09 فبراير .
5 دقائق قراءة .
139
جمال التاريخ وتراجيديته يكمنان في أنه على الرغم من تنوعه اللانهائي يقدم لنا أنماطاً متكررة تقتل كل خصوصية لبعض الظواهر وتمحي كل اعتقاد بالخصوصية عند الجماعات، على الأقل حتى مستوى معين من السلوك.
والتاريخ يكشف لقارئه أن حركات الرأي الواحد كلها كلّها تبدأ صغيرة، حلوة، حالمة وقوية وتنجز الكثير، وإنجازها هذا بالضبط والتحديد هو الذي يقدم لها بكأس ذهبية السم الذي لا نجاة منه؛ فهي تبدأ بالتحول إلى هيدرا عملاقة تستنسخ رؤوسها، وكل محاولات لقطع أحد هذه الرؤوس يأتي بالمزيد منها.
الأمر كله يبدأ بحاجة أو بحلم، ولكنها حاجة تنسى نفسها بعد حين وحلم يصادر حرية نفسه، ولا يمنح ذاته هامشاً للتراجع (حتى لو على سبيل التحايل النفسي على الذات وليس لاستعماله فعلاً) ولا يمنح ذاته نفسها ترف التمايز الداخليّ الصحّيّ لعناصره المكوّنة لكي تتطوّر بنيته العضوية الكلية بطريقة تاريخية جدليّة. هذا الحلم الذي يصادر حرية نفسه ويكبح تطوّر بنيته بشكل تاريخيّ صحيح يدفع بصاحبه إلى الزاوية ليتحول إلى قاتل لنفسه وللآخر؛ قاتل يظن أنّه يدافع عن نفسه، أولاً ضد إمكانية الحركة الجدلية ضمن بنيته وثانياً ضدّ العناصر المحيطة به، ثم ينتقل إلى مرحلة الهجوم، فيهاجم كل مختلف بحجة اتقاء الهجوم بشكل استباقي، وتكرّ السبحة، ويبدأ العمى، ثم يبدأ الذهان نتيجة انطفاء البصر التدريجي ونتيجة كراهية الواقع الذي يحاربه تلقائياً نتيجة عدم تفاعله مع قوانين التاريخ.
الرأي الواحد يعيش بالضرورة خارج الواقع، وهو في أحسن الأحوال كشاعر كلاسيكيّ يريد أن يلقي قصيدته في قاعة محاضرات للعلوم البيولوجية؛ يريد أن يمارس تخييله الشعريّ في محفل نثريّ هو العالم اليومي، ليس إغناءً له وتعزيزاً لإمكانياته، بل بديلاً عنه وعن كل مكوناته. إنّه مصرّ على تطبيق رؤية بارمنيدس في عالم هيراقليطس.
إنه يقتل نفسه في كل رصاصة يطلقها على رأي آخر، ولكنه يصخب، ودعوته قوية لأنها تتجاوز العقل لتخاطب ما دونه وليس ما فوقه، دعوته قوية كشهوة لا تطفأ، وصخبه يعيقه عن سماع صوت الحقيقة التي قد تساعده في التخلص من ذهانه. وحين يقتل الجميع (إذا استطاع ذلك) يحل الصمت، وحين يحل الصمت يبدأ ذهانه بالتهامه، فلا يوجد من يحاربه الآن، فيبدأ بالتفسخ، وتبدأ أجزاؤه تحارب بعضها بعضاً كما رأى القدماء في رؤاهم الشياطينَ في عالمهم الهوائيّ.
موته قبيح للغاية ولا مناص منه لأنّه يرفض أيّ إمكانية للتمايز أو التقدّم أو التغيّر؛ مريض يرفض أيّ نضيحة طبّية!
ولعلّ التراجيديّ والساخر في ذات الوقت هو الجماهير التي تتحلّق حول هذه الحركات، التي تصبح ملكية أكثر من الملك وأكثر تشدداً من السياسيين أنفسهم وأعمدة الحركات الأيديولوجية أنفسهم؛ فهي مستضعَفة-استبدادية في هويتها، تُحوّل مظلوميتها إلى ظلم وحقّها الطبيعي إلى مصادَرة لحقوق الآخرين؛ فحاجتها التي تثور من أجلها تصبح في نفس الوقت ناراً لا تريد لها هذه الجماهير أن تُخمَد ورغبة لا تريد لها أن تَشبَع؛ تصير غايةً في حد ذاتها- "غايتي أن أكون ذا حاجة، لأنّ حاجتي هذه هي التي تمنحني شرعية الوجود." هذه الجماهير هي التابع الذي يمارس أيضاً وظيفة المستبّد بحقّ متبوعه والعبد الذي يمارس القوة والقهر على سيّده، حين يجعل السيّد يرى في نفسه إلهاً مجبراً على الاستمرار بما هو فيه حتى لو كان له من العقل والخبرة والحكمة ما يسمح له بقراءة التاريخ قراءة صحيحة؛ فهي تؤلّهه وتدفعه نحو القمّة أو نحو الزاوية، وكلاهما سيّان.
وهذه الجماهير هي أيضاً التي تمارس سلطة القمع وسلطة القهر باسم الأيديولوجيا، حتى لو لم يكن أغلب أفرادها ملتزماً إلا بأهداب هذه الأيديولوجيا، وذلك لكي تنتقم من المختلف إذا ما تبيّن-وفق تفسير ما- أنّه يشكّل خطراً على معتقداتها. إنّها مفارقة ساخرة أن يكون الحشد مستضعَفاً ومستكبِراً في آن واحد، أن يكون قاهراً ومقهوراً، مستَبَدّاً به ومستبِدّاً بغيره وبزعامته نفسها. العلاقة بين زعامة الحركات الأيديولوجية وحشودها التابعة مثيرة حقاً، لأنها علاقة تبادلية وتعاكسية على كثير من المستويات؛ فكلّ طرف يغذّي جنون الآخر وكبرياءه بشكل لا يبدو معه لهذه العملية من نهاية.
الرأي الواحد هو خالق الحشود وهذه الحشود هي في عين الوقت الرّحم الذي يولّد ذلك الرأي الواحد. إنّها الحشود التي تعبد الصنم وتأكل منه في نفس الوقت، تنصّب الملك وتقتله حين يحين وقت القتل. ومن يعرف أين يحين وقت القتل؟!