26 فبراير . 6 دقائق قراءة . 978
على مر التاريخ الإنساني طالما اعتبرت الحروب هي أسوأ أنواع الخبرات والتجارب التي يتعرض لها الإنسان على الإطلاق، وذلك بما تخلفه من آثار كارثية على المنجزات الحضارية والتي يعتبر أهمها الإنسان. وفي خضّم دوران رحى الحرب وبعد انتهائها تعود لتبدأ عملية البناء من جديد.
أما إعادة البناء على مستوى المعالجة النفسية للأطفال الذي شهدوا أحداث الحرب فهي تبدأ بتحديد نوع المشكلة وذلك يتم عبر ملاحظة العوارض والمتغيرات في العيّنة الاجتماعية من خلال المعرفة المسبقة للأسس والركائز السليمة التي تقوم عليها الشخصية، بالتالي فلا بد من الانتباه للسمات الجديدة البادية بعد الأزمة. وبناء عليه ما سنقوم به في هذه الفقرة هو عرض لأهم السمات التي تساعدنا على تلمّس وجود انحرافات أو اضطرابات في الشخصية كمرحلة أولية من الحل.
تأتي هذه العوارض عندما يتعرض الشخص في الحرب لحدث يتخطى الإطار المألوف للتجربة الإنسانية، حيث يكون مؤلماً له وعلى أي شخص آخر، ويتجلى بأربعة محاور أساسية وهي:
وأهم سمة تبرز هي رعدة الطفل من فكرة الموت مهما كان سواء طبيعياً أم نتيجةً للحرب، تتشكل في ذهنه حالة من الهلع تنعكس على تصرفاته حتى التي في السياق الطبيعي. حيث أن ما نعرفه من فرويد أن غريزة الحفاظ على الذات أو البقاء تعتبر العامل الرئيسي الموجه للسلوك الإنساني، ففي الحرب يصبح الإنسان في حالة تأهب لدفاع عن حياته حيث تجعل تفكيره مرتكزاً في نطاق الذات مما يؤدي إلى توقف شبه كامل لجميع النشاطات الإنسانية. أبسط مثال على ذلك هو عند سماع طلق ناري ففي هذه اللحظة ينحصر وعينا بكامله بالخوف من الموت ويسيطر عليه، وهذا ما استدلينا عليه من شهادات العشرات من الأشخاص القاطنين على تخوم المناطق الساخنة، وفي مثل هذه الحالة تظهر عوارض مباشرة جسدية أثناء لحظات الخوف من الموت تتمثل بـ(خفان قلب، ضيق نفس، دوار، صداع).
أن يسمع أو يشاهد خبر مؤلم جداً كمصيبة تأتي على أحد أفراد العائلة أو الأشخاص الذين تربطه بهم صلة قربى أو أشخاص أعزاء، كأن يمارس العنف الجسدي والإرهاب أمامه إما عبر القتل أو التعذيب والتشويه. فمن خلال ردات فعل الطفل لهذه المشاهدات نستطيع الاستدلال على وجود سمة لاضطراب ما.
تظهر هذه السمة بوضوح عندما يتعرض الطفل المصاب إلى أمور أو يوضع في وضعيات أو أنشطة تذكره بالحدث أو الصدمة، فعند التعرض لمثل هذه الذكريات المؤلمة عندها نلاحظ أن الطفل يفشل في السيطرة على نفسه والتخلص من عذابه.
إن الشعور بالابتعاد والانزواء عن الآخرين هو شعور شائع عند المصابين بصدمة الحرب أو ما بعدها، فيصبح الطفل المريض ذو ردات فعل عدوانية تجاه الآخرين، كما يترافق مع شعور الشخص بأنه منبوذ وغير محترم. كما تتضح لديه عدم قدرة على التواصل مع الآخرين وضعف في الروابط الحميمة مع شخص آخر.
إن مسألة التجنب عند الأطفال تبدو بالصمت وبرفض التكلم عن الصدمة ولكن هذا الأمر لا يعني عدم قدرة الطفل على تذكر الأحداث، فالمعاناة عند الطفل لا تكون عن طريق استعادة الحدث أو الصدمة عبر التفكير والشعور، وإنما من خلال اللعب المتكرر المرتبط بالصدمة (وهنا نأتي على ذكر قصة حدثت مع أحد الأولاد أحد أرياف مدينة حماه على ضفاف نهر العاصي، إذ كانت تلقى الجثث على الضفة الملاصقة للقرية، وكان لدى الطفل دمية أخته المتوفاة بسبب قذيفة ولكنها مكسورة الأعين، فأخذ الطفل يتجول بين الجثث ويقتلع بعض العيون ليضعها للدمية).
إن هذه العملية تتم بشكل تلقائي فالذكريات المرتبطة بالحدث تطفو على سطح الذاكرة مع صور ومشاعر وأفكار يكون عاجزاً عن مقاومتها مما يجعله يشعر بالذنب والحزن (على سبيل المثال وجد في ريف دمشق فتاة صغيرة وحيدة بائت بالفشل كل المحاولات لفهم ما تعرضت له من صدمة ولكن كانت دائماً تمسك بدميتها وجل ما تقوم به هو تمشيط شعرها بعنف إلى أن قامت بانتزاعه بأكمله، وتبين فيما بعد أن مجموعة من المسلحين قد هاجمت منزلهم لأسر والدها وبسبب مقاومته قاموا بسلخ فروة رأسه بأيديهم).
ومن بعض السمات المرافقة أيضاً هي الكوابيس والتي قد ترتبط بالحدث مباشرةً أو بأمور غير حقيقية بعيدة عن الواقع والتجربة، كما يمكن أن تمتد هذه الكوابيس بعض الأحيان في ساعات اليقظة مما قد يفاقم من ظاهرة التفكك عند الشخص. أيضاً نلاحظ وجود بعض اضطرابات في الذاكرة والتركيز وذلك بسبب تدني المستوى لمعرفي وعدم القدرة على الإنجاز والمثابرة بالعمل، وقد يعاني البعض أيضاً من بعض ردّات الفعل التي تترافق مع نوع من الخوف والإجفال الفجائي.
في مقالنا التالي سنتعرض لموضوع آثار الحرب على تكوين شخصية الطفل.