03 أبريل . 8 دقائق قراءة . 4891
حتى أواخر القرن التاسع عشر وقبل بزوغ شمس النهضة الأدبية العربية في العصر الحديث، كانت للشعر طريقة واحدة في التعبير، وكان للشعراء منهج متشابه في نظمه، على خُطى امرئ القيس وغيره من شعراء العصور السابقة... لكن، مع مطالع القرن العشرين، بدأت بوادِر نهضة أدبية شاملة تظهر بشكل واضح، وعلى الصعد كافة، دعيت بـ( النهضة الأدبية العربية في العصر الحديث )، هذه النهضة التي كانت قد ظهرت أولى براعمها في العصر العباسي، إلّا أنها لم تتبلور بشكل جليّ، وبخاصة مع توقفها في عصور الانحطاط، التي جمّدت الأدب عند فترة معينة، ولم يتطور أو ينهض بعدها... إلى أن عاود الظهور وانتفض، جديًّا، مع بدايات القرن العشرين بالشكل الجلي لـ( النهضة الأدبية العربية في العصر الحديث ).
لعلّ مجتمع القرن العشرين قد شهد صراعات على الصعد كافة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والوطنية والثقافية؛ فمِن الانتفاضات الاجتماعية، والتطورات الاقتصادية، والتغيرات الديموغرافية في خرائط الأوطان، والصراعات الثقافية بين التيارات كافة، إلى تفاعل الحضارات وتلاقحها نتيجة التطور التكنولوجي والعلمي، إلى الانفتاح على الغرب، عبر الإرساليات والمدارس والجامعات الدولية، وتنشيط حركة الطباعة والصحافة والترجمة والتعريب، وظهور البعثات الطلابية إلى الخارج، وإنشاء المراكز والمجامع اللغوية ودور النشر، إلى بروز الحركات الاجتماعية والعلمية والأدبية، التي اهتمت بميادين الثقافة والعلوم، واحتضنت الأدباء والعلماء، وكانت لهم بيئة خصبة في سبيل تيسير مهامهم العلمية والبحثية... كل هذه العوامل التي ظهرت في ميادين الفكر والأدب، تولّدت منها النهضة الأدبية العربية بعمقها ومعناها؛ فأعادت للّغة العربية شبابها وفسحت المجال أمام أجيال من الكتّاب ليتحرروا من الجمود ومن عقلية الاستسلام والاتّباع، ويعيشوا في عصرهم نابضين بروحه.
لا شك في أن الأدب صورة المجتمع الحقيقية وصوته المدوّي، وهو غير بعيد عن سنّة الحياة القائمة على التطور والنهوض... فقد وعى الأدباء هذا التطور، وضرورة تغليب أسلوب عصري جديد، على الأسلوب التقليدي القديم، الذي رأوا أنه دلالة تخلف؛ ذلك أن الألفاظ يجب أن تكون وليدة عصرها، وهذا ما عبّر عنه ميخائيل نعيمة؛ إذ عدَّ تقليد الأقدمين ليس سوى مَوت لآدابنا... وكذلك خليل مطران حين قال: "كما أنّ للعرب القُدامى عاداتهم وتقاليدهم وآدابهم؛ فإنّ لنا -نحن أيضًا- عاداتنا وتقاليدنا وآدابنا..."
انطلاقًا من كل ذلك، كان لا بد للأدب من أن تعصف به رياح التغيير، ممهدة لنهضة أدبية جذرية، في الشعر والنثر معًا.
لعل النهضة الأدبية العربية قد تفتّحت أولى براعمها الشعرية في الغرب، وتحديدًا مع أدباء المهجر، ثم امتدت إلى الوطن، ليتجرأ الشعراء بالنهوض في الأساليب التعبيرية، مُحدثين ثورة لم تشهدها القصيدة العربية قطّ، شكلًا ومضمونًا.
فمن ناحية الشكل، تخلّى الشعراء النهضويون عن الوزن الواحد والرويّ الواحد ونظام البيت ذي الشطرين في القصيدة الواحدة... وتوجّهوا إلى اعتماد المقاطع الشعرية المتعددة الأوزان والأرواء، والمختلفة في نظام الأبيات؛ إذ كانت تلك الأبيات تقصر وتطول بحسب رغبة الشاعر وحاجته؛ فكانت معهم قصائد التفعيلة وقصائد النثر، مناسِبة للعصر الجديد وتغيّراته.
ومن أمثلة هذه القصائد:
- قَول نسيب عريضة في قصيدة "النهاية":
كفّنوه!
وادفنوه!
أسكِنوه
هوّة اللحد العميقْ
واذهبوا. لا تندبوه،
فهو شعب
ميّت ليس يفيق...
رُبّ ثار
رُبّ عار
رُبّ نار
حركت قلب الجبانْ
كلّها فينا، ولكن لم تحرّك
ساكنًا إلا اللسان.
- وكذلك قَول فدوى طوقان في قصيدة "الانفصال":
إلى أين أهرب منكَ وتهرب مني
إلى أين أمضي وتمضي
ونحن نعيش بسجنِ
من العشق...
سُدًى ومُحال
سُدًى لا انعتاق لنا، لا انفصال
مُحال حبيبي مُحال.
وواضح من خلال هذين المقطعين، كيف خرجت القصيدة الحديثة على القيود التقليدية للقصيدة القديمة، وحطّمتها.
أما من ناحية المضمون؛ فقد برزت قصائد في الغزل وحُبّ الوطن والدعوة إلى التحرير والتحرّر، بمعانٍ جديدة لم يسبق على الشاعر العربي استعمالها من قبل. هذا وقد برزت تيارات أدبية جديدة، عُرفت معها الرومنطيقية التي وجد شعراؤها في الطبيعة ملاذًا لهم؛ فاستمدّوا معانيهم منها وبثّوا إليها كل انفعالاتهم. كما عُرفت الرمزية أيضًا، وقد توجّه شعراء هذه المدرسة نحو استخدام الرمز في التعبير الشعري؛ إذ وجدوا أن المعنى التقليدي للكلمة يقيّدها، لأنه قاصر على التعبير عن الفكرة؛ فتوسّلوا المعنى الإيحائي الذي لا يتأتّى للقارئ إلا من بعد عدة قراءات معمّقة للقصيدة. والأمثلة على التجديد في مضمون القصيدة كثيرة، منها:
- قَول جبران خليل جبران في قصيدة "أعطِني الناي":
أعطِني الناي وغنِّ فالغِنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
ففي هذه القصيدة، يدعو جبران إلى ترك المدينة ومادّياتها وضجيجها، والهروب منها إلى الطبيعة لأنها الملاذ الآمن، حيث السكون وراحة البال...
- قَول صلاح لبكي في قصيدة "بلادي":
أحبّكِ أغنية في الثغور وحلم هناء ورهج حبور
وأمنية تتعرى المُنى لديها، صغارًا كحلم الصغير
وفي هذه القصيدة، رسم لبكي صورة للُبنان، مختلفة عن الصوَر التي نعرفها؛ فهي أغنية وحلم، وهي تثير البهجة والسرور، وهي أمنية كبرى تصبح جميع الأماني أمامها صغيرة...
لعل أهم مظهر من مظاهر النهضة الأدبية العربية الحديثة، تحديدًا في النثر، المقالة، وهي نَصّ نثري معتدل الطول يتناول بالعرض والتحليل، قضية من القضايا أو جانبًا منها، في إطار مقدمة وعرض وخاتمة، وقد تنوعت المقالات في العصر الحديث، بين مقالات ذاتية وموضوعية من حيث الأسلوب، ومقالات اجتماعية ووجدانية وثقافية وتربوية وعلمية وأدبية... من حيث المضمون. وأهم أعلام المقالة عند العرب في عصر النهضة والعصر الحديث: رِفاعة الطهطاوي، أديب اسحٰق، بطرس البستاني، مصطفى كامل، خليل مطران، وغيرهم...
هذا بالإضافة إلى بروز القصة القصيرة، التي تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي في أغلبها، وبخاصة مع مارون عبود، وأمين الريحاني.
ولا ننسى الرواية النابعة من عمق واقع المجتمع العربي، وأبرز روّادها: نجيب محفوظ.
حفل العصر الحديث بشعراء وأدباء أسسوا للنهضة الأدبية العربية، وأيقظوا اللغة العربية من رقودها، وأضفَوا إليها من روح العصر الحديث، محررين إياها من قوالب الجمود؛ فكانوا نجومًا مُشعَّة سواءٌ في المهجر أم في الوطن. ففي المهجر لمع ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ونسيب عريضة ورشيد أيوب وفوزي المعلوف... أما في الوطن فقد عرف الشعر العربي حركته التجديدية المهمة مع أمثال الياس أبي شبكة، صلاح لبكي، يوسف غصوب، الأخطل الصغير (بشارة عبد الله الخوري)، وسعيد عقل... وامتدّت الحركة التجديدية مع شعراء الحداثة، وعلى رأسهم يوسف الخال، بدر شاكر السيّاب، جورج غانم، أدونيس، محمود درويش، خليل حاوي، أُنسي الحاج، وغيرهم...
خِتام القول، إن الأدب كما سائر الفنون، يخضع لنواميس التطور والتجدد، وهو ليس آنيًّا أو لحظيًّا؛ فما كان حديثًا أو نهضويًّا في يوم من الأيام، بات اليوم قديمًا، وما هو حديثٌ اليوم سيصبح قديمًا بعد فترة من الزمن، وهكذا... وما يهمّ في هذا الإطار، ليس التقليد أو التجديد بقدر أهمية الحفاظ على هوية اللغة العربية وكينونتها...
شهدت بدايات القرن العشرين نهضة أدبية شاملة بعد أعوام من الرقود في عصر الانحطاط، هذه النهضة الأدبية جاءت متأثرة برياح تغييرية خارجية وداخلية، وعلى الصعد كافة؛ فتجلّت في الشعر والنثر معًا. ففي الشعر بدأ الشعراء يتحررون شيئًا فشيئًا من النظام التقليدي للقصيدة العربية، وينحَون نحو قصيدة التفعيلة... كما بدأوا يتطرقون إلى مواضيع جديدة في الحب والوطن والدعوة إلى التحرر؛ فظهرت معهم المدارس الرومنطيقية والرمزية التي جددت في مضامين القصيدة العربية. أما في النثر، فظهرت النهضة الأدبية العربية جليّة في المقالة والقصة القصيرة والرواية.
للنهضة الأدبية العربية في العصر الحديث روّاد كثُر، انطلقوا من المهجر، ليمتدّوا إلى الوطن، ويشكّلوا حركة تجديدية من أهمّ ما يكون.
بقلم صفاء الشيخ
لفريق مرداد