22 أغسطس . 16 دقيقة قراءة . 168
إنه أول يوم في منتصف العام، مطلع شهر حزيران، وقد باغتنا الصيف باكراً جداً، بقيظ لم نعهده هكذا من قبل. موجة الحرِّ هي حديث الناس وأكثر ما يشغلهم في الآونة الأخيرة، الذين غالباً لم يعد لديهم شيء البتة يتجاودلون حوله أو يتفقون عليه (وهذا بالطبع سمة عصرنا الحالي). على كُلٍّ، من محاسن هذا الطقس الدّبق أنه على الأقل وَحّدَ الآراء بين الجموع وَوُجِدَ حَدَثٌ ما اتفقوا عليه. ها أنا بأشد حالاتي سخرية من نفسي، وفجأة إذا بي هززت رأسي بقوة، وجحظت بعيني، ونفضت هجوم الأفكار هذا. وسألت نفسي باستهجان واستخفاف، ما بكَ؟ ماذا هناك؟ لماذا تخطر على ذهني هذه الأفكار والتحليلات الآن؟ ما الخَطب يا ترى، فقد تعاهدت ونفسي بعدم التفلسف البتّة والاكتفاء بالمراقبة والحياد.
حسناً، حسناً، تذكرت! إنها الثانية ظهراً، إنها لحظات الذروة وأسمى درجات الحرارةِ حرارةً، متزامنة مع انقطاع كل وسائل وأشكال التبريد البدائية والحديثة، وأنا على غير عادتي، أو بالأصح على عادتي الجديدة، مستلقي على الأريكة في غرفة النوم شبه المعتمة وقد أرخيت ستارها، ويدي اليمنى ترتكي على جبيني واليسرى تسند بطني كالرايّة على تلّة، محاولاً أن أغفو قليلاً، وهو أمر لم يكن يوماً جزءاً من برنامجي أو أسلوب حياتي سابقاً، وفي المرات القليلة التي اضطررت للممارسته، طالما صحوت منزعجاً، مقلوب المزاج، مع ألم في الرأس، واشمئزازٍ في الأنف، وامتعاضٍ في المُحيّة، نادماً على فعلتي، وكأنني ارتكبت خطيئة كبيرة انتظر العقاب عليها. مفتكراً وعاتباً بلومٍ على الأشخاص الذين لا يستطعيون تخيّل الحياة دون هذه الغفوة، فيا للغرابة. وكيف يصيبهم ما أصابني إن عكسنا الأدوار، في حال لم يحصلوا على قسط من الراحة كما يدعونه غفوة الظهيرة؟!
فالدّرس الأشهر على هذه الكرّة أنها قَلّابة لا تُبقي لاعباً على حاله، وهذا حالُ حياتي التي تغيّرت كثيراً في النصف الأول من هذا العام، وتغيّر معها العديد من الأشياء والأمور والعادات والطبائع، وعلى رأسها شخصيتي. أجل؛ بعض الأحداث أحياناً تكشف لنا كم نحن عرضة لتقبّل التغيير بشكل واعي أو غير واعي، وتفتح لنا باب التفكير في أسئلة كثيرة حول علاقتنا بالمحيط الصغير والكبير، وعلاقتنا بأنفسنا ومدى عمقها، وإلى أي حدٍّ نؤثّر ونتأثر، وأيهما أكثر، قُدرتنا على التـأثّر والتغيّر، أم إمكانيتنا بالتأثير والتغيير، أو بالحد الأدنى كم نملك من القوّة لحفظ ذواتنا وثوابتنا من التلاشي والذوبان إما بالإنسلال رويداً رويداً، أو بانقلابات جذرية تفاجؤنا قبل أن تفاجئ الآخرين.
ها أنا قد عدت لأنفض رأسي مرة أخرى، مستنكراً على نفسي تشتتها وشرودها عن الموضوع الرئيسي الذي استلقينا من أجله، ألا وهو النوم، الذي أساساً تجمعني به علاقة غير جيدة، ونزاع دائم، فكيف أمام مثل هذه المعطيات؟ استدرت قليلاً في بركة التعرّق التي كنت أستلقي فوقها، بأقل كمّ من الحركة كي أخفف ما استطعت أي جهد من شأنه أن يجعلني أتعرق أكثر، وغصبت عيوني كي تغمض، وأجبرت رأسي على قفل بابه أمام هجمات الأفكار.
ما هي إلا دقائق فعلياً، وها هي المحاول الثانية تبوء بالفشل، أين المهرب؟ لابد من ثغرة يتسلل منها العدو، وما أكثرها في الأراضي المقفرة، فهي قليلة المناعة، ودفاعاتها بالمجمل هشة. خاصة حين تتنبّه لضعفها وتدركه، بعد أن كانت قوية ومتماسكة، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً بالحفاظ على مكتسباتها وممتلكاتها. وخسرت أمام الواقع والمتغيرات، ولكن بقي منها النذر اليسير الذي يجعلها بسبب وعيها السابق قادرة على رؤية الحقيقة فيما كانت عليه وآلت إليه، والتألم بسببها وتذكّرها المستمر لحالها القديم، ومقارنات لا تنتهي مع واقعها الحالي، والعيش بحسرة الجمال المفقود والامتعاض من سمات الشخصية الآنية. والاستسلام للظن بأنها لم تعد تملتك أية مقومات للعودة لذاتها التي كانت تحبها ومؤمنة بها وتتغنى بمزاياها وشمائلها وفضائلها.
حاولت الاستغناء عن فكرة الغفوة، ووجدت أن أفضل ما يمكنني فعله هو أن أنهض لشرب الماء، البارد، إن حالفني الحظ ووجدت بعضاً منه فيما كنا سابقاً ندعوه بالثلاجة أو البرّاد لأن هذه مهمته عملياً أن يبرّد المواد الغذائية ويثلّج بعضها بهدف الحفاظ عليه من جهة، والتلذذ ببعض المواد وهي باردة كالماء والفواكه مثلاً.
لا حول ولاقوة، ما زلت لا أدري لماذا أفلسف المواضيع اليوم إلى هذه الدرجة، لقد بتّ ممتعضاً حتى من نفسي ودائم الشكوى ليس فقط من الخارج بل منها أيضاً، فحتى هي لم تعد تعجبني كسابق عهدها. أصبحت أجبر نفسي على تذكر أنني أحب الفكر والثقافة والفن والمسرح والأدب والموسيقى، عبر الاسترسال لهذه الأفكار التي في البداية أنتشي لها ومعها، ثم ما ألبسُ أن أتشنّج وأرتجف وأكشّر، متفكّراً، ماذا سيأتيك من هذا الإثبات لنفسك؟ ما المكسب الذي ستحققه؟ فأنا لم أعد أذهب إلى عرض مسرحي أو بالحد الأدنى لا أسمع الموسيقى التي أحب مع قهوة الصباح!! وبالكثير أفخر إن أكلمت مقالة!!
كفاني أتعارك معي، مللت هذا النقاش مع ذاتي. سأقوم، سأتجلّس نفساً وجسداً، يجب أن أغير وضعيّتي ومكاني، هذه كانت إحدى نصائح الأخصائي الاجتماعي الذي زرتُه مرّة ولم أكررها حتى، رغم إعجابي به وبسعة معلوماته وأسلوبه اللطيف إلا أنني وجدت أسبابي لخلق علل فيه وامتعاضٍ منه، علماً ان السبب الحقيقي مللي وضجري. شحذت همّتي وشددت العزم وقررت التوجه نحو المطبخ، هللويا صرخت في داخلي كالمنتصر، قد تحرّكت أخيراً، وما إن وصلت، حتى أخذت أسأل نفسي ماذا أفعل هنا؟ لماذا أتيت؟ عدّت خطوتين إلى الوراء لأتذكر، أمر مضحك وكأنك ترجع شريط الكاسيت. أه افتكرت، أنا هنا لأشرب، ولن أسمح لي بمعالجة أي فكرة أو شعور ينتابني، سأقاومها جميعاً، وأبحث عن بعض الماء البارد وأعود من حيث أتيت، إلى الفراش أكثر مكان أقصده مؤخراً بعد أن تغير الكثير في مسار حياتي وذاتي ويومي الذي أصبح طويلاً جداً وكريهاً وعفناً.
بالتأكيد ودون أدنى شك، ودون أن أتأثر، خاب ظني وأملي، كما بكل شيء طبعاً، فلا وجود للماء البارد، وكي لا يبوء كل المشوار بالفشل، بللت ريقي بالقليل من الماء الفاتر المحفوظ بالثلاجة، فخَيارُ الصنبور غير وارد، فإما أنه من ماء الخزان الذي يتلظى على السطح بسهام الشمس المستعرة، أو الحنفية الرئيسية التي لا يوجد فيها ماء بسبب التقنين والترشيد، المبرمج والممنهج والمقسّم على مبدأ عدالة التوزيع. ها قد بدأت أشتم رائحة أفكارٍ تهرب مني لتصتف بأسياخ شهية على موقد بفحم طبيعي وتفوح نسائم الشواء. تعالي تعلي إليّ، عودي إلى رشدك فهذه الأفكار لا يمكن أن يخرج منها إلا رائحة احتراق النايلون، وتودي بك إلى ما لا يحمد عُقباه دون أن تقصدي. لملمت أسياخ الأفكار ورششت ما تبقى من كأس الماء على فحم رأسي. وعدت إلى رشدي مصطحباً إياه إلى الفراش، لأعيد محاولة الهرب من الوقت والصحو والوعي والأفكار والخيال والوهم إلى غفوة قد تقلّص من ساعات النهار الممتدة دون نهاية نحو الليل الذي معه تباشر قصصاً وحالات أخرى.
كالعادة، في طريق الرجعة، بين المطبخ والغرفة، صادف أن باب الحمام كان مفتوحاً، وعلى الحائط قبالتي مرآة فوق المغسلة، كبيوت كل الناس. وقفت مسمّراً بأرضي، وشعرت للحظة أنني أشبه أمرين، حافلةً مسرعة على الطريق السريع وفجأة إذا بكلب شارد جفل أمام السائق. والشعور الثاني حين رأيت ذاك الوجه الذي ذكّرني بوجهي، كالحرباء الخائفة من حركة مباغتة من عدو محتمل، وتماهت مع لون المكان الذي تقف عليه، تمنيت أن أشبه ذاك الوجه الذي كنته، أن أعود لمحاكاته والتماهي مع شخصي المحبوب.
ما هذا الوجه الذي في المرآة، وجه من هذا؟ يشبه وجهاً لطيفاً عرفته. وقفت حائراً، حفظت الصورة جيداً، وأكملت سيري عائداً نحو الفراش، كي أتابع التفكير ومحاولاً النوم، ساخراً من نفسي. لم أستطع تفادي الحالة بأسرها، لا ما رأته عيني ولا ما تبادر إلى رأسي، بالطبع أنا أعرف وجه من هذا، إنه وجهي، إنما بحلّته الجديدة. إنه أنا الجديد، الذي أجاهد كي أتعود عليه، هذا التحوّل الذي بدأت جدّياً ألاحظه منذ مدّة قصيرة، ففعلياً أنا لم أعرف متى بدأت مرحلة الاستبدال بشكل دقيق، ولكني أستطيع تحديدها من اللحظة التي بدأت بملاحظة هذا المولود الجديد. أحياناً أبالغ بجلده وقتله ودفنه، وأحياناً أشعر بعجز أمام محاولات التخلص منه، فأبادر لعقد صفقات خاسرة معه، غالباً ما تأخذ منحى الوسطية بين القديم الذي يضمحل تباعاً، والجديد الذي ينمو متسارعاً. وغالباً في النهاية انهزم أمام مبدأ الوساطة المترجية التي تحافظ على احترمها دون الاضطرار إلى إعلان خسارتها.
وصلت إلى الفراش، وأخذت الوضعية ذاتها، كم كنت أحب حالة الرجل الآلي، شخصي المبرمج على الترتيب والتحديد والتقسيم والمواعيد. كل شيء بمكانه وفي حينه، كل الأمور تسير بلياقة وترتيب وهدوءن شخصية نمطية بجدارة.
في الوقت المحدد، قد وصلت لا تخطئ بشعرة، هاهي الدموع بدأت تسيل، على عادتها الجديدة أيضاً، تشق طريقاً لها على حافة وجنتيَّ، بسلاسة ونعومة مع حرقة بسيطة دون أي اضطراب شعوري أو تحرك حسّي وعاطفي، ولا حتى رجفة جسدية. بين الدموع والحر والتعرّق والغضب والحسرة، زادت رغبتي بالنوم وزادت مجافاته لي، هل هو المكيود أم أنا أرغمه عليَّ. هه، حتى النوم المريح لم يسلم منّي، كم تَعِبٌ ومحطّمٌ هذا الرجل الذي بتّ عليه، تارة ساخر، لامبالي، ممتعض، وانطوائي، حزين. وتارة نادرة، جديّ، عطوف، لطيف، اجتماعي، متحدث وهادي. ياله من فراش! هل العلّة فيه يا ترى؟ أم إنها تكمن في جمجمتي؟
حكماً أعرف الإجابة الصحيحة، لكن هذا الشكل من التفكير الهزلي، بدأت تظهر معالمه منذ بضعة أشهر، مع آخر يوم عمل لي، وأول يوم في منعطفي الجديد كعاطل عن العمل، فكي لا أصاب بنوبة قلبية أو نوبات هياج عصبية، آثرت التعاطي مع الواقع بطريقة مختلفة عن عادتي، كي أحمي نفسي وأقي من حولي شرّي ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
اذكر ذاك اليوم جيداً، ولكني اذكر جدّياً آخر حوار لي مع صديق في العمل في الساعة الرابعة ظهراً، آخر الدوام وآخر الأسبوع وآخر دوام لي. لكني إلى اليوم لم أكن أدري إن كان هذا الحدث أو الحوار حقيقة أم وهماً، هل حصل حقاً، أم أنه في مخيلتي من شدة الحر أو البرد حينها.
جاء فيه: مرحبا رحيم، كيف حال المحارب الصنديد؟ أنت تعلم كم حزين أنا من أجلك، سنشتاق لك. وأنا صامت أسمع. أما زلت تحصي عدد الطعنات؟ هل جاوزت الدزينتين أم بعد؟ لم أعرف بماذا أجيب!! نظرتُ حولنا، لا كأس القهوة بيسراي، ولا كتاب بيميني، ولا قلمي أمامي ولا دفتر بحضني، فكيف ينبغي أن يكون جوابي؟
أخذت نفساً عميقاً جداً حنيت رأسي قليلا، وأجبت: منهك جداً، نعم هذا حالي، يعضني التعب، أشعر وأسمع بأن كل صوت في الوجود يدوّي في رأسي، صوت الضجيج أعلى من إحساسي بالطعنات. أتدري في جسمي قسمان من كتفي لقدمي منحَلٌّ، خائر. وعلى رقبتي يتوضّع مرجل تغذي نار حطبه ريح صوت صفيرها يربكني. سؤال واحد ينخر كطائر نقار الخشب، ما نفعي الآن؟ ماذا سأفعل بعد اليوم؟ كيف سيغدو شكل الحياة؟
أجل رحيم، هذا اسمي، أو بالحري هكذا ارتأى والدي تسميتي، فحين علما أن أمي حامل، بعد كثير من المحاولات والتبعات الطبية وغيرها وسواها وما تسنى وتيسر لهما حينها منذ خمس وأربعين عاماً. وهكذا شاءت الأقدار دون أي تدخل ملموس أن تحبل والدتي، فقررا أنه هذا المولود هو بركة ونعمة من الله سبحانه وتعالى، وكونهما متعلمان ومن طبقة مثقفة ويجمعهما حب كبير وإيمان عميق. فكّرا مليّاً بالاسم، كي لا يكون عادياً وعلى حجم الحدث وقيمته وجماله. وهكذا طيلة تسعة أشهر من الحمل والتفكير، برزت فكرة الاسم بوَحيٍ يشبه عجيبة الحبل بي، وصرَخت أمي حين ولادتها "يا رحيم، ارحمني" ليقول أبي إنه اسمك أيها المولود الجميل، لتكن رحمة لنا ولتكن حضوراً للذي وهبنا.
طالما أحببت اسمي، وأحببت رنّته ووقعه على أذني، وكل من ناداني به، وأحب معناه وقصته، وكل الهالة التي تحيط به طيلة كل سنوات حياتي، وأحبّ أن أشاركها وأخبرها، كما أنني كبرتً وأنا اسمع عبارة "يعيش ويحمل اسمه" "الله يعطي من اسمه". كبرت ومرّت الأيام وكان كل همي أن أشابه هذا الاسم الجميل وأن أكون جميلاً مثله، رجلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يشبه الفرسان بخصاله وفضائله وحسن سيرته وسمعته. وأظن شبه جازم أني هكذا كنت. وهكذا كان صيتي. وقد عشت سعيداً لأني حققت رغبة أبواي ودعواتهما من جهة، ولأن حياتي في أول أربعين منها كانت جميلة حقاً، بكل تفاصيلها، حتى هفواتها وسقطاتها وكبواتها.
هل مازلت أحب اسمي كسابق عهدي يا ترى؟ نعم جداً، لكني الآن أخاف منه أيضا أو أشعر أنه بات عبئاً عليّ أو ثقيلا ربما أو كبيراً وفضفاضاً، فأنا لم أعد أهلاً له أو مستحقاً لعمق معناه. لكن بعيداً عن هذه التفاصيل، فكلما رغبت بالنوم حالياً، أعود لاجترار قصة اسمي، لأشعر بالاسترخاء والرضى، وأغفو على وقع ذكرياتي وصوت قلبي الراقص المتهلل.
غفوة الظهيرة! هذه الدخيلة على نسق وسياق حياتي، دوماً هي عادة غير مستحبة لي، وخاصة وصولها مع موجة الحر اللاذعة. هذه العادة أصبحت مساحة شبه يومية للأسئلة الذاتية والوجودية، جلسات مع بقايا رحيم أحببته، وشتلات من رحيم لا يعجبني.
أستحضره كلما سنحت الفرصة لي، كي أقيس في كل مرة قدرتي على استشعار إحساسي ومقدار تأثري، وكل يوم تقريباً أبدأ من الصفر، وأعيد محاكاة هذه العلاقة، كي أستفهم من نفسي إن كنت ما زلت أتأثر، وانطلق من فرضية "لا أدري".
فماذا لديّ كي أفعله سوى الاسترسال للحديث مع رأسي؟ أربعيني، عاطل عن العمل، وكي لا تنهار كل منظومتي، وما أظن أني بنيته وأنجوته، أمرّن تلافيف مخي كي لا تصبح مثلي بطّالة وعاطلة عن العمل، فكلما طالت فترة النقاهة سوف تستصعب العودة للدوران من جديد، وعجلة الإنتاج تصدأ وتصدر صوتها المزعج عند وصول الكهرباء، التي لا نعرف عنها سوى اسمها.
لهذا، استلقي بين رحيمين، يتبادلان ويتجاذبان الأحاديث عنهما وبينهما، ويسأل رحيم القديم رحيماً الجديد
• انظر حولنا، انظر داخلنا، تحقق جيداً مما يجول ويجري، أمعِن الرؤية بعمقنا المعتاد، دون تكلم أو أحكام، فقط نظرة ثاقبة وموضوعية. ألا تشعر بفقدان النكهة؟ هل ما زلتَ قادراً على تلمّس الروائح الذكية؟ هل هناك ما يثيرك؟ أين هو المعنى الذي كنت تبحث عنه في كل التفاصيل وتستشفه برهافة في كل الخلايا ومسامات الوجود؟
أما زالت تفرحك قطرات المطر؟ وتَسعَدُ بانتظارها بعد هذا الصيف المبكر؟ هل ما زالت تدهشك حبيبات الثلج الأبيض؟ أما زال يقشعرُّ جسدك عند رؤية البحر في كل مرة وكأنها أول مرة في كل مرة؟ هل ما زلت تفرح كالطفل باختباره كل أمر وحالة وكأنه أول مرة؟ أتذكر كيف كنّا نتفاجئ لذات الأمر كلما تكرر، ويطفو ذات الشعور كأننا نختبره لأول مرة بذاكرة ممسوحة، علماً أن رقمه ألوفاً بعد الألوف ولا نألف. لابد أنك نسيَتَ يا رحيم تلك الزاوية في دماغك التي تنبّه حاجتك ودافعك للتمتّع بالوجود وحضور الغيبيات والذكريات.
• يجيبني رحيم الجديد هازئاً، ربما ذاك الموضع في الجمجمة أصابته عاهة أو تم استئصاله بخفّة، أو أن الوقت وحده كان كفيلاً بضموره حتى الزوال. وتأتينا أنت في كل يوم لتسأل نفسك: "ما قيمة ما فعتله وأفعله؟" ماذا تتوقع سيكون جوابك لنفسك، وردّها لك؟ أولستَ فقط بهذه الحيلةِ تهرب من الحقيقة وتلاحق سرابها، لا بأس فإن هذا السراب أمر طبيعي بسبب درجات الحرارة من جهة ورؤيتك البعيدة للقضايا، كسيارة في الظهيرة على سراب الطريق العام، هاهاها.
حسناً لا عليك، لن أسخر منك أكثر، لنفترض جدلاً أنك تمكّنت من الإجابة على تساؤلاتك، وقمت بتدوين الردود على ورقة وبقلم أزرق تحبّ خطّه ومعه الحالة برمتّها وتنعش روحك. طيب! وبعد أن تنتهي، وفي حال عُدت لقراءة إنجازك ونتاجك، هل ستنفعك وتقنعك حججك؟ برأيي كلا. لكن لا مانع من المحاولة، لن أمنعك، هاها.
• هلّا توقفت عن الكلام رجاء، كيف لا يمكنك أن ترى أن كل الأشياء باتت مسطّحة، لا مقعّرة ولامدببة حتى، مُفرغة من معناها، تسبه لعبة العيد الرخيصة محشوّةً بمعنى جديد بشع وليس على مقاسها، لتبدو أنها حقيقية وتغريك أنها لعبة، ويغرّك مظهرها الخارجي المجمّل والمشوّه، في حين أنها هي ونحن نعلم بأنها مزيفة وأنها ليست الحقيقة أو أصلية كالثمسنة التي في واجهة المحل. شخصياً أرى أن كل شيء مسّه قانون النسبية وصار مُعمم، ووضِع تحت مجهر النقد والدراسة، والمعايرة، وانقلب الشذوذ والانحراف على البديهة والمسلمات والطبيعة، بحجة انعدام المقُدّس. فالحقيقة اليوم لا تمثل كامل قطر الدائرة، بل تكتفي بقبول الزاوية التي يقف عندها حامل البيكار وراسم الحقيقة، وطالما أن الرسام ناقص وله مشيئة والألوان ناقصة وليس من لوحة تتسع لكلها، فحكماً ستكون الحقيقة ناقصة وبهذا لن تكون حقيقة أو حَقّاً.
نعم، لهذا أنت لا تود النظر حولك معي يا رحيمي الجديد، أفهمك جيداًن وحقك، فنحن جسد واحد من حقبتين مختلفتين تماماً، لا أنت قادر على تذكرها، ولا أنا قادر على التخلي عنها أو تناسيها على الأقل.
• كلا يا عزيزتي، اسمح لي فأنت مخطئ جداً هذه المرة، على الرغم من عدم احترامك لي، لكني سأخبرك لماذا أهرب منها. الحقيقة يا رحيم جارحة، وأنا لم أعد أطيق لنا ثقوباً جديدة، ولست قادراً على سحب عجلة القدر، وتسلّخت يداي من لعبة الحبل وآثار الوتر، وما عدت أقوى على المعارك الخاسرة، وكما ترى أقف على ناصية الرصيف متفرجاً، فلن أسير بعد اليوم ضد القافلة ولست أستطيع ولا أريد المواكبة.
سأكتفي بالاستناد إلى الحائط، وألوح بيدي وأحيي المارّة، وأعدّهم وأسجل على جدران موقف الحافلة قصصهم المفترضة، علّهم يقرؤونها يوماً أثناء مرورهم برحلاتهم اليومية من وإلى حياتهم اللاهثة والفارغة دون أن يلحظوا أنهم أبطالها، وأننا ندوّن أوجاعنا وننسى أفراحنا. ويتسائلون يا ترى من ذاك المجنون الذي ترك تلك الأسئلة؟ ربما توقظهم علامة استفهام أو تستوقفهم إشارة تعجب أو حتى فاصلة، قبل أن يصلوا إلى نقطة النهاية، بعد أن أثار إعجابهم خط كاتبها. لكن انتبه جيداً لكلامك معي وظنّك بي، فأنا صحيح أني لم أعد أشبهك، لكني أيضاً لم أصر واحداً منهم وإن أصبحتُ آخراً.
• ياه يا رحيم، للحظة ظننت أنني أحلم، يبدو أنك ما زلت تتأثر!! جوابك جعلني أشعر أننا عدنا لنطابق الصورة بلوحة واحدة، وأنني رغم التناقض ما زلت واحداً، وخوفي على نفسي منك تضائل قليلاً، كم جميل هذا الاختبار، هل هو حقاً حقيقي؟ أجبني لو سمحت؟ اعذرني إذا ظلمتك.
• بالطبع لا ونعم في آن، حاولت فقط أن أعطيك صورة عن بعضٍ من توازن بيني وبينك، بين ما ترجوه وبين الحقيقة الجديدة، وغوصك في عوالم المُثُلِ السالفة. دعني اسألك كي أثبت لك برأيي اللاجدوى.
ماذا تفعل كل مرة حين تقسو عليك الحياة؟
• كما أفعل دوماً، أذهب إلى الذكريات الجميلات
• وإن شحّ فيها الجمال!
• هربت إلى عالم الأحلام أيام الشباب
• لو كانت الأحلام كوابيساً وسراب؟
• تجدني جالساً هنا وإياك نجترّ المحاولات.
أدركت لوهلة أنني كنت في غفوة، وأن ما رأيته كان كابوساً، وليس حقيقة وليس حواراً جدّياً بيني وبيني، لأني كنت قد أخذت عهداً على نفسي مع رحيم القديم ألّا نجعله يتغلب علينا وإن فاز بجولة أو بعبارات السياسة ربح معركة، فإن الحرب بيننا على ما يبدو طويلة ولن نسمح له بالفوز على الجمال والحق والفضيلة.
هذه التناقضات الجسيمة تمنعني من الخلود للنوم، وتقضّ مضجعي وتقضي على باقياي الهزيلة، الوقت يمضي وتستمر محاولاتي الفاشلة بسبب الصراع بين الرحيمين، فهما لا يتركان فرصة من اليوم إلّا ويتسابقان إلى الجدل المرهق، ومحاولات الإقناع الواهية، وأقع أنا بين دفتي الرَحى، بين حنين ذاك لحاله وحالته المتداعية، وأسير واقعية الجديد الجَلف والصلب، الذي تدريجياً يشبه عالم اليوم الجاف كالتربة العطشى في هذا الحر الذي يسلخ جلدنا.
وفي النهاية محاولات الوساطة العبارة الدارجة في زماننا، رحيم الحُلو يستجديه مستعطفاً إياه الانسحاب فهو لا يشبهه ولا يريد أن يُستبدل بهذا الذي كلما غضب وفاضت عيناه بالدموع يناديه وينعته بالــ "رجيم" وصوته داخلي يرتجف ضعفاً وشوقاً ويناضل بنعومته هذه وأدبه لدحره بفعل قوة الخير الخفيف وشهوة السلام.
مستخدماً أشلاء أسلحة في الماضي كانت مفيدة، ويصف لي كيف أصبحت الآن بكلمات يومية:
"حتى روتين الحياة يضمر
في الصباح تقاليد تتساقط، تهين هشاشتها نسمات الربيع، فيالا ضعفها
كانت القهوة سأجدى أسلحتي، وكانت تصنعني وتعيد تشكيلي،
أما الآن فأنا فقط أغليها وبضجر أحاول صنعها بالطريقة التي أعتدتها
أما القراءة فسيفي البتّار، تؤلفني وتآلفني، واليوم لأمّتي أقرّ وأشهد
كانتا غمد سلاحي الأقوى، وجناحاي وريشتي لأكتب وأرسم المشهد
حائر، تائه أنا، لا أدري من منّا تنازل، ولا علم لي من أولاً ابتعد!!"
أتدري يا نفسي، يا رحيمي ورحمتي، إننا لا ندرك أننا مجموع عادات إلّا حين نتعب.
• أتعلم! منادياً نفسي طبعاً، إنها الرابعة عصراً، مرّ ساعتان وأنت لم تنم، كلا مستحيل عجباً، أكلُّ هذا علماً كان أم حلماً؟ في كل يوم عليَّ أن أتمنى ذات الأمنية وأترجى النوم كعبد في معتقل.
• إن أكثر ما زال يثير عجبي بِكَ هو إصرارك، وأنك تعتقد أنه بإمكانك بهذا الإلحاح أن تفوز، في حين أنك كل يوم تزداد استنزافاً وتهتّكاً، وإني لأتألم من أجلك. فأنت حتى نوم الليل لطالما عانينا معاً من أجل بضع ساعات تجمعنا به كي تريح عاصفة الصحراء التي لا تنفكّ تستهلكك وتّصفُرُ برمالها وتترسب كثباناً مع كُتل الشوك على حواف قشرة دماغك. لا لا والأعجب من كل هذا أنك تصحو باكراً وبكامل نشاطك وفي ذروة حماسك. يالا بأسك وبؤوسك.
تعبت مني يا رحيم؟ أستسمح لرَجيم باحتلالك وأخذ مكانك؟ أيعجبك أن تُستبدَلَ بهذه البساطة وتزول كقطعة ثلج في مهبِّ هذا الطقس؟ أين ستذهب، هل ستتخلى عني؟ أين ستجد لكً رحيماً آخر مثلي؟
خذني معك، أو صارع معي. ممن أنت راحل، أمِني أم من الدخيل الجديد؟ أنت تعلم يا أنا، أنني أيضا تعب من الاثنين، من حالي ومن رحيم الجديد، وأنه بات ثقيلاً ويضغط على صدري، وإزاحته كلما كبرت مساحته تصير أصعب، وتأتي أنت لتلوّح لي براية الرحيل!! يالك من جبان. ما ظننتك هكذا.
نحن محكومون بالتغيّر يا رحيم، وأنت ترى ذلك من ذاتك، والعين لا تقاوم المخرز، نحن أضعف من مقاومة السيل الجارف العَكِر، ألا ترى سرعة الانهيار في العالم والتراجع والانحدار؟ هل ستبقى وحدك؟ كم ستصمد بعد؟ ما مصير مبادئك وقيمك وثوابتك والشعارات التي تعيشها وتنادي بها؟ إن أكثر ما يؤلمك هو انهيار البديهيات والمسلمّات وكيف تم القضاء على جذورها ونبش تربتها.
قبل أن تقرر النهوض من الفراش ومخاصمتي حتى أنا، أخبرني مَن ومتى آخر شخص سألك كيف حالك؟ ما هي آخر أخبارك؟ أتذكر من كان آخر من يهتم لأمرك وشؤونك. بعد كل لقاء لأحد في الشارع أو لزيارة تقوم مرغماً بها أخبرني كم تكون مُحبطاً؟ فأنت تستنبط كل قدراتك كي تسأل عن كل التفاصيل التي مرت بغيابك وتهتم لحال كل من حولك، وتجرّب كل الطرق لاختلاق أحاديث وحوارات مهمّة ولتقول بعض الكلمات الهادفة علّك توصل رسالة. وفي النهاية، ماذا؟ أجلسُ هنا معكَ على الفراش كي أواسيك وأطبطب على كتفك وأقنعك بحمام ماء ينعشك ويغسل عنك رمال اللقاء وآثار خروجك من جُحرك، وأجبرك على تمتة بعض الأدعية علّك تغفى.
كفاك، أصمت، لم أعد قادراً على سماع دوي صوتك حتى أنت، لا يمكنني تخيّل أنك تحاول إجباري على هذه القناعات وأنك تَلبَسُ قناع رجيم وتخلع جلدك الجميل. ماذا حلّ بك؟ ربما أنت تهذي بسبب الشوب وقلّة النوم، أنا متأكد من هذا الأمر، هيا لنقم من هنا ونبدّل مكاننا مرة أخرى، ألا تذكر، هذه كانت إحدى نصائح المرشد عند احتدام الأفكار علينا. اعتقد جازماً أنه علينا مغادرة الغرفة إن كنت تود المجيء معي، كل المعطيات توحي لنا بالرحيل، وسنغلق الباب خلفنا قبل أن يأتي رجيم، فعلى ما أظن هو يحب هذه الغرفة وهذا الفراش وهذه الوضعية، فالنتركه معهم ونباغته علّه لا يلحظ رحيلنا إلا بعد فوات الأوان، ونكون نحن قد استمتعنا مع بعضنا بشيء من الوحدة والسلام القديم والأفكار المفعمة بالودّ واللطف والرجاء، نستذكر أيام كانت الإنسانية هي السائدة والأخلاق هي المتوَّجة على الناس ملكة، يوم كانت العدالة في الرحمة والتأديب والتأنيب بلطف محبة، حين كانت الناس تبتسم لك دون سبب وأول سؤال "كيف الحال؟ بعد المرحبا" تعالي يا نفسي معي نلعب لعبة المنام، وأحلام اليقظة، فنتظاهر بالغفوة ونجبر الأحلام لترافقنا، نصطنع قيلولة ونغمض أعيننا كطفل نَعِسٍ، يقاوم الوقت ويصرف كل ما تبقى من جهد، وفي النهاية بلحظة كمن يفصل عنه التيار، يبكي ثم يكبي وينام ساكناً وكأن شيئاً ما كان.
أأنت مختل يا رحيم؟ أم تستمتع بتعذيب نفسك؟ أتلاحظ أنك تتحول إلى حالة من المازوشية النفسية؟ انتبه لكَ ولنا، فنحن مازلنا واحداً وأنا أحبك كما أنت وبالتأكيد أحب رحيمنا بنسخته القديمة التي تتكلم عنا بها. لكنني خائف علينا جداً، لم أعد أدري إن كان ما تفعله ربحاً أم خسارة؟ امتلاء أم استنزاف.
قف لحظة، اعذرني على المقاطعة، فقد استوقفتني عبارة "امتلاء" ياه كيف خطرت على بالك هذه الكلمة، ياله من شعور قديم وعميق، إنه ليس فقط مجرد إحساس لا بل هو حالة لا يمكن تفسيرها أو وصفها بكلمات اللغات مهما كان شاعراً أو أديباً أو فيلسوف. لم يبقَ عندي سوى نشوة الذكرى لآخر مرة عشت فيها هذه الحالة. إنه الخروج من الزمن، هو عبور لمرحلة من السمو والخفّة والانعتاق حيث تلامس كل المعاني الجميلة وأنت مغمور كما بماء صافي دون الحاجة إلى الهواء، تشعر أن سيلاً جميلاً يسحبك دون موج أو هياج أو انجراف. لا شيء يتحرك، كله ثابت، ولكنك بنفس الوقت تدرك أنك تنتقل عبر حالات وغمرات دون الحاجة لانفعالات أو مطبات. في ذاك اللامكان، تُباد الرغبة والشهوة والحاجة والإشباع، وكل الأسئلة والأجوبة. كيف؟ أجل حقاً فأنت دوماً تشعر بالامتلاء، وأن كلَّ شيء مفهوم وواضح دون عناء، وكل شيء متاح، ويغذّيك بالأثير أو بالنظر أو بطريقة غير مرئية، لكن المهم أنه لا يشوبها جهد أو تعب أو معاناة للوصول إليها. وأنك لا تأخذ منها إلا حاجتك. مع شعور بالرضى والامتنان والكفاية.
أتصف الجنة لي يا رحيم؟ أتذكّرني بما كنا فيه سوياً قبل سقوط رجيم علينا. يالها من أيام، كم تمنينا لو أن كل البشر قادرين على اختبار هذه الحالة والانتقال للعيش معاً ومعنا بسلام بذاك المكان. أتدري؟ ليت كان ذاك هو عالم الحقيقة وأننا نحن الآن في كابوس بشع نصحو منه على نسمة مروحة بعد أن تأتي الكهرباء.
أقارن بين حالتي آنذاك، كم كنت قوياً رغم بساطتي، شجاعاً رغم هزالتي، مُتّقداً رغم ضعفي، أما حالي الآن! فأنا تالف تماماً.
أحببت هذا الوصف "تالف" يبدو أن قدرتي على انتقاء الكلمات الرنانة والمصطلحات الدقيقة لم تتأثر كثيراً، أجد أنه لفظ معبّر جداً أشبه قطعة إلكترونية قديمة، فهي من جهة لم تعد تعمل ومن جهة أخرى أصبح هناك أحدث منها بأجيال، إن وُجِدَ مصلّح ماهر قد يجعلها تعمل لأيام، لكنها ستكون محطّ ضحكات الجيل المعاصر مما يجعلها تتمنى لو أنها تابعت موتها دون العودة لهكذا حياة، فهي لا تشبه ذاتها حين خرجت من المصنع بأفضل حال، ولا تشبه النسخ الجديدة، ولا تشبه شيئاً على الإطلاق، عدا شعور الترهل وانعدام الفائدة الذي تغذيه بعض الذكريات عن ماضيها.
يالكَ من غراب، حتى في اللحظات التي من شأنها أن ترفعنا قليلاً وتبث برنامج الحياة على تردد قناتنا المُعطّل، تتفضل بجلالة تشاؤمك لتبيد الإمكانية وتقضي على خلايا ومسامات بواقي الأعضاء. يبدو أن المدعو رجيم سكنك بشكل أو بآخر أنت أكثر مني. المشكلة ليست في الغرفة ولا في الفراش ولا وضعية الاستلقاء ولا حتى في موجة الحر المفاجئة أو انقطاع الكهربا وشح الماء. الآن أنت الشحيح وأخاف عليك من النضوب بعد بضع خطوات، أنت عالق يا حالي بين ما كنته وما لا يمكنك أن تكونه مما يجعلك تجف تلقائياً، فأنت لا تغتذي على شيء ولا تشرب من نبع ولا تعرف النوم عيناك.
ها نحن نعود لسيرة النوم من جديد!! أتصدق كنت قد نسيت. كما أقول وأكرر "لا حول ولا قوة"، أيعقل أنني أهذي بسبب قلّة النوم؟ هل من المعقول أن غفوة ستساعدني لأطرد السواد؟ سأتخيل أنني في حافلة تسير مسرعة على طريق بحري وأنا جالس في المعقد الأول بمفردي أميل برأسي على اليمين وأضعه على الشُبّاك، محاولاً أن استنشق رائحة عشقي للبحر وذاك الشعور الذي ينتابني في كل مرة أراه وألاحقه بين الأشجار وعلى المنعطفات منذ أن كنت صغيراً حتى الآن. حيث تارة يختفي عن أنظاري وأترقب ظهوره وتارة يمشي معي مسافة طويلة فترتوي عيناي.
إنه دواؤك، لطالما كان كذلك، مضاد طبيعي للقلق وعلاج للتوتر والمخاوف والأوهام. فعلى سيرة البحر دعني أخبرك أمراً بت أختبره بزخم معك في آخر الأيام. فمنذ ثلاثة أشهر تقريباً أو أكثر بقليل، تبلور عندي فهم وإدراك جديد للزمن بمعناه الفعلي والعملي ليس الفلسفي والعلمي طبعا. وذلك ربما تبعا لحالة التغير التي نعيشها بفضل رجيم من ناحية والظروف الجديدة بعد تركك للعمل وعطالتك على حد وصفك. فقد أصبح اليوم طويل جداً وبطيء جداً والمسافة بين الأحداث بعيدة وتكرارها ممل، وانتظار حلول الليل كترقب السراب الذي لا يصل. وعلى النقيض فإنني حين أفكر وأجد أننا على مشارف الشهر الرابع من هذه الحال، أنذهل وأشعر كأنه البارحة وأنها ما زالت الساعة الرابعة عصراً لحظة التأكيد النهائي للخبر. فاليوم طويل والزمن قصير وعجبي كبير.
لا عليكِ يا نفسي، إنه الفراغ، هكذا يسمونه، مجرد وقعه يشعرك بالرعدة، كالجلاد يقف دون حراك، لا يضربك بل يعذبك جموده ووجهه المتخفّي خلفق القناع تاركاً إياك مع الظن بمن هذا السفاح وما الذي سيلقاه، وأنت تنتظر أن تبدأ بعدّ الجلدات. تدريجياً ينسلُّ معه عدو آخر يشبه السوط الذي بيد الجلاد، هو باب تدخل منه كل الآفات وتنخر في الجلد قبل الجلدات، إنه تاج الشيطان مرصوف بالأهواء وأحجاراً كريهة تزيّن تفاصيل إكليله الدنس، من هو؟ هو الكسل، أبشع اسم يمكنك أن تسمع عنه أو تحيا معه، باختصار يمكنك وصفه بأنه ما يحصل الآن معنا مثلاً، فنحن نصارع بعضنا ولا نقوى على الانتقال من غرفة لأخرى. نحن نريد وبشدة التحرك لكن لا عزيمة تشدنا. فالمحرّك الفكري والآلة التي في جوف الجمجمة تريد الكثير ويشغلها أمور كثيرة ولا تتوقف عن تسجيل وترقيم مهام بحاجة إلى حل ومسؤوليات لابد من إنهائها، أما فعلياً وعلى أرض الواقع فلا شيء يُنجز أو عملٌ يتمم ومهمة تنهى. والحرب دائرة بين الواجب والإنجاز، بين انعدام الرغبة والجدوى ضد اللازم والمعنى، بين الملل من الفضى والقرف من الضجة.
أوف... يكفي هكذا، حتى أنا أشعر بالتخمة مني ومنك ومن رجيم، منّا كلنا واحداً أم اثنان أم ثلاثة كُنّا. بالنتيجة أنا لا أعرفنا ولا أريد أحداً منّا. ولا وسطاً بيننا وسأحِن إلى قديمنا، وأركُل جديدنا، وأمضي إلى مصير رحيم كما أعدّه القدر الطيب المسالم لي، سأحِبّ رحيماً الذي يموج بخفّة على أمواج الحياة البهية.
وأخيراً، وأخيراً، إنها الخامسة عصراً، مضت تلك الساعات الثلاث الأكثر حرّاً ويأساً، ياله من كابوس قد انتهى، عهداً ووعداً لن أغيّر بعد اليوم عاداتي الجميلة، ولن أحاول أن أغفو وقت الظهيرة. سأطفئ المنبّه وأجد لنفسي أمراً آخر غير القيلولة، فأنا لا أحب أحلام الظهر ولا نجومه المستعرة.
سأمضي وراء الأحلام السعيدة، أمام الأرض الجديدة، لا مكان للنوم، وأحلامي ستجد جنّتها في اليقظة السليمة. ورجيم سيغفو أبدياً مع كوابيسه في فضاء معتم فارغ في ثقب أسود حيث لا طريق له إلينا.
وأنت يا رحيم ستبقى اسما على مسمى
……………………………………
تمّت