أطروحة موت الفن

Mohamed Khassif

12 يونيو  .   4 دقائق قراءة  .    642

 

-1-

 

"أنا لا أدافع عن الفن ضد الادعاءات بأنه وصل إلى نهايته. لا أرى الهدف من ذلك حقًا. هدفي هو شرح منطق الفلاسفة الذين يدعون أن الفن قد انتهى". ستيفن سنايدر[i] 

 

سوء الفهم وكثرة التأويلات

إن أهمية دورة الجماليات[ii] التي قدمها هيجل بين عامي 1818 و1829، الثرية بقراءاتها النقدية الحصيفة لمدارس فنية متنوعة بدءا برمزية فنون فارس والهند ومصر وكلاسيكية الإغريق وعصر النهضة ومرورا بالفنون القر وسطية ووصولا إلى مدارس من العصر الحديث، قراءات كان لها الأثر الكبير على أجيال متتالية من علماء الجمال ومنظري الفنون، سواء من قبلوا بها وتبنوها كليا أو جزئيا، أم الذين رفضوها وعارضوا أطروحاتها. لقد كانت لهيجل معرفة واسعة وفهم جيّد لأعمال فنية عظيمة مميزة للتقليد الغربي، استشهد بعدد منها في جماليته، وهذا عكس ما يراه أدورنو، حيث يعتبر هيجل ومعه كنط " الأخيرين اللذين كان بوسعهما أن يكتبا استطيقا كبيرة من دون أن يفهما من الفن الشيء الكثير"[iii]. ربما، قد تنطبق قولة أدورنو على كنط ولا يجوز إسقاطها على هيجل. فرغم التقاطع الواضح بين مصطلح الجمالية Esthétique مع الفني Artistique   والجميل  Beau، "فإن استكشاف كنط لهذه المناطق لا يحتوي فعليًا على أي إشارة إلى الأعمال الفنية، باستثناء بازليك القديس بطرس في روما والأهرامات المصرية، التي تناولها بشكل عابر دون أي محاولة تحليلية. علاوة على ذلك، لا يَستشهِد بها كنط كأمثلة للجمال، ولكنه يتناولها في سياق مناقشته السامي Sublime. أدى غياب الاستشهاد شبه الكامل بأعمال فنية محددة إلى التمييز بين جماليات كنط باعتبارها شكلية Formelle ، من جماليات هيجل الحاملة لمضمون"[iv].  فلم يكن من اهتمامات كنط تفسير الإنجازات الفنية المستقلة بذاتها بقدر عنايته بإرساء أسس القدرة على الحكم على شيء ما على أنه جميل أو فني. في الواقع، كان إلمام كنط المباشر بالأعمال الفنية محدودًا نوعا ما، ومن ثم تميزت جماليته بـاستقلال الفن مقابل الإدراك والأخلاق، وبطابعه الشكلي المتحرر من تأثيرات التاريخ والتطورات الملموسة للفنون، وأخيراً بتذويته subjectivation للتجربة الجمالية المستقلة عن الشيء والمتجذرة في الموضوع.

تشهد "الجمالية" على أن اهتمام هيجل ومعرفته ليسا مقيدينّ بالفن الأوروبي فقط، بل توسعا ليلامسا أعمالاً أدبية من الأشعار الهندية والفارسية، وأعمالاً تشكيلية من الفن المصري. إن جماليّة هيجل، حسب هاميرمايستر، تُشكّلُ "تاريخاً عالمياً حقيقياً للفن"[v]، حيث أصبح يُنظر إلى الفن على أنه تاريخي في الأصل والوظيفة[vi]

تعد دورة الجماليات كما يراها هيجل نفسه، حلقة أساسية في العلوم الفلسفيّة. فعلم الجمال يُطور "الفن" كما تُطوِّر فلسفة الدين فصل "الدين" وتاريخ الفلسفة، فصل "الفلسفة"، ويؤسس نفسه كعلم مستقل ضمن افتراضات النظام الفلسفي. كما أن أهمية جمالية هيجل تتجلى بالأساس في كونها تستدعي كل مهتم وفنان وناقد وفيلسوف لتصفح أوراقها حتى تتحقق لديه إحاطة، فلسفية نوعا ما، بخبايا عمليات الإبداع الفني والجمالي، عمليات التزاوج المثالي بين الشكل والمضمون، في ظل تطور تاريخية الفنون وتطور النظريات الجمالية بشكل عام. فهيجل يرى من خلال جماليته إمكانية تدوين تاريخ الفن من حيث العلاقات المتغيرة بين الشكل والمحتوى.  إنه "محتوى" الفن، الذي يتجسد بشكل ملائم في شكل فني، عبر مراحل تطور مختلفة يسِمُه هيجل ب "روح العالم" أو "الفكرة" أو "المطلق". فالمتصفح للجمالية الهيجلية سيكتشف حقيقة الفن المقيّد بالسّياق التّاريخي والثّقافيّ، وفي نفس الآن الحامل لزخم «روحاني» يتجاوز به التّاريخي والثقافي ليسموَ إرثا إنسانيا كونيا، يؤكد على أهمية المضمون وأولويته على حساب الشكل، عكس ما توصل إليه كنط في جماليته. يؤكد كنط  "أن الحكم الجمالي معني بالصورة أو بالشكل فقط -إذ يخضع العامل الموضوعي في المعطى للإدراك الذهني دونما تدخل من التصورات أياً كانت.  لذلك اعتبر بعض منتقدي الجمالية الكنطية أنها بمثابة "إعلان لشكلية ھي الأكثر تنظيما وتطرفاً وتعصباً في تاريخ الجمالية برمته"[vii].

 من خلال دراسته المستفيضة لأنماط فنية ثلاثة اعتبرها أساسية لتفسير تطور الفن عبر الحضارات الإنسانية المتعاقبة، يقدم هيجل نظريته الجمالية ذات الطابع الجدلي أو التاريخية الجدلية مراوماً المحاور المتعارف عليها في الديالكتيك الهيجلي: الموضوع والنقيض والمركب. فالمنهج الجدلي لدى هيجل كما يقول زكريا إبراهيم: "طريقة في التفكير، وفي النظر إلى الظواهر من خلال ارتباطها ببعضها البعض. فالعلاقات التي تفهم من خلالها كل ظاهرة جزئية، ليست فقط علاقاتها بالظواهر الأخرى التي تتزامن معها، وإنما علاقات بالمجرى الكامل الذي تطورت فيه حتى وصلت إلى طابعها الراهن[viii]". ولا شك أن تفحصنا لجماليات هيجل يساعد على استكناه آليات عملية تحديد تزاوج الفكرة وتجسدها باعتبار "ترقي العمل في وعيه بذاته[ix]"، الذي تتولد عنه أنماط الفن الثلاثة التي شكلت أرضية الإستطيقا الهيجلية: النمط الرمزي، Symbolic Artوالنمط الكلاسيكي، The Classical Art  والنمط الرومانتيكي The Romantic Art. فجماليات هيجل هي تفسير فلسفي لمحطات رائدة من تاريخ الفن، تنبني على أسس من فلسفته المثالية في تحقيق الأفكار.

فقد برهنت دراسته لخصائص الفنون الجميلة عن رؤية نقدية شمولية، وإحساس سامي في تذوق الفنون ووعي مُرهف بالقيم الجماليَّة للآثار الفنية من تصوير ومعمار ونحت وموسيقى، موضحا مهمة الفن الرفيع في التعبير عن الروح المطلق. ففلسفة الفن لدى هيجل تؤخذ على أنها أول قسمٍ فرعي من فلسفته في الروح المطلق، قبل فلسفته في الدين ورؤيته حول تاريخ الفلسفة. ويجوز اعتبارها بمنزلة موسوعة قيمة لا غنى عنها لكل باحث ومهتم للتعرف على تاريخية الفنون الأوروبية قديمها وحديثها، في ارتباطها بالدين والأسطورة والطقوس السحرية، وبالتالي استنتاج العلاقة الجدلية التي تربط بين الفن والدين والفلسفة باعتبارهم مظهراً للروح المطلق. 

إن الجمالية الهيجلية ذات الاتجاه الميتافيزيقي – "جمالية هيجل مثالية، ومبالغ فيها بشكل كبير في التبسيط وديالكتيكية إلى حد محدود"[x] - تبحث أصلا في الفكر والمثال وتفسير إشكالية الملاءمة بين المحتوى والفكرة وتعبيرها الحساس. فوظيفة الفن تتجلى بالأساس في الكشف عن محتوى الروح (المطلق) في عملية التشكل. وكما هو موضح في "فينومينولوجيا الروح"، أن محتوى المطلق يتجلى بوجوده في التاريخ ليتدرج في تشكله، ويتوافق هذا التقدم في المحتوى مع تطور ضمن أنواع الفن المختلفة التي يتجلى فيها. "يعدُّ هيجل أنّ كل ما في الوجود من نظم فكريّة أو بشريّة أو ظواهر ماديّة أو طبيعيّة ما هي في النّهاية إلاّ مظهراً من مظاهر تشكلاّت الرّوح المطلق التي يحكمها قانون الجدل الذي قوامه سيرورة دائمة. وما الفنّ سوى خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة. أما الجمال فلا يتحقق، في درجاته القصوى، إلا في الجمال الفنّي، لأنّه فكرة الإنسان التي تُعبّر عن الوحدة المباشرة بين الموضوع والذّات. وهذه الفكرة تنبع من الرّوح البشريّة."[xi]

في "الجمالية"، يشخص هيجل، بالتفصيل كيف يظهر المطلق لنفسه في الفن، مما أثار تساؤلات عديدة حول احتمالية تمثيل المطلق بأسلوب محسوس!  لكن المسألة بالنسبة لهيجل محسومة: المطلق قابل للتمثيل وغير ذلك يجعل الإله كيانًا مجردًا، بينما الحقيقة، تكمن في التوفيق بين الأضداد: أن الإله الحقيقي حسي وروحي، عالمي وفريد، مجرّد وملموس. إن الفن مثل الدين، طريقة لظهور الألوهية.  وسيتحقق الظهور من خلال أنواع الفن المختلفة الأنماط. وهذا يمكن تفحصه من خلال الأشكال الثلاثة العامة الكبرى للفن التي تناولها هيجل في مؤلفه[xii] والتي وصفها بقوله: "إن أشكال الفن ليست سوى العلاقات المختلفة بين الشكل والمحتوى، العلاقات التي تنبثق من الفكرة نفسها."[xiii] 

 

هوامش
 

[i] ستيفن سنايدر متخصص في فلسفة الفن والفلسفة الاجتماعية والسياسية والفلسفة القارية في القرنين التاسع عشر والعشرين. لديه اهتمامات خاصة في البحث عن البعد التواصلي للممارسة الفنية. يركز بحثه على دراسات الحالة التي توضح كيف تنعكس التحولات في نظام القيم الثقافية في الفنون البصرية والاستعارة.

[ii]   قدم جورج فيلهلم فريدريش هيجل (1770-1831) مقرره في علم الجمال أو فلسفة الفن لأول مرة في جامعة هايدلبرغ، في الفصل الصيفي لعام 1818.عندما تم استدعاؤه إلى جامعة برلين، في خريف نفس العام، أدرجه ضمن برنامج تدريسه، في الفصل الشتوي 1820-1821، وفي فصلي الصيف 1823 و1826 ثم في فصل الشتاء 1828-1829. كان عازما على نشر دروسه لكن المنية وافته في بداية الفصل الشتوي 1831، دون أن يحقق مبتغاه. لم يترك هيجل، عند وفاته، أي كتابة مكرسة بشكل خاص لفلسفة الفن، رغم أن الأسئلة الجمالية تعد أحد محاور تفكيره الفلسفي، باستثناء الملاحظات الظرفية الموجودة في فينومينولوجيا الروح (1807)، ثم في الطبعات الثلاث المتتالية من موسوعة العلوم الفلسفية (1817، 1827، 1830). 

(Alain Patrick Olivier. Esthétique : Cahier de notes inédit de Victor Cousin. Alain Patrick Olivier.
J. Vrin, 2005, Bibliothèque des Textes philosophiques, Jean-François Courtine, 978-2-7116-1757-9.
ffhal-03029776ff)

[iii]  تيودور ف. أدورنو، نظرية إستطيقية، ترجمة وتقديم وتعليق ناجي العونلي. منشورات الجمل 2017. ص.499

[iv] Hammermeister, Kai, 2002, The German Aesthetic Tradition, Cambridge: Cambridge University Press – p. 24

[v] Ibid. 24

[vi] Ibid. 89

[vii]   نوكس (إسرائيل)، النظريات الجمالية (كانط – هيجل – شوبنهاور ) ، ترجمة محمد شفيق شيا ، منشورات بحسون الثقافية ، بيروت 1985،ص. 64 

[viii] زكريا إبراهيم  - هيجل أو المثالية المطلقة، مكتبة مصر، 2010. ص: 8

 

[ix]  فيصل بشير الخراز، إشكالية الشكل والمضمون في فلسفة هيجل الجمالية، كلية الآداب / جامعة مصراتة.ص.22

[x]Eaglton, Terry : Marxism and Literary Critisicm - Methuen &. Co LTD. London, 1983 - P. 21

 [xi]   د. روبير مطانيوس معوّض .( مايو 17, 2020). فلسفة هيجل الجماليّة (دراسة تحليلية) ،14/1/2023، http://www.awraqthaqafya.com/895 

[xii]  غ. ف. ف. هيغل. الفن الرمزي الكلاسيكي الرومانسي. ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت 1979

 [xiii] Georg Wilhelm Friedrich HegelEsthétique tome 1, trad. : Charles Bénard, revue et complétée par Benoît Timmermans et Paolo Zaccaria. Livre de poche 1997 p. 136

  0
  2
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال