10 ديسمبر . 6 دقائق قراءة . 911
"هل يسرقنا العمر أم نحن له السارقون".
كل منا بداخله قطار للعمر يجري كما قُدر له، قطار قائده القدر الذي حدد لحظة انطلاقه من أول محطة له في العمر، وهي محطة الإخصاب وتزاوج الحيوان المنوي والبويضة؛ لتتكون أول حمولة للقطار من النطفة المكودة لكل ما قد قرره القدر من أمور، النفس فيها مسيرة. ومع أننا لا نحتسب هذه الفترة وقوامها ٧-٩ أشهر من ضمن محطات قطار العمر، إلا أنها أسرع وأهم فترة في طريق قطار الحياة، الذي يبدأ في حملنا ونحن أجنة حتى محطة الميلاد والتي نخرج فيها لركاب القطار والنفس مازالت مُسيرة في كل أمور الحياة. وهنا يبدأ قطار العمر في فتح أبوابه لاستقبال ركابه من مختلف الأعمار والأجناس والأشكال، والديانات واللغات والثقافات والعادات، ويجري القطار رويدًا رويدًا وهو يتهادى بعجلاته بين ربوع مظاهر وأحداث الحياة.
ويسوق القدر قطار العمر من محطة الميلاد بعد أن فتح أبوابه لأهل وأقارب المولود، بعد أن اختاروا اسمًا ورقمًا متفردًا لهذا القطار؛ ليميزه عن باقي قطارات العمر الأخرى في الحياة. ويجري القطار داخلنا بهدوء ونحن لا ندري، لا الزمان ولا المكان ولا أسماء المحطات العديدة والمتتابعة والتي يقف فيها القطار أحيانًا. ثم يسرع قليلًا عندما يمنحنا القدر محطة الطفولة، تلك المحطة التي نحاول فيها فهم الآخر وطبيعة الأشياء حولنا، تلك المحطة التي يسمح لنا القدر فيها بفعل أشياء ان فعلها الكباروصفناهم بالمجانين، ولكنها بالقطع مقبولة، بل مرحب بها خير ترحيب.
فعند محطة الطفولة لا يلومنا أحد عندما نتبول على أنفسنا، أو نضحك أو نبكي ولو بلا سبب، أو ننظر لمن يتكلم ببلاهة بددون فعل منا، أو نلهوا في التراب أو حتى نلعقه، أو ننام على الأرض عرايا كما ولدتنا أمهاتنا بلا مبالاة منا. نفعل كل ذلك وأكثر دون أن يلومنا أحد، بل العكس نري ترحيب وتهليل من الكبار. وهكذا يتهادى قطار العمر في هذه المحطات الطفولية، ونحن لا ندري لا أسماء الركاب ولا الأماكن ولا أسباب الحياة؛ فتنتهي هذه المحطة سريعًا دون أن تحفر في الذاكرة أية خطوط ندركها، ولكنها بالطبع حفرت الكثير والكثير من الذكريات عنا في عقول الركاب.
ثم يغادر قطار العمر محطة الطفولة ويجري بركابه إلى محطة الصبا، ويسرع القطار قليلًا وعلى مقاعده الأهل والأقارب ونبت الذكريات، والتي تبدأ في الإزهار وتبدأ النفس في إدراك معاني الأشياء ومعنى العلاقات والابتسامات، ومعنى الفرح،والحزن والبكاء. ويجري قطار العمر من محطة الصِّبا منتشيًا راغبًا في حمل كل الناس وفتح أبوابه لكل الركاب؛ فينتشي ويصهل ويضحك ويغني مع كل من يغني من الركاب.
ويغادر قطار العمر سريعا محطة الصبا ويجري منتشيًا فاتحًا ذراعيه وصدره، وهو يدخل محطة الشباب الكبرى التي كانت تبدو للنفس بعيدة، ولكنه يجربي بنا فيها فجأة ودون أن ندري. والعجب أن قطار العمر في محطة الشباب هذه لا يأبه بأسماء المحطات، ولكنه يقف في كل منها سريعًا؛ لكي يستنشق الركاب عبيرها ويسلموا على أهلها ويرتشفوا من رحيق كل أزهار وورود جناتها، ومن كثرة وجمال الأزهار يتمنى الركاب أن يعيشوا فيها كل العمر. ويزدهر القطار بالباعة وكل ما تشتهيه الأنفس من إغراءات، وتتنافس النفس الشابة مع كل ركاب القطار في الفوز بكل المنتجات، وتجتهد النفس وتجري يمينًا وشمالًا بكل قواها، ولكن في اللحظة التي تفوز فيها ببعض ما تمنته؛ تُفاجأ النفس بوصول القطار إلى محطة مكتوب على رصيفها محطة الكهولة.
ويتوقف قطار العمر بمحطة الكهولة؛ ليركب أُناس وينزل أُناس من مختلف الأعمار، ثم يقلع القطار سريعًا في ميعاده غير عابئ بمن لم يركب ومن لم ينزل. وتُفاجأ النفس برحيل الكثير من الناس والأشياء؛ فتتحسر على الوقت الذي ضاع بين محطة الشباب التي أنستها تمامًا قدوم محطة الكهولة. وهنا تسرع النفس في لملمة أشيائها وذكرياتها التي تناثرت حولها وثقلت عليها، فلا تدري أيًا من الأشياء وأيًا من الذكريات تأخذها، وأيًا من الناس تتقرب إليها بعد الوصول إلى هذه المحطة التي لم تكن لتتوقعها.
ويجري قطار العمر كما لم يجرِ من قبل، وكأنه قرر ألَّا يُضيِّع وقتًا في التوقف في محطات أخرى كثيرة؛ فقد تعب الركاب وضاق بهم السفر وضاق بهم الزمان والمكان. وفي زحمة لملمة الأشياء والأشلاء يُصفِّر القطار صفارات لم يطلقها من قبل، وكأنها صفارات نذير لكل الركاب ليعلن القدر فجأة عن اقتراب محطة الشيخوخة. ولا تمرُّ ساعات قليلة حتى تفاجأ النفس بدخول القطار رصيف محطة مكتوب عليها "مرحبًا بكم في محطتكم الأخيرة: الشيخوخة". وتنظر النفس حولها لتجد أحمالها وقد تثاقلت ولا تستطيع حملها ولا تستطيع تركها، وتتحسر النفس على ما فات من محطات كبرى مرّت عليها في الطريق ولم تتزود منها بعد أن ألهتها مفاتن القطار ومن فيه.
ويدخل قطار العمر محطة الشيخوخة رويدًا رويدًا والنفس تتمني لو كانت الرحلة رحلة عودة، ولكن القطار لا يعود أبدًا إلى محطة البداية والميلاد. وتعيش النفس على فتات الذكريات المتناثرة هنا وهناك على أرضية قطار العمر. وتبكي النفس عندما ترى بأم أعينها أقدام الركاب وهي تدوس على بقايا الذكريات غير عابئة بأصحابها. وتبحث النفس في القطار عن أقرب مقعد تجده شاغرًا؛ لتجلس عليه لعلها تهدأ وترتاح منتظرة وقوف القطار في محطته الأخيرة.
وفجأة يتوقف القطار تمامًا؛ لتغادره النفس محمولة على أكتاف بعض الركاب رؤوسهم مشغولة بقطار آخر هم في انتظاره.
وهكذا يتحرك قطار العمر في أولى محطاته بدون استئذان، ثم يجرى ليمر بكل محطات الحياة أيضًا بدون استئذان، ثم يقف في آخر محطاته أيضًا بلا استئذان.
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا
كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر