إميلي نصرالله، شيخةُ القرية اللّبنانيّة

Faten Fouaany

31 يناير  .   3 دقائق قراءة  .    864

"قلت للقلب :حاج تعِنّ، حَبايْبَك راحوا

قَلّلي: رح جِنّ، بدّي إلحقهن مطرح ما راحوا 

قِلتلّه: اللّي بروحوا ما بيرجعوا متل الطيور

وبيبنوا أعشاشهن بعيد بعيد بين الصّخور

والصّخور قاسية ما فيك تقطعها

صِرِتْ خِتيار، كيف فيك تتسلقها؟

جاوبني القلب: كيف البيت بدّو يعيش

بدون إيد أخ تبطب على كتف أخ؟

لِكْ يا آخ وَيَا خمس مية ألف آخ."

بهذه الرَنْدَحات القرويّة، تخيّلتُ ريجينا أبو نصر، جَدَّة إميلي نصرالله، وهي تُشذِّبُ مسكبة النعناع أمام البيت وتغرسُ في التراب يديها الخشنتين لِتقتلع "شلوشَ" الخبيزة الخضراء المتطفلة. تتحسَّرُ على اقتلاع أبنائها السبعة من جذورهم وتحليقهم بعيدًاإلى بلاد الاغتراب. الهجرةُ كانت آفة العصر ومصيبته العظمى. كلُّ سفرٍ هو سفر برلِك وكلّ مهاجرٍ طيرٌ من طيور أيلول الّتي لا تعود. كانت ريجينا ترتدي الأسود دائمًا حِدادًا على الَّذِين رحلوا قائلةً: "اللّي ما بيترك أرضه بِشَلِّش فيها."وفعلًا عاشت مئة وثمانية عامًا في ضيعة الكْفَير الجنوبيّة المُستلقية أمام جبل الشّيخ كإمرأةٍ تغري رسّامها وتستفزُّ فيه أعظم مَلَكاته.

شربت إميلي ألمَ الهجرة بإبريق الفخّار ورَعَته مع الماشية حتّى "مَدّ" البيت وتناولته مع صحن المجدرة والبرغل. كَبُرَ مع أنّاتِ جدّتها اللّيليّة وبكائها في قدّاس الأحد. كانت إميلي تركض نحو سِتِّها لمواساتها فتسألها الجدّة: "أيمتين بدهن يرجعوا يا إميلي؟" تردُّ إميلي والغصّةُ تخنقها: "نامي، يا سِتّي، نامي. شي نهار رح تفيقي الصُّبْح وتلاقيهن قدامِك." وما أتى ذاكَ الصّباح. ماتت ريجينا وماتَ داوود، زوجها وما عادَ المهاجرون. وُلِدَ كتاب "طيور أيلول" من مخاضِ آهاتِ ريجينا ومن رحمِ كلّ أمّ في ضيعة الكفير قد هاجر أبناؤها. ووُلِدت إميلي نصرالله كاتبةً تُجسِّدُ أدب الهجرة بأعمق صُوَرِهِ. 

إميلي، حفيدةُ جبل الشّيخ وشَيْخَةُ القرية اللّبنانيّة، اكتسبَت من حياتها القرويّة البسيطة الرِّضا. فكانت تقصد الجامعة الأميركيّة في بيروت بالفستان عينه كلّ يوم. ذاكَ الفستان الإفرنجيّ الَّذِي أرسله لها خالها أيّوب المغترب في البرازيل. يداها الّلتانِ كانتا على موعدٍ يوميٍّ معه، لم تكلّا من غسله ليلةً. لم تتذمَّرا من طبقات الخشونةِ الّتي حطّت عليهما كما حطّ العالم على كتِفَيْ أطلس. فإميلي لا تذكرُ نعمومتهما.هذه النّعومة النَّزِقة الّتي رفضت أن تقرب يديْنِ مُنغرِستينِ في التّراب، مُنغَمِسَتينِ بين الصّخور حتّى صارت فراشات.

كاتبةُ "همسات"، و"شجرةُ الدفلى"، "مِرسالُ" الأدب اللّبنانيّ ، أتقمّصُ راويها في قصّة "طيور أيلول لِأسألها:

-لمَ تركتِ يا "مِرسال" أوراقكِ بين يدَيّ؟

كانتِ الصداقة تقتضي بأن أحتفظَ منكِ بذكرياتٍ أخرى : عِقدٌ ألفّهُ حول عنقي، ويجيء يومٌ تنفرطُ حبّاته وتضيعُ على الطّريق أو قِرطٌ يبرقُ، ويبطلُ استعماله بعد أيّامٍ، فأُقفلُ عَلَيْهِ علبة الحُليّ أو سوارٌ رخيصٌ يبهتُ لونُهُ بعد ساعات. أشياءٌ صغيرة لا تخدش الذّات، نلفّها حول العنق أو المعصم أو نضعها فوق الصّدر ثمّ ننساها حين نُتابع رحلتنا في دروب الحياة." 

رحلت إميلي نصرالله مع طيور أيلول المهاجرة باحثةً عن دفءٍ أبديٍّ، شاقَّةً لنا كُوّةً في عباب السّماء كي يدخلَ منها النّور.

  3
  4
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال