشعر أنه يخشى على روسيا من غزو ثقافي أوروبي كاثوليكي، هو يرى أن للأمة الروسية رسالة للعالم، ليست شيوعية بالطبع فهو كان يمقتها، بل رسالة انجيلية عميقة، كان يرى في الفاتيكان الكنيسة التي عبدت المال وتركت الله، وكان يخشى من اليسوعيين بسبب ديناميكيتهم المرنة وقدرتهم على الاقناع، أو ربما من فعاليتهم السياسية، مع ذلك كنت اجد من الصعب التفريق أين تبدأ الخشية الثقافية المشروعة، وأين يقع فخ الوقوع في عنصرية كامنة، ففي قراءتي لأعمال الرجل لم أجده ولا مرة يتكلم بإيجابية عن جيرانه البولونيين . والطريف أنني شخصيا اعتبر أنني تلقيت أعظم الالهام والتكوين الانساني من كل من دوستويفسكي واليسوعيين معا ، والأب فرانس الذي استشهد بمدينة حمص وهو الرجل الذي اثر بحياتي ايما تأثير، كان من عشاق دوستويفسكي .
٤-, يبدو لي اذن وانطلاقا من دوستويفسكي ، ان نظرة روسيا لاوروبا هي نظرة مركبة و معقدة، هي تملك قلق الغزو الثقافي وضياع الهوية، أيضا تسأل روسيا عن دورها ، عن مكانها ، عما يمكن ان تضيفه للعالم، ربما ليس الصناعة ولا التكنولوجيا، بل ربما اضافة ثقافية انسانية، نوع من ضخ الروح في العالم، وهو مافعلته فعلا ادبا وموسيقا . وينسحب ذلك حتى على المرحلة الشيوعية ، مهما كانت مآخذنا عنها، حيث نرى هذه النزعة التبشيرية الخلاصية بوضوح . كان دوستويفسكي يقول بأن الجمال سيخلص العالم يوما ما، وأظنه فهم رسالة روسيا على وجه خاص، والثقافة على وجه عام، بهذا الأفق الجمالي الملهم والخلاصي .
٥-, هنا تكمن مفارقات اليوم الكبرى، أيعقل الا تقدم اليوم روسيا الا التهديد النووي، الا الرعب، الا الحرب والبلطجة؟ بالمقابل ايعقل ردا على ذلك الرعب، ان تحرم اوروبا نفسها من نصوص تشع عمقا وانسانية، عمق ما اشد حاجتنا اليه اليوم، هل يعقل ان تحارب اوروبا سلاح الحرب الروسي، بحرمان نفسها من شمس الروح الروسية.؟!
04 أبريل . 6 دقائق قراءة